طهران وواشنطن: دراما التهدئة والتصعيد

بعد أسابيع طويلة من التشويق والحماس وتبادل عبارات التهديد والوعيد بين الولايات المتحدة، التي بدت متأهبة لحرب حقيقية، وإيران، تغيّرت اللغة بين الجانبين ليقول الأمريكيون إنهم لم يكونوا يسعون بجدية إلى الحرب، وأن الغرض من كل تلك الاستعدادات، بما فيها إرسال حاملة الطائرات الضخمة إبراهام لينكولن وإعادة نشر صواريخ باتريوت، كان مجرد التذكير بالقوة الأمريكية وقدرات واشنطن العسكرية، أي أن الغرض كان استعراضاً للقوة بهدف ردع إيران عن القيام بأي فعل عسكري غير محسوب العواقب.
إيران بدورها عبّرت عن قناعتها من خلال مسؤولين سياسيين وعسكريين، بأن هدفها ليس إشعال حرب، كما نفت بشدة نيتها خوض صراع مع دول المنطقة، خاصة جوارها الخليجي، بل مضت أكثر من ذلك للحديث عن مد يدها للحوار والتعاون مع جيرانها، بما يخدم المصالح المشتركة للجميع، من دون أن تنسى هي الأخرى التذكير بقوتها العسكرية، التي إن كانت لا تقارن مع القوة الأمريكية التي تفوقها بحسب بعض التقديرات بحوالي السبعين ضعفاً، إلا أنها قادرة على تنفيذ ضربات موجعة ومدمرة، قد تعرض أمن المنطقة، بما يشمل مصالح الولايات المتحدة الإقليمية، للخطر.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يعرض فيها على مسرح العلاقات الدولية ذلك المسلسل الدرامي المتعلّق بحرب وشيكة بين معسكر الشر، بحسب المنظور الأمريكي لإيران، والشيطان الأكبر، بحسب نعت كلاسيكي كانت توصف به أمريكا من قبل القيادات الإيرانية. منذ نجاح الثورة الخمينية وكشفها عن أيديولوجيتها المعادية للغرب، مروراً بحادثة احتجاز الدبلوماسيين الأمريكيين، ونهاية بأحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، كانت طبول الحرب تقرع بين الطرفين، لكن الحرب التي كثيراً ما أعلن عنها لم تنشب أبداً. كانت الولايات المتحدة تفضّل عوضاً عن دخول حرب تقليدية استراتيجية، الضغط والاحتواء عبر العقوبات القاسية والمراقبة اللصيقة. نجحت هذه الاستراتيجية في تحجيم الدور الإيراني، الذي يستطيع أن يتمدد كقوة إقليمية مهددة للدول المجاورة، لكن لا يستطيع أن يتجاوز ذلك لحد أن يكون مؤثراً وفاعلاً على المستوى الدولي. هذا «التمدد المحسوب» سمح للإيرانيين بأن يكونوا رقماً لا يمكن تجاوزه في الإطار الخليجي، فغضّت الولايات المتحدة، لأسباب معروفة، النظر عن نشاطات إيران العسكرية، بل ساهمت في تضخيم دورها، عبر قيامها بدعاية مجانية لنظام الولي الفقيه وللحرس الثوري الإيراني الذي زعمت أنه يمتلك القدرة على تشكيل تهديد كبير على الحلفاء، وعلى الأمن والسلم العالميين. مع كل هذا، فإن الولايات المتحدة لم تقم بأي خطوة جادة لمنع هذا التمدد الإيراني، سوى بيع مزيد من الأسلحة للأطراف المتخوفة منه، على العكس من ذلك نسّق الأمريكيون بشكل معلن مع طهران، قبيل وبعد غزو العراق وأفغانستان، وهي العمليات الأمريكية التي أكسبت النظام الإيراني مزيداً من القوة على الصعيدين الإقليمي والدولي.
يحدث أحياناً أن ترتبك حسابات ذلك التمدد المحسوب، فتظن إيران أنها قادرة على تجاوز نطاقها المرسوم، فما يكون من الأمريكيين إلا أن يعمدوا إلى قلب الطاولة والقيام بإجراءات قاسية تجاههم، كتشديد العقوبات التي تبدو في بعض الأحيان بلا هدف سوى توجيه ضربات موجعة لعمق الاقتصاد الإيراني، بما يجعله يعيد تعريف أولويات إنفاقه. يمكن فهم الانسحاب الأمريكي من «الاتفاق النووي» كذلك على أنه جزء من هذه الاستراتيجية التي تضع طهران في موقع هجين واستثنائي، فلا هي عدو معلن يتم توجيه الضربات نحوه، كما فعلت واشنطن مع غيرها من الدول التي كانت ترى أنها مزعجة حقاً، ولا هي صديق يتم التعامل معه بشكل طبيعي. في هذا الموقع الهجين تقترح الإدارة الأمريكية إعادة التفاوض على أسس جديدة في ما يتعلق بالاتفاق النووي، بل يذهب الرئيس ترامب لحد القول إن كل هذه الإجراءات إنما تهدف لدفع طهران مجدداً لطاولة التفاوض. في هذا نذكر الخطوة الرمزية المتمثلة في إرسال الرئيس ترامب رقم هاتف خاص لسفارة سويسرا في طهران لتلقي المكالمات الإيرانية. المشكلة هي أن هذا المقترح الذي يبدو كحل وسط بين التصعيد والتطبيع، يقابل من قبل الإيرانيين برفض محكم، فهم يعتبرون أنه سيعيد الأمور مرة أخرى لمربعها الأول، وأنه يسحب من طهران جميع الامتيازات التي ضمنها الاتفاق السابق، إضافة إلى ذلك يقول الإيرانيون أن لا شيء يمنع، حتى بعد التوصل لاتفاق جديد، أن يقوم الأمريكيون بنقضه مجدداً، سواء كان ذلك في عهد هذا الرئيس أو أي رئيس آخر قادم بعد الانتخابات الرئاسية.

الولايات المتحدة تفضّل عوضاً عن دخول حرب تقليدية استراتيجية، الضغط والاحتواء عبر العقوبات القاسية والمراقبة اللصيقة

يمكن فهم أسباب الموقف الإيراني الرافض لإعادة التفاوض، لكن السؤال هو: هل تملك طهران خياراً آخر غير الإذعان، خاصة بعد وضوح تخلي شركائها الأوروبيين عنها تحت وقع الضغوط الأمريكية؟ من ناحية المكاسب، فلا مكاسب حالية للاتفاق النووي، بعد أن نأت الولايات المتحدة بنفسها عنه، فلم تعد الاستفادة من مليارات الدولارات التي كانت ستتوفر كجزء من المشاريع الاستثمارية الكبرى التي وعدت بها شركات ومستثمرون أوروبيون، لم يعد جميع ذلك وارداً، بل تراجعت طهران لمرحلة ما قبل الاتفاق، مع شروع واشنطن في الضغط من أجل إجبار المجتمع الدولي، بما فيه دول مهمة بالنسبة لإيران كانت مستثناة من حظر استيراد النفط، على تنفيذ ما بات يعرف بتصفير عائدات النفط الإيراني، وهو الأمر الذي ستكون له انعكاساته الداخلية، حيث ستتزايد وطأة الأزمة الاقتصادية التي هي حاضرة فعلاً، والتي ظلت الجمهورية الإيرانية تعاني منها عبر السنوات الأخيرة، ما تسبب بموجات من الاضطرابات والاحتجاجات. لا يمكن لأحد أن يخمّن النتيجة النهائية لاندلاع أي حرب أو خريطة الحدود التي ستشملها، خاصة إذا كانت حرب وجود يتمسّك فيها كل طرف بجميع أوراقه، بغض النظر عن أخلاقيتها، من أجل البقاء. هذا هو ما جعل عدداً من دول المنطقة تعتبر اللجوء إلى الحرب أمراً غير مرغوب فيه يجب العمل على منعه.
الوضع الآن يبدو أشبه بذلك الذي ساد إبان الأزمة مع كوريا الشمالية: تصعيد لغوي متبادل، يصل مرحلة من القوة تشعر الجميع بالترقب، ثم تتلوه مرحلة أخرى تغلب عليها لغة التهدئة والعقلانية. هذه المعادلة الدقيقة تبدو مدروسة ومتفقا عليها، فأي تصعيد في وقت غير مناسب يبدو مرفوضاً، وكذلك أي تهدئة في غير محلها قد تفهم على كونها تراجعاً وضعفاً، لكن هذه المعادلة، ومثلما لم تمنع إيران من الاعتداء على ميناء الفجيرة الإماراتي، وعلى تنفيذ الحوثيين لضربات متهورة في العمق السعودي، فإنها قد لا تمنع أن يتجه الأمريكيون للقيام بضربات ذكية ومحددة، بل إنه لا شيء يمنع الأمريكيين في الواقع من الاتجاه لضربات موسعة، خاصة إذا استشعروا خطراً حقيقياً على مواقعهم الحيوية، خاصة مع وجود أشخاص مثل الرئيس دونالد ترامب ومستشاره جون بولتون على هرم القيادة.
في تعليق له حول الموضوع يقول المرشد الأعلى علي خامنئي أنه لن تكون هناك حرب مع الولايات المتحدة، لكن لن تكون هناك مفاوضات. هذه الإجابة تبدو حاسمة وشعبوية، لا حرب ولا تفاوض، لكن إلى أي حد يمكن أن تكون واقعية، وكيف يمكن ألا تتناقض مع دعوة أطراف إيرانية أخرى، مثل رئيس لجنة الأمن القومي في البرلمان، الأمريكيين إلى الحوار؟
كاتب سوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية