لم يكتب هذا القلم في تاريخه إلا ما يعتبره حقا وصدقا، ومن دون طلب لرضا سلطة، أو انزلاق إلى نفاق جماعة، وقد اختلفت ـ ولا أزال أختلف ـ مع قيادة الإخوان إلى يوم يبعثون، وأحمل هذه القيادة البائسة مسؤولية أساسية عن قتل المئات من شباب الإخوان، الذين دفعتهم إلى مصادمات مدبرة مع سلطات الأمن، في حوادث دار الحرس الجمهوري والمنصة واعتصامي ميدان النهضة، وإشارة رابعة العدوية، وبما أدى إلى مآس ومجازر دم مفزعة، لا نبرئ سلطات الأمن منها تماما، فقد استخدمت القوة المفرطة في كثير من الأحيان، وفي سياق غضب شعبي جارف، يتعامل مع جماعة الإخوان كأنهم ‘طائفة منبوذة’، ولا يلتفت إلى دواعي الدين والأخلاق والضمير، ويتساهل في حرمة الدم التي هي أشد عند الله من حرمة الكعبة المقدسة.
وما من ضمير حي يقبل ـ بالطبع ـ حكم القتل خارج القانون، لا نفرق في الدم، لا نفرق بين دم شباب الإخوان ودم المسيحيين المصريين، ولا نفرق بين دم الأهالي ودم الضباط والجنود في الجيش والشرطة، وقد سقط المئات من الضباط والجنود في المعركة مع جماعة الإرهاب اللصيقة بقيادة الإخوان، ومن دون أن يبادروا بطلقة رصاص واحدة، وكما جرى في مذبحة قسم شرطة كرداسة، التي سقط فيها ضباط كبار من الشرطة، وجرى التمثيل بجثثهم في انحطاط ووحشية وخسة لا مثيل لها في التاريخ المصري، فكل الدم المصري حرام، ومصر ليست ـ ولن تكون أبدا ـ بلدا لحرب أهلية، والعنف الذي شهدته مصنوع ومفتعل، ولا يقوم على أساس أخلاقي أو سياسي مقبول، والادعاء بالدفاع عن شرعية أو ديمقراطية لا محل له من الإعراب، فلم تكن قيادة الإخوان أبدا من النوع الذي يحتسب في خانة السعي للديمقراطية، ولم تكن نصيرة لفكرة الثورة في أي وقت، والرئيس الإخواني ـ المعزول ـ محمد مرسي لم تكن له أي شرعية حين سقط، لم تكن له شرعية الرضا العام وقت أن ذهب إلى قصر الرئاسة، ثم سقطت عنه شرعية الفوز الانتخابي منذ أن أصدر إعلانه الديكتاتوري المنكود في 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2012، الذي أعدته له قيادة الإخوان البائسة، ثم وضعت عليه توقيعه، وحتى تحوله من رئيس كان منتخبا إلى حاكم بأمره، أو بأمر مكتب الإرشاد، الذي تصور أن مصر وقعت فريسته، وإلى عشرات، أو ربما إلى مئات الأعوام، وقد استهان هؤلاء بمصر فرمتهم إلى أسفل سافلين، وفي ثورة شعبية عظمى اتصلت موجاتها المتلاحقة على مدى ثلاثين شهرا، من 25 كانون الثاني/يناير 2011 إلى الثلاثين من حزيران/ يونيو 2013. وشرعية الثورة فوق كل شرعية مدعاة، حتى لو كانت شرعية تصويتات انتخابية جرت في لحظات فوات عقلي ووجداني عابر، وقد كانت محنة حكم الإخوان القصيرة العمر فرصة هائلة لتطوير الثورة نفسها، فقد أزاحت الغشاوة عن الأبصار، وحولت حزب الإخوان من حزب أكثرية إلى جماعة أقلية، ونزلت بشعبية الإخوان إلى مستويات عظيمة التدني، وهو ما قلناه لقيادة الإخوان مرارا وتكرارا، ونصحناهم باللجوء لانتخابات رئاسية مبكرة، تنهي حكمهم الفاشل بامتياز، وبطريقة ديمقراطية ونظامية جدا، ومن دون أن نريق ما تبقى لهم من ماء الوجه، لكنهم عصبوا أعينهم عن رؤية الحقائق الناطقة، وأخذتهم العزة بالإثم، وتلبستهم حالة من الإنكار المرضي، وأصابهم الغرور، ودهمتهم العجرفة، إلى أن جرى ما جرى، وانحازت قيادة الجيش إلى أعظم ثورات التاريخ الإنساني، وعزلت مرسي كما خلعت مبارك، فلم يكن حكم الإخوان ـ ولا أقول حكم مرسي ـ سوى تكرار باهت وهزلي لحكم جماعة مبارك، وهو ما يفسر حرص قيادة الإخوان على رفض المحاكمات الثورية لجماعة مبارك، وتفضيل ما سمته بالمحاكمات العادية، وهي تعرف يقينا أنها ستنتهي إلى تبرئة الرئيس المخلوع، ربما لأنها كانت تدرك ـ بالغرائز ـ أن تبرئة مبارك ضمانة لتبرئتها هي نفسها في ما بعد، حين يحل عليها الدور التاريخي، وينتهي ‘مرسيها’ إلى مصير مبارك.
وبعيدا عن حساب الأخلاق الذي يجرم ويحرم كل دم، فقد سقطت قيادة الإخوان في وحل سياسة تحطم كل معنى للأخلاق أو الدين، فلم تملك شجاعة الاعتراف بالخطأ والعجز والتسليم بالهزيمة، واستعدت شعبا كشف عوراتها، استعدت الشعب الذي أرادت أن تحكمه، فلما استعصى عليها الحكم، أرادت أن تقتل الشعب، حتى لو ضحت بكل شباب جماعة الإخوان في ميادين الدم، وواصلت الكذب السياسي والكذب باسم الدين، وحولت الكذب من عادة إلى عبادة، ثم أضافت نزعة القتل إلى نزعة الكذب، وبدا مشهد قيادة الإخوان ‘شمشونيا’ بامتياز، لكنها بدلا من أن تنتحر هي، لجأت إلى نحر أتباعها، وإلى غسل ذنوبها بدم شباب الإخوان، واستعبدتهم بدعوى السمع والطاعة، بينما لا سمع ولا طاعة تجوز لغير الله ورسوله، ولا طاعة في معصية الله، وقد انطوى خطاب قيادة الإخوان فوق منصة رابعة العدوية على معاصي وآثام عظيمة، وعلى فساد ظاهر خارج عن أصول الاعتقاد الإسلامي، خذ عندك ـ مثلا ـ ما أشاعوه عن ظهور سيدنا جبريل في اعتصام رابعة العدوية، بينما يعرف أبسط المسلمين ثقافة أن سيدنا جبريل هو ملاك الوحي، وأنه لا وحي ينزل من السماء بعد الوحي الذي حمله جبريل للنبى محمد خاتم المرسلين، وخذ عندك ـ مثلا ـ دعوى أن محمد مرسي كان إماما في صلاة حضرها من خلفه النبي محمد صلى الله عليه وسلم شخصيا. ولم تخجل قيادة الإخوان من سوق التخاريف وروايات التجديف، فقد أرادت أن توهم شباب الإخوان بأنهم يجاهدون في سبيل الله، بينما قيادة الإخوان تصد عن سبيل الله، وتستنفر شبابها في سبيل مرسي والكرسي، وهي تعرف يقينا أنه لا عودة لمرسي، ولا عودة للإخوان إلى الكرسي بأي سبيل شعبي أو ديمقراطي، وكل ما أرادته هو افتعال صورة الضحية، ودفع الشباب إلى المقتلة، واصطناع مظلومية تتسول بها عطف القطاع الأوسع من المصريين المعرض عن الإخوان. كانت القصة كلها مدبرة، ولا أثر فيها لغضب عفوي أو تلقائي، وأرادت منها قيادة الإخوان أن تحمي رأسها، وأن تنجو من غضب قواعد الإخوان المصدومة من الفشل المذهل، أرادت قيادة الإخوان أن تستدير بغضب قواعد الإخوان المنقادة إلى عنوان آخر، وأن تحرق البلد وتقتل الناس عوضا عن فشلها في حكمهم، وهنا ظهر الوجه المخفي لقيادة الإخوان، الذي أخفته بتلال من ‘الماكياج’ الديني والسياسي. ظهر الوجه الإرهابي على حقيقته بغير الرتوش، واعترف أحد قيادييها ـ من فوق منصة رابعة العدوية ـ بروابط العروة الوثقى بين الإخوان وجماعات الإرهاب في شرق سيناء، ووضعت القيادة البائسة خطة الانتحار ‘الشمشوني’ قيد التنفيذ، وجعلت ساعة الصفر في توقيت فض الاعتصام المسلح، ففي ذات اللحظة، وبالدقيقة والثانية، انطلقت عناصر التنظيم السري المسلح تدمر وتحرق وتقتل، وبنمط بدا متكررا بالحرف في طول البلد وعرضه، ومن دون شذوذ عشوائي عن خطوط بدت محددة بدقة، وشملت ـ على ما نعلم ـ قتلا عشوائيا لكل من يصادف في الطرقات، وحرق لأقسام الشرطة ودواوين المحافظات ومجالس المدن، وتدميرا وحشيا للكنائس والمتاحف والمكتبات العامة، كان تصور قيادة الإخوان أنها تنفذ عصيانا مسلحا أو انقلابا مسلحا، وأنها تشيع الفوضى، وتستولي على السلطة، وبذات خطة الانقلاب التي جربتها ‘الجماعة الإسلامية’ قبل أكثر من ثلاثين سنة، حين اغتالت السادات على منصة العرض العسكري، ثم ذهبت لاقتحام مقار الشرطة وقتل الضباط والجنود، وقد فشلت الخطة الساذجة وقتها، تماما كما فشلت خطة الإخوان المطورة هذه المرة، فليس بوسع أي جماعة أن تناطح الدولة المصرية باختيار اللجوء إلى العنف.
وباختصار، فقد ظلمت قيادة الإخوان أهلها، أشعلتها نارا تحرق شباب الإخوان قبل غيرهم، وتعزلهم عن الشعب الذي صار يخافهم وينبذهم، ويتساهل في دمهم، وقد آن لشباب الإخوان المظلومين أن يعرفوا حقيقة الظالمين، فليست قوة السلطات المفرطة هي وحدها التي تظلم، بل الظالم الأصلي اسمه ‘الغباوة المفرطة’ لقيادة الإخوان، واللهم قد بلغت، اللهم فاشهد.
‘ كاتب مصري
بعد يوم من الاعتقال والتعذيب شهدنا فيه محاولة اغتصاب بعد أن كدنا أن نُقتل، أفرجوا عنا.
لم يكن لنا أن نخرج من دون تدخل السفارة الألمانية، أما بالنسبة للمساجين الباقين فلا أعرف عنهم أي شيء، فهم لم يكونوا من ألمانيا!.
“العبء يزول عن كاهلك عندما تدرك أنك لن تحترق حتى الموت في سيارة ترحيلات تابعة للشرطة المصرية، لكن على الرغم من ذلك، مشاهدة محاولة اغتصاب بعد ذلك بلحظات يريك مباشرة حقيقة الوضع الذي تعيشه، وهو -في حالتي- أنك سجين في القاهرة أثناء أكثر الاشتباكات دموية في تاريخ مصر الحديث”.
هذا ما بدأ به الصحفي الألماني “سباستيان باكوس” شهادته على اعتقاله في القاهرة في ميدان التحرير، أثناء الفض الدموي لاعتصام رابعة العدوية.
يتحدث “سباستيان” أنه أراد وصديقه الذهاب لميدان التحرير قبل المساء، وعند رجوعهم، وقبل وصولهم إلى الفندق الذي يستقرون به، اختطفتهم قوات الأمن “لاختراقهم حظر التجول”، خاصة مع حملهم خوذة للحماية وقناع غاز، وعدم حصولهم على التصاريح الصحفية اللازمة من المخابرات العامة والمخابرات الحربية وأمن الدولة والتي أعلنت عنها السلطات المصرية قبل ذلك بأيام كأوراق لازمة للعمل في مصر.
“بعد اعتقالي بقليل تلقيت اتصالا من شخص في السفارة الألمانية يخبرني أنه سيطمئن علينا في الغد، وعندها أدركت أننا سنقضي الليلة في قسم الشرطة”، يتابع “سباستيان”: “أعطونا قطعة جبن ضئيلة جدا، كما أجبرونا على الاستماع طوال الليلة التي لم ننمها لصرخات قادمة من الدور السفلي (لأشخاص يُعذبون على ما يبدو).
صباح اليوم التالي انتظرنا اتصال ممثل السفارة، إلا أننا لم نعثر له على أثر، طلب صديقي استخدام الحمام، وفجأة وجدنا الجنود يدفعوننا، لا إلى الحمام، ولكن إلى الدور السفلي الذي كانت أصوات الصراخ تأتي منه طوال الليل.
أوقفنا الجنود في ردهة تطل على أربعة أبواب لا تحجب عنا رائحة العرق “الشرسة” التي تأتي من خلفهم، وفجأة فُتحت أبواب ثلاثة، رأينا خلف كل واحد منها زنزانة مساحتها تقارب ١٥ مترا مربعا، وبكل واحدة عددا غير محدود من المساجين الذين يقبعون في ظلام دامس. لم تكن هناك نافذة في أي من الزنازين.
بدأ الجنود في المناداة على المساجين، وعندها بدأوا في الخروج واحدا تلو الآخر، كانوا يجدون صعوبة حقيقية في فتح أعينهم عقب تعرضهم للضوء، العديد منهم كانوا يعانون من كدمات واضحة ورضوض في وجوههم وحول عيونهم. وبحدة شديدة بدأ الجنود في تقييدنا مع أكثر من ٣٠ شخص آخرين، وبدأوا بالصراخ علينا وبضربنا بشكل هستيري، وقبل أن يدفعنا الجنود مرة أخرى لأعلى، ألقيت نظرة على الزنزانة الرابعة فلمحت امرأة تهدهد طفلا.
قبل أن نُساق لخارج قسم الشرطة، تمكنت من التحدث مع سجين سوري لدقائق. المعتقل السوري يقبع هنا منذ ٢٠ يوما، لم يحصل على أي طعام خلال الأيام الثلاثة الأولى، كما أنهم لم يسمحوا له بالتواصل مع عائلته أو بإخبارهم عن مكان احتجازه. أخبرني الرجل أنه قبل اعتقاله كان قد قدم إلى القاهرة مع زوجته وابنه هربا من الحرب التي تشتعل بها سوريا.
بعد قليل من خروجنا بسيارة الترحيلات، علقت السيارة داخل ازدحام القاهرة، وعندها بدأت الحجارة التي يلقيها متظاهرون غاضبون تصطدم بجوانب السيارة المعدنية ، بعدها بثوان بدأنا نسمع صوت إطلاق نار، وعندها ألقينا بأنفسنا على أرض سجننا المتنقل، بالتأكيد لو أن أحدا فكر في إلقاء زجاجة مولوتوف، كنا لنحترق جميعا في السيارة.
عندها تحرك السائق بشكل عنيف للغاية وقاد السيارة فيما يبدو أنه الرصيف، لأن الأرض كانت تهتز بشكل شديد جدا، كنا نُلقى من طرف السيارة لطرفها الآخر، وبعد ذلك بقليل استوت السيارة على الطريق مرة أخرى.
ذهبوا بنا لقسم شرطة آخر، لم نظل هناك طويلا، وبعدها تحركنا في سيارة أخرى مع تسعة سجناء، وعندما ركبنا في السيارة كانت هناك امرأة شابة معنا، وبعد دقائق من تحركنا بدأ الرجل الجالس أمامها بالتحرش بها جسديا. بدأت وصديقي بالصراخ محتجين، لكنه لم يلتفت إلينا.
ظل الرجل يحاول أن يمسك بقدميها، وبعدها أمسك بصدرها، ثم حاول أن ينزع عنها حجابها، ثم أمسك برأسها بعنف صادما إياه بجدار السيارة، وبعد أن أدرك أنه لن يستطيع أن يحصل منها على ما يريد، بدأ يضربها بشكل عنيف ويائس.
لاحظت عندها أن الرجل كان يرتدي ضمادات على يديه وقدميه، لكنه لم يكن مُقيدا مثل الباقين، كما إنه كان الشخص الوحيد الذي من المسموح له أن يتكلم مع الضباط من غير أن يعاقبوه لاحقا.
حاول الشخص الجالس بجوار الفتاة أن يساعدها، إلا أن الرجل المهاجم أزاح ضمادته عن سكين أخفاها، ثم طعن الشخص الذي حاول مساعدة الفتاة مخترقا يده. بدأ الجريح في الصراخ مع مشهد الدماء تغرق السيارة، ولم يهدأ إلا بعد أن حاول أحد المسجونين الأكبر سنا تهدئته.
في النهاية، توقفت السيارة أمام مبنى محكمة، رأيت صديقين يقفان أمام السيارة التي أخرجنا منها الجنود بسرعة، وقالوا لنا إن هناك دبلوماسيين ألمان في انتظارنا، وبعد الاستماع لأقوالنا في النيابة، أفرجوا عنا.
لم يكن لنا أن نخرج من دون تدخل السفارة الألمانية، أما بالنسبة للمساجين الباقين فلا أعرف عنهم أي شيء، فهم لم يكونوا من ألمانيا!.
مجلة العصر الالكترونية نقلا عن موقع “نون بوست”