طريق بايدن للشرق الأوسط بين أمن إسرائيل وانتخابات الكونغرس

زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن للشرق الأوسط، التي تبدأ اليوم، تؤكد أن الدبلوماسية الأمريكية فقدت القدرة على الإبداع، وكشفت محدودية مواردها في مواجهة تحديات الحرب الباردة الجديدة، التي بدأها دونالد ترامب، كما كشفت أيضا تخبط الإدارة الديمقراطية بين «دبلوماسية القيم» و»دبلوماسية المصالح»، وانحيازها النهائي إلى مبدأ ترامب «أمريكا أولا» عندما تتعارض القيمة مع المصلحة أو المنفعة. الزيارة التي تستهدف شكليا تعزيز دور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، تقلصت أهدافها عمليا إلى مجرد الحصول من السعودية ودول الخليج على ضمانات بضخ أكبر كميات ممكنة من النفط والغاز إلى السوق، للمساعدة على سد فجوة الإمدادات بسبب الحرب الأوكرانية، وتهدئة أهم محركات التضخم، وهو أمر يمكن أن يساعد الديمقراطيين في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس. كما أضاف بايدن إلى أهداف الزيارة في المقال الذي نشرته صحيفة واشنطن بوست في بداية الأسبوع، ضمان أمن طرق الملاحة البحرية في المنطقة، حتى لا تنقطع أو تضطرب سلاسل الإمدادات التجارية العالمية. بايدن قال إن خبراء أمريكيين وسعوديين يعملون معا من أجل وضع صيغة لموضوع الإمدادات النفطية. لكن ذلك، كما قلنا من قبل، محكوم باعتبارات مصالح مجموعة «أوبك+» التي تضم روسيا والسعودية معا. وكنا قد ذكرنا أن محاولة استعادة الدبلوماسية الأمريكية لدورها المهيمن في الشرق الأوسط يضعها في مواجهة «أربع عُقَد سياسية» رئيسية، هي عقدة دبلوماسية المفاوضات الايرانية، وعقدة حل الدولتين للقضية الفلسطينية، وعقدة تطوير نظام دفاعي إقليمي يضم الولايات المتحدة وإسرائيل ودول مجلس التعاون الخليجي إضافة إلى دول عربية أخرى، ثم أخيرا «عقدة النفط» وهي أسهلها جميعا. وعلى ضوء مقال بايدن المشار إليه، أصبح من المتوقع أن يترك بايدن لإسرائيل صدارة العمل على حل العقد الثلاث الأولى، وأن يكتفي هو بمحاولة حل عقدة الإمدادات النفطية فقط.
كيف يرى بايدن زيارته للمنطقة؟ «هذه الزيارة تأتي في وقت فاصل للمنطقة وسوف أدفع المصالح الأمريكية المهمة إلى الصدارة». هكذا حدد الرئيس الأمريكي هدفه، كما جاء في مقاله، الذي يوضح طبيعة توجه السياسة الأمريكية تجاه المنطقة للمرة الأولى بعد إتمام انسحابها من أفغانستان، وتحويل مهمتها في العراق من مهمة قتالية إلى مهمة تدريبية، وبعد فرض عقوبات على السعودية مرتين، مرة لوقف التصعيد في حرب اليمن، والثانية بسبب مقتل جمال خاشقجي، الذي كان يعمل في الصحيفة التي نشرت المقال.

الزيارة التي تستهدف شكليا تعزيز دور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، تقلصت أهدافها عمليا إلى مجرد الحصول على ضمانات بضخ أكبر كميات ممكنة من النفط والغاز إلى السوق

ولأجل وضع الزيارة داخل إطار إقليمي لجأ بايدن لتخفيض مستوى مباحثاته بشأن القضية الفلسطينية من «حل الدولتين» إلى تقديم مساعدات للفلسطينيين بهدف تحسين ظروفهم المعيشية تحت الاحتلال. وهو سيجتمع مع بعض القادة العرب في نهاية زيارته، لكن إسرائيل ستكون هي الحاضر الغائب في هذا الاجتماع المرتقب، حيث أنها تملك بين يديها مفاتيح اللعبة الأمنية في الشرق الأوسط، وتمثل في واقع الأمر صاحب الرؤية والمدير التنفيذي لمشروع النظام الدفاعي الإقليمي المشترك. وسيدفع بايدن بكل ما يستطيع من قوة مسألة تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل الى صدارة مباحثاته خلال وجوده في السعودية. أما دبلوماسية المفاوضات النووية مع إيران، فإن خيارات الولايات المتحدة فيها أصبحت محدودة، مع عجزها عن الخروج من دائرة سياسة «الضغوط القصوى» التي فرضها دونالد ترامب، والتي تحظى بتأييد اللوبي الصهيوني في الكونغرس المتمدد وسط مقاعد الجمهوريين والديمقراطيين بلا استثناء. ونظرا لقرب انتخابات التجديد النصفي، فإن دبلوماسية المفاوضات النووية ستكون بمثابة «بطة عرجاء» حتى ظهور نتائج الانتخابات، ومن المرجح أن تتحول بعد ذلك الى «بطة كسيحة» عاجزة تماما عن الحركة، في حال زيادة مقاعد الجمهوريين، وهو الاحتمال المرجح، مما سيقضي على حلم أوروبا بالحصول على النفط الإيراني.
زيارة بايدن للشرق الأوسط ستكون باهتة، قليلة القيمة، لكن أجهزة الإعلام الأمريكية والصهيونية ستلجأ إلى محاولة ترويج بعض وقائعها الرمزية، مثل توجه بايدن من مطار بن غوريون مباشرة إلى مطار جده، على أنها حدث تاريخي. وكأن البشرية ستتوقف أمامه في حال انبهار. إسرائيل من الناحية الأخرى لها مصلحة مؤكدة في إنجاح زيارة بايدن، ومن ثم فإنها ستتوقف عن اتخاذ اي إجراءات استفزازية تجاه الفلسطينيين، حتى تنتهي أصداء الزيارة، ولهذا التقى بني غانتس مع محمود عباس في رام الله منذ أيام. كما أن إسرائيل معنية أيضا بتوجيه رسالة للولايات المتحدة، تفيد بأن مفاتيح اللعبة الإقليمية أصبحت في تل أبيب وليست في واشنطن. وفي هذا السياق فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد كان حريصا على إجراء سلسلة من الاتصالات الهاتفية مع عدد من زعماء المنطقة، استباقا للزيارة، سيبلغ الرئيس الأمريكي بنتائجها عندما يلتقيه في القدس قبل أن يتوجه للسعودية.
النزعة العسكرية في الشرق الأوسط، التي تتناقض مع الخطاب السياسي لبايدن حول تجنب الصراع، والتركيز على الدبلوماسية والتعاون المشترك، تسير الآن في مسارين متوازيين، الأول هو «منتدى النقب» الذي يضم حتى الآن إسرائيل والولايات المتحدة ومصر والمغرب والبحرين، والثاني هو مشروع إقامة حلف عسكري إقليمي يبدأ بإنشاء «نظام للدفاع الجوي والصاروخي» ضد إيران، يضم دول مجلس التعاون الخليجي الست مع 3 دول عربية هي مصر والأردن والعراق، إضافة إلى إسرائيل والولايات المتحدة. وتحاول الولايات المتحدة وإسرائيل تصدير غطاء أيديولوجي لهذا التحالف العسكري يمنحه هوية مذهبية «سنية» ضد «العدو الشيعي»، وهذه هوية كافية لإشعال حروب أهلية ممتدة في بعض دول الخليج، التي يضم نسيجها الاجتماعي أقليات شيعية، وفي العراق حيث توجد أغلبية شيعية، مع تأجيج الصراعات السياسية والعسكرية ذات البعد المذهبي في اليمن ولبنان، وزيادة حدة الصراع على سوريا. ويعلمنا التاريخ أن أسوأ الحروب وأطولها وأشدها ضراوة هي تلك التي تتخذ طابعا دينيا أو مذهبيا. ولا أظن أن صانعي السياسة في تل أبيب وواشنطن يجهلون ذلك.
الاستنتاج الكبير الذي نريد صياغته هنا، هو أن النزعة العسكرية المسيطرة على الأرض لن تحل مشكلات الصراع بين دول المنطقة، بل ستنتج عنها ثلاث نتائج رئيسية، الأولى هي تعميق الانقسام الإقليمي، وتبديد فرص خلق أرضية مشتركة للتعاون، بما في ذلك التعاون الإقليمي في مجالات استثمار الموارد المشتركة مثل الغاز والنفط ومصادر الطاقة المتجددة. النتيجة الثانية للنزعة العسكرية هي إطلاق سباق تسلح خطير يبتلع موارد المنطقة لمصلحة شركات السلاح العالمية. ومع إقامة حلف عسكري إقليمي سيزيد نصيب شركات السلاح الإسرائيلية، خصوصا في سوق السلاح الخليجية. أما النتيجة الثالثة فهي أن زيادة حدة الانقسام، وسباق التسلح بين دول المنطقة ستؤدي إلى خلق «فائض من العداء»، يكون كافيا لتغذية صراعات وحروب داخلية، ستمتد إلى داخل إسرائيل نفسها، وتشعل موجة عداء حارقة ضد الولايات المتحدة في المنطقة.
ماذا تريد إسرائيل؟ ترى ورقة نشرها في الأسبوع الماضي معهد دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب، أن زيارة بايدن تؤكد التزام الولايات المتحدة بأمن إسرائيل وازدهارها، وتجلب معها فرصة ذهبية للتعامل مع قضايا إقليمية مثل البرنامج النووي الإيراني، و»حملة ما بين الحروب»، وهو المصطلح الذي تطلقه إسرائيل على حربها الحالية ضد إيران، التي تشمل الهجمات على سوريا، والاغتيالات التي تستهدف قيادات في البرنامج النووي والحرس الثوري، وعمليات التخريب السيبراني في داخل إيران. كما قالت الورقة التي أعدها «تامر هيمان» المدير التنفيذي للمعهد، و»إلداد شافيت» مدير برنامج العلاقات الإسرائيلية – الأمريكية، أن الزيارة هي مناسبة لتعزيز فرص التطبيع مع السعودية. لكنها في الوقت نفسه حذرت من تباين المصالح مع واشنطن، نظرا لانشغال أمريكا بأولويات كسب حرب التنافس مع الصين، والحرب العسكرية ضد روسيا في أوكرانيا. ورجح «هيمان» و»شافيت» أن تكون لدى الإدارة الأمريكية خطة بديلة في حال فشل محاولة إحياء الاتفاق النووي. لكنهما شددا على ضرورة أن تضع إسرائيل مبكرا الخطوط الحمراء، التي لا يجب تجاوزها في الموقف من إيران، وطبيعة الردود السياسية والاقتصادية والعسكرية التي ستقوم بها في حال تجاوز تلك الخطوط. وقالا إنه يجب على إسرائيل أن تعمل مع الدول العربية على تأكيد أهمية الوجود العسكري الأمريكي في العراق وسوريا. وأكدا أن من مصلحة إسرائيل توسيع نطاق التطبيع على المستوى الاقليمي بدعم أمريكي. وتركز الورقة على نقطتين، الأولى هي الطابع العسكري للتطبيع الذي تريده إسرائيل مع الدول العربية، والثانية هي ضرورة استمرار التنسيق العسكري مع الولايات المتحدة، حتى لو كانت إسرائيل تستطيع بمفردها شن حرب على إيران.
كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Omar Ali:

    مقال جيد. لا اعتقدًانه سيكون تطبيع بين اسراءيل والسعوديه طالما الملك سلمان في الحكم.
    السعودية ستلتزم بأوبك + ولكنها لا تتمكن من مًواجهة واشنطن اذا طالبتها برفع الإنتاج . ستكون هناك زيادة في الإنتاج النفطي السعودي ولكن السعودية ستوازن علاقاتها في أوبك ًومع روسيا،
    من الًموءسف إن قضية فلسطين لم تعد من الاولًيات لكثير من الدول العربية.

إشترك في قائمتنا البريدية