طلس القلب وخرائط الشعور

حجم الخط
9

على امتداد 336 صفحة من القطع الكبير تتجاسر برينيه براون على اقتراح 87 خريطة مشاعر وعواطف وتجارب وأحاسيس ونزوات وحالات شعورية وما إليها؛ تشكّل في مجموعها ما تسمّيه «أطلس القلب»؛ عنوان كتابها الصادر مؤخراً باللغة الإنكليزية عن منشورات راندوم في نيويورك، والذي يسير عنوانه الفرعي هكذا: «رسمُ صلةٍ ذات معنى ولغةُ التجربة الإنسانية». وليس الفعل «تتجاسر» هنا سوى وجهة أولى، مبكرة، لتوصيف سلسلة المجازفات البحثية والمنهجية والميدانية، الملموسة والافتراضية، التي أزمعت براون خوض غمارها؛ وأمّا المفردة «خريطة» فإنها لم توضع داخل أقواس اقتباس إلا لأنّ رسم الخرائط يقتفي عادة خطوط الجغرافيا والطبيعة والتضاريس، الأمر الذي لن يكون مسلّماً به في ترسيم بواطن النفس الإنسانية.
والمؤلفة رئيسة قسم العمل الاجتماعي والإدارة في جامعة تكساس، ولها خمسة أعمال حظيت بقسط وافر من الترحيب والسجال والإشكال في آن معاً، كما في «إقدام البرّية» و»التجرّؤ على القيادة» و»النهوض قوياً» مثلاً؛ وكانت نتفلكس قد بثّت محاضرتها «دعوة إلى الشجاعة» في سابقة أولى لشريط غير سينمائي وغير درامي استقطب ملايين المشاهدين على الشبكة. وقد يكون خير تعبير عن ميولها الفكرية والفلسفية ذلك الاقتباس من الشاعر البلخي الأفغاني جلال الدين الرومي: «القلب بحر/ واللغة شاطئ/ وأياً كان البحر/ فإنه بالشاطئ سيرتطم»؛ حيث لا يخفى التأرجح المقصود بين لغة الداخل وعلائم الخارج، وكيف يقول المنطق التلقائي بالتقائهما وتقود الطبيعة إلى طراز من التكامل بينهما.
واهتداءً بمنطق الخرائط، ومفهوم الأطلس على وجه التحديد، توزّع براون فصول كتابها الـ13 على أمكنة نرتادها، أو بالأحرى تعبرها أو تحاذيها أو تتوقف عندها النفس البشرية كلما جابهتها عتبة شعورية أو عاطفية أو عقلية؛ على غرار الفصل الأوّل الذي يناقش التوتر والقلق والشطط والخشية والتحاشي والاستثارة والفزع والخوف والهشاشة؛ أمام الأمور غير المؤكدة أو المفرطة. وأمّا حين تسوقنا الأمور إلى أن نقارن، فثمة المفاضلة والإعجاب والتقدير والحسد والسخط والغيرة؛ وعند أمور لم نكن نخطط لها، ثمة الملل والاضطراب والفضول والاهتمام والمباغتة والإحباط والاستسلام والتثبيط. في الأماكن التي تضعنا إزاء ما هو أبعد منّا، هنالك العجب والتشوّش والمفاجأة والحيرة؛ وأماكن الأمور التي ليست كما تبدو عليه، ثمة الاستغراب وخيبة الأمل والمرارة/ الحلاوة ونظيرتها الحلاوة/ المرارة والنوستالجيا واليقظة المعرفية والمفارقة والسخرية…

اهتداءً بمنطق الخرائط، ومفهوم الأطلس على وجه التحديد، توزّع براون فصول كتابها الـ13 على أمكنة نرتادها، أو بالأحرى تعبرها أو تحاذيها أو تتوقف عندها النفس البشرية كلما جابهتها عتبة شعورية أو عاطفية أو عقلية

وكما في الاستهلال الدالّ من مولانا جلال الدين، لا تخفي براون أنها رحّالة أصقاع داخل أطلس القلب، بقدر ما هي في الآن ذاته راسمة خرائط شعورية؛ لكنها (لحسن حظّ قارئ متمرس يرتاب ويتشكك ويُسائل ويتساءل…) لا تعلن أيّ نزوع، ولا أي مقدرة، على اقتراح إجابات تسهّل وعثاء السفر أو تعبّد الطرقات إلى الأماكن. «لديّ معطيات، وأنا استخدمها لتخطيط مسار أشارككم في اقتفائه وأحاول الإبحار على مستوى شخصي في الآن ذاته» تكتب براون؛ وتضيف من دون تردد: «ليس في حوزتي ما يرتسم بوضوح يجعلني أوصي به، ومعظم أبحاثي فاجأتني أنا أوّلاً، ورفستني في المؤخرة!» وهذا أغلب الظنّ إقرار ذو طابع منهجي يليق به التفهّم، قبل أن يكون بوحاً اعترافياً.
إقرار آخر جدير بالتثمين، وكان القارئ الحصيف سيدركه في كلّ حال لو أنّ براون لم تعلنه، هو أنها خلال ثلاث سنوات من العمل على الكتاب أساءت استخدام اللغة، بوصفها وسيلة أولى في ترسيم الخرائط، عن سابق وعي أو عفو الخاطر؛ وهي، تالياً، عانت من «سوء فهم عميق» للعديد من المفاهيم المرتبطة بقراءة المشاعر والحالات والعواطف، وكان هذا بدوره مآلاً تلقائياً أو لا مفرّ منه. وفي جانب قد يكون الأهمّ خلف أيّ توظيف سلوكي تعليمي يمكن لكتاب براون أن ينطوي عليه، تطرح الخرائط الـ87 سؤالاً مشروعاً ومطلوباً وحيوياً: كم من الخرائط غابت عن الأطلس الذي تقترحه المؤلفة، إمّا لأنها عجزت عن تلمّسها وبالتالي ترسيمها، أو لأنها فشلت في بلوغ تضاريسها، أو حتى لأنها أغفلتها عن سابق قصد؟
وما دام المرء في نطاق الأطالس والخرائط، فإنّ الدراسات الجغرافية المعاصرة عموماً، وما بعد الاستعمارية منها بصفة خاصة، لن تجد كبير عناء في مساءلة براون عن أيّ أطلس تتوضّع عليه خرائطها: أهو في أوروبا، آسيا، أفريقيا، أمريكا؟ أهو في عوالم متقدمة مصنّعة مرفهة، أم في أخرى فقيرة نامية جائعة، وديمقراطية وليبرالية أم استبداد وطغيان، وفي أيّ شروط بيئية/ إنسانية…؟ لا تتقصد براون وأد تلك الأسئلة، لكنها تلتفّ حولها مراراً وبذكاء أحياناً أو بقصور أحياناً أخرى؛ حتى أنّ قارئها، المتمرّس المتفحص إياه، لا يفلح من جانبه في ترسيم تضاريس جلية ذات انحيازات جغرافية أكثر جلاء، وثمة هنا ما يُضعف قسطاً غير قليل من حجج الكتاب، وما يُفقده قسطاً (ضئيلاً هذه المرّة) من جاذبيته العالية.
وتلك جاذبية قراءة تبدأ من فهم أسباب ارتسام تلك الخرائط في الأجساد (وهذا مستوى بيولوجي) كما في النفوس (حيث السيكولوجي) وفي السلوك والسيرة والحلقة الاجتماعية وأنساق التفكير والانضباط والتمرّد والانعتاق والانضواء؛ إذْ حين تضيق مساحة الأفق، ينحو الآدمي إلى توسيع حدقة الرؤيا واستبصار الشواطئ، غريزياً ربما.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول هالا الناجي:

    يعطيك العافيه ..
    أكاد اجزم بأن جغرافيا الخرائط اليوم باتت أكثر اتساعا وتغلغلا داخل علوم الفلسفه وسيكولوجيا النفس البشريه …
    وهذا الكتاب ربما يحاجة لوقفه نعيد فيها الوعي بالخرائط الشعورية وطرق ادراكها.
    وكنت أتساءل ان كان استخدام الخرائط هنا هو أداة بحث وتقصي أو كان التخطيط الخرائطي هو لب الموضوع!

    تحياتي

  2. يقول حمّودان عبدالواحد:

    البحر والقلب، والشاطىء واللغة / 1
    ———
    يقول جلال الدين الرومي: «القلب بحر/ واللغة شاطئ/ وأياً كان البحر/ فإنه بالشاطئ سيرتطم”. وفي تعليقه، يسجّل صبحي حديدي :” لا يخفى التأرجح المقصود بين لغة الداخل وعلائم الخارج” ليدفع بالقارىء إلى الوقوف على فهمه العميق وشرحه النافذ للكلام الروحي في بعده الشعري الرمزي. وهو ما يدعو الى محاولة تأمل منّا متواضعة قد تنتهي بنتيجة غير منتظرة في نهاية الامر. فكيف يمكن فهم هذا التارجح بين البحر والشاطىء، وقياسا عليهما بين القلب واللغة؟

  3. يقول حمّودان عبدالواحد:

    البحر والقلب، والشاطىء واللغة / 2
    اذا كان ما يسعى اليه الاِنسان حين يتكلّم هو إيصال أفكاره ومشاعره إلى الآخرين أو فقط للتعبير عنها وجهًا لوجه أمام مرآة نفسه حتى يتخلّص من الضغط والارتطام النفسي، فإنّه يطمح جاهداً ومتأكدًا في آن واحد أنّه لن يستطيع نقل كل ما يريد أن يعرب عنه من حس وحدس، وشعور وانفعال، وتفكير وتدبير ونظر ..
    وحالة العجز هاته في ترجمة الافكار والخواطر والاحاسيس والمشاعر بشكل تام كلّي وحرفي كما لو كانت مسألة الإفصاح بواسطة العلامات (اللغة بكلماتها وجملها ومواردها الاسلوبية والبلاغية وكل امكانياتها التعبيرية ..) عملية أو معادلة رياضية، ظاهرة تنتمي إلى موضوع ” عدم الكمال ” الذي اشتغلت عليه الامريكية بريني براون Brene Brown ، المختصة في الشؤون الاجتماعات، في كتابها الشهير ” نعمة عدم الكمال ” بالانجليزية The gifts of imperfection ، المنشور لاول مرة سنة 2010 والمترجم الى العديد من اللغات ومنها الفرنسية والعربية.

  4. يقول حمّودان عبدالواحد:

    البحر والقلب، والشاطىء واللغة / 3
    بالعودة الى “القلب بحر واللغة شاطىء” حسب تعبير الرومي، فإنّ الامر كما قررت الطبيعة تلقائيا – أو بمشيئة الخالق- هو اَنْ لا يكون بين البحر الذي هو القلب حسب الرومي (وقد يعني به أيضًا العقل، وهذا هو المنطق المتميّز للعربية التي لا تفصل في فلسفتها اللغوية بين القلب والعقل) والشاطىء الذي هو اللغة اِلّا التأرجح أي حركات ذهاب وإياب مستمرة ولامتناهية بين اللغة والانسان، بين الكلمات والجمل والصيغ والتآليف والتراكيب والصور ، وبين الكلام النفسي وآلام الجراح كما ذهب إلى ذلك ابن جني في كتابه الخصائص حينما قال: ” واِنّما الكلام من الكلِم”. وبينما كان اُسلوب الحصر في تقريره وسيلة لغوية لجذب الانتباه الى “الكلم” باعتباره النقطة المركزية في الخطاب ، جاء حرف الجر “مِنَ” للتأكيد على فكرة الكلم ك”جزءٍ” أو ك”بعضٍ” من كلٍّ هو القلب على أساس أنّه بيت المشاعر والعواطف والأحاسيس. وتبعا لهذا ، يكون سببُ الكلام أو مصدر ُاللغة هو التعبير عن كلّ تلك الظواهر النفسية والحقائق الداخلية الخاصة بعالم القلب. ليتذكّر القارىء ما تركه لنا الشاعر بصدد هذه المسألة ، ألم يقل ؟:
    إنَّ الْكَلَامَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا …
    جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلًا

  5. يقول الثائرة السورية:

    ما يقوله المعلق حمودان عبدالواحد قد يكون “صحيحا” عندما يُوضع بصيغة نقيضه الكامل – هذا حقيقةً من الأسباب الجوهرية الخطيرة التي أدت إلى توقُّف التفكير الفلسفي كليا عند العرب إن كان يدري أو لا يدري !!؟

    1. يقول سميحة الحلواني - تونس (حاليا):

      أحسنت أيتها الأخت الثائرة السورية ، خير الكلام ما قل ودل ، وإن اللبيب بالإشارة يفهم !!!؟

  6. يقول يقظان الأغبر:

    كتابها الشهير ” نعمة عدم الكمال ” بالانجليزية The gifts of imperfection إن الترجمة الدقيقة هي : العطاء غير المكتمل.وليست : نعمة عدم الكمال.

  7. يقول غياث الجلوب:

    وإن اللبيب بالإشارة يفهم..هذه العبارة يستخدمها اخي وصديقي العزيز حي يقظان.تحياتي لسميحة الحلواني ولكافة
    المعلقين.

  8. يقول درغام النقيط بن نُغَيْل (الملقب بالمجلوب):

    الترجمة حقيقة لا هي «نعمة عدم الكمال» ولا هي «العطاء غير المكتمل» رغم أن الأولى أقرب إلى المعنى المراد وأن الأخيرة انحراف سافر عنه ولا يقر بها إلا من يقر بعجزه اللغوي. فللغة العربية مطواعية معجمية وصرفية متميزة عن سائر اللغات الحية، وهي بالتالي قادرة على منح ترجمتين مقاربتين على أقل تقدير:
    «هبات اللاكمال» (وهي الترجمة الأقرب معنويا وحتى حرفيا)
    «إنعام اللاتمام» (أو «القصور» برأي ابن خلدون مقابل «التمام» وكلامه عن الملكة اللسانية)
    وكل هذا تعلمته من سيدي وأستاذي حي يقظان فله كل الشكر وأقبل يديه وقدميه احترام التلميذ الصغير لأستاذه القدير

إشترك في قائمتنا البريدية