حين يلقي السيسي بتصريحٍ من عينة أن الأزمة الاقتصادية الحالية ليست مقياساً، فقد لا تدهش هذه المقولة الكثيرين، على غرابتها؛ من ناحيةٍ لأن الغالبية العظمى من أولئك «المخاطبين» المفترضين، أو الذين من المفترض أن الشأن الاقتصادي يعنيهم ويمسهم بصورةٍ ملحة مشغولون من الناحية الفعلية بمكابدة توحش ذلك الواقع الاقتصادي والتعامل مع نتائجه الكارثية، ومن ناحيةٍ أخرى لأننا جميعا، مطحونون دائرون في ساقية الحياة، في سعيٍ يائس وراء لقمة العيش، أو مراقبون ممن يمتلكون رفاهية الكتابة والتحليل، قد اعتدنا مع كرّ السنين على ما هو أكثر عبثيةً وإثارةً للدهشة من السيسي، الذي أكد لنا أن العالم أجمع شهد له بالفطنة والحكمة والحصافة والفهم العميق.
حين أراجع ما كتبت عبر السنوات التي أتحفتنا فيها صيرورة الأحداث التاريخية وتطوراتها واحتدامها بوجوده في السلطة، أجدني قد أفردت له، بشخصه، العديد من المقالات، الأمر الذي لا يدخل السرور إلى قلبي البتة، فكأن الرجل لا تكفيه مساحة التدمير في البلد والناس على كل الأصعدة، حتى تمادى ليحتل ذلك الحيز من تفكيري وكتابتي، وأي بؤسٍ ذاك!
السيسي وإن شكل ظاهرةً تبدو فريدةً بقدر ما هي محزنةٌ ومفجعة، هو في الحقيقة النتيجة المنطقية والتعبير الأبلغ عن إفلاس النظام وبؤس البورجوازية المصرية
بيد أن الأمر لم يكن عداءً شخصياً، في أي وقتٍ من الأوقات، بل موقفٌ مبدئي من الثورة المضادة والبورجوازية التي دفعتها ومولتها، والمؤسسة العسكرية والأمنية التي لم تزدها الثورة المضادة سوى توحش وطفولية. لم تكن التفاتي لشخصه إذن سوى نابعٍ من طبيعة ذلك النظام، الذي تتيح آلته للجالس على الكرسي، لاسيما لو كان من خلفيةٍ عسكرية، كل تلك الصلاحيات شبه المطلقة، ومن ثم فإن الكثير من العبث والتخبط والقرارات غير المدروسة والهوس بالمظاهر والبذخ، تمثل جميعاً لا مجرد وسائل للربح السريع والإغداق على من حوله، بل تجلياتٍ لذهنيته بكل ما علق بها من مخلفات بورجوازيةٍ صغيرةٍ رثة، مسكونة بكل مركبات الضعف والانسحاق والهزيمة والافتتان بالطبقة الأعلى، ونمط حياتها، مع الاعتداد بالنفس المقترن بالجهل والمحدودية، وتطلعات التخطي الطبقي الراسخة المتجذرة في تربة الحقد والمرارة وازدراء واقعها البائس. من هنا أفردت مقالاً لتحليل شخصه، متلازمة الرجل الضئيل، إلا أن ذلك وإن كان يفسر دوافعه ومنبع انحيازاته، ويغطي شيئاً من طبيعة دوره في هذه المرحلة، فإنه في المقابل لا يفسر تماماً «ظاهرته»، أو كيف تمكن من الوصول والاستقرار في السلطة بغطاءٍ شعبي يصعب إنكاره، على الأقل في بداية عهده. لم يستغرق الأمر وقتاً طويلاً ليعلق خبراء ومفكرون جادون، مبدين تعجبهم من أن شخصاً محدود الذكاء والقدرات والمواهب مثله، يحكم بلداً بحجم مصر وقيمته وثقله ومكانته التاريخية، وقد تنبأوا بأن وضعاً على هذا القدر من الشذوذ واللامعقولية من المستحيل أن يدوم. لكنه طال أكثر من اللازم. ولا يمكن إرجاع ذلك للقمع وطبيعة النظام فحسب، على الأقل في رأيي. لذا فالسؤال الملح في رأيي، والأهم والأعمق من مجرد تحليل شخصيته بمركبات نقصها ونقائصها، هو كيف تشكلت «ظاهرة السيسي» أي ذلك القبول والتعلق الشعبي به؟ لا شك بأن ذلك اضمحل تماماً الآن، تحت وطأة المشاق اليومية والمعاناة الاقتصادية العميقة، إلا أن ذلك أتى متأخراً، والشاهد أنه لم يصل إلا محمولاً على موجٍ عالٍ من الحماس والاحتضان الشعبيين؟ فما السبب وراء ذلك. لن نعدم الكثيرين ممن سيؤكدون أن ذلك راجعٌ إلى التمهيد والحشد الإعلامي وتضافرهما مع تخطيط وتدبير وتآمر أجهزة الدولة العميقة، من عينة ما استحدثته من أزماتٍ كالوقود، ولولا ذلك لما أسبغت عليه عباءة المخلص. مؤكدٌ أن ذلك لعب دوراً، إلا أنه وحده لا يكفي ولا يفي تفسيراً لظاهرةٍ سنظل ننظر وراءنا إليها في عجبٍ ودهشةٍ عميقين. ربما كان الأدق، والمفتاح الحقيقي، أن هؤلاء الناس، في أزمتهم، كانوا هم الذين يبحثون على من يسقطون عليه صفة المخلص، كان لديهم التركيب النفسي والأشواق الجامحة والذهنية التي كانت تبحث عن وتنتظر المخلص. كل ما فعله السيسي، بإيعازٍ دون شك ممن هم أوفر منه ثقافةً وأعمق فهماً بطبيعة الناس والتاريخ، هو أنه تملق ذلك الشوق وأشبع ذلك الاحتياج في البداية ببعض الكلام العاطفي من نوعية «أنتم مش عارفين إنكم نور عينينا»، وحديثه عن مصر التي «حتبقى قد الدنيا» وربما أكبر منها أيضاً، وهو دون شك حديث عواطفٍ فقط يدهش بضحالته وركاكته.
لقد كان السيسي صوت البورجوازية المصرية ولسان حالها، خاصةً شرائحها الصغرى، ولئن كان البيدق الذي راهنت عليه الطبقة الرأسمالية المصرية لإنقاذ مصالحها مقابل تنازلاتٍ سياسيةٍ وماديةٍ في الأساس، لم تلبث أن تعاظمت بما يهدد مصالحها الآن، فإنه كان (وربما لم يزل) المعُبر عن ذهنيتها وضعفها؛ في غياب تنظيمٍ ثوريٍ حقيقي، وجدت البورجوازية الصغيرة نفسها في تيهٍ حقيقي، بين حنينها وحاجتها العميقة والمتأصلة للاستقرار، وخوفها القديم قدم سكنى الوادي من القلاقل، من الغد وما قد يجلبه من قحطٍ، وجدت نفسها في صراعٍ بين تصورٍ للذات يراها مبدعةً فائقة الذكاء والقدرات، وتصورٍ عن مكانةٍ عاليةٍ وأهميةٍ لمصر (تصوراتٌ غذاها النظام في الحقيقة) ومن ناحيةٍ أخرى واقع يتكشف كل يومٍ عن هزالٍ وترهلٍ وتفسخٍ، روعوا الناس وآلموهم وجرحوهم عميقاً في كبريائهم الوطني، الشيء الوحيد الذي ربما ظنوا أنه تبقى لهم. في غياب التنظيم القادر على القيادة، فقد هابت هذه الجموع المسؤولية، خاصةً اتخاذ القرار، لقد خافت من الحرية، وما قد تجلبه وتفتحه من آفاقٍ جديدة وعالمٍ جديدٍ، بما قد يطرحه أو يفرضه من أفكارٍ ومنظومةٍ قيميةٍ مختلفة، مغايرة وربما في تضادٍ مباشر مع تلك التقليدية المتوارثة، التي ألفوا والتي لا يشعرون بالراحة إلا في كنفها، وفي هذا السياق فإن الاضطراب الأمني الذي زامن الثورة والعمل بدأب من قبل النظام مدعوماً من أصحاب المصالح على غياب أي مكاسب مادية لم يؤكدا سوى ذلك الخوف وذلك التوق والتشبث بالمألوف.
بيد أن الأمر أعمق وأبعد تاريخاً من ذلك، فهذا الجمهور ليس «بكراً»، ولا على سجيته، بل قد تم تشويه وعيه وإفساده بصورةٍ ممنهجة عبر عقودٍ من الاحتلال، خاصة الاستبداد الفاشل طيلة ما يقارب السبعة عقود. لقد دخل السيسي على المسرح، محملاً بإسقاطات وعيٍ مشوهٍ ومهزومٍ بعمق، عدا التمهيد الذي أسلفنا، لم يحتج أكثر من البزة العسكرية (بما تمنحه من مشروعيةٍ في الوعي والمخيلة الشعبيين) وبعض الجمل العاطفية والوعود غير الواقعية (التي اتضح لاحقاً كم كانت مخادعةً) لكي يصبح ملتقى الأشواق ويجني كل شيء. لقد التقى السيسي ممثلاً للنظام والبورجوازية، بالأخص الصغيرة في رأيي، في منعطف الطريق في ثورةٍ نضجت واكتملت عواملها المادية، من دون أن يتوفر لها تنظيمٌ ثوريٌ حقيقي يعمل مع الناس، يرشد ويعلم ويتفاعل ويقود جماعياً، بمعنى ما فالسيسي هو الحصاد، دون أن يدرك.
في التاريخ البشري، قل أن توجد مصادفاتٌ محضة، إن لم تنعدم، التاريخ ليس مجرد «أشياءٍ تحدث»، بل هو تراكمٌ وتطورٌ وصراعاتٌ جدلية. والسيسي وإن شكل ظاهرةً تبدو فريدةً بقدر ما هي مدهشةٌ محزنةٌ ومفجعة، هو في الحقيقة النتيجة المنطقية والتعبير الأبلغ عن إفلاس النظام وبؤس البورجوازية المصرية ومدى عمق التردي العام. على الرغم من المعاناة والثمن الباهظ المدفوع، فلعل بارقة الأمل الأهم (إن لم تكن الوحيدة) تكمن في انكشاف أمر هذه الظاهرة والإدراك بعمق الغفلة والخيبة والإفلاس، وعلى الرغم من الخوف من المقبل فقد تعلم الناس وأزعم أن ذلك النظام أو على الأقل ترتيب الأوضاع هذا في العد التنازلي.
كاتب مصري
كل سنة تقولوا نفس الكلام ولا شىء يحدث الشعب المصرى لو اراد ان يتخلص من اى حاكم لن يقف امامه احد
،،التاريخ ليس مجرد «أشياءٍ تحدث»، بل هو تراكمٌ وتطورٌ وصراعاتٌ جدلية”، مدهش، ومن تلكم التطورات والصراعات التي لم تتحقق في الربيع العربي ويجب ان تسبق الفعل الثوري وتحدي الواقع، هي الثورة التنويرية، حسم الصراع ما بين الماضي بكل ارثه والمستقبل الذي نريد ونحلم به. ثورة تنويرية ترفض الطغيان وعدم العداله اللذين يشكلان متلازمة لكل تاريخنا، تنوير يرجع الانسان وحقه في الحريه والكرامة الي مركز كل تفكير وحركة، وليس الوطن او الدين او غيره
مقال رائع.
مقال رااائع … بل اكثر من رائع
شكرا أخي على تحمل المسؤولية الفكرية، لكتابة وتحليل وتوصيف لظاهرة الإنقلابي والعسكر، ينكل ويشوه أنبل
وأبسط ما يستحق فيها : للعواطف والمشاعر وأحلام الأوهام التي دغدغت ناس الضحايا في أم الدنيا ومحيطها مشرقاً ومغربآ في النصف الثاني من القرن العشرين وحتى اليوم .
تحليل رائع، لكن ضف الى ذلك أنانية بعض النخب وتشرذمها وبحثها عن مواقع مسؤولية، أليسوا هم من انقلب ظلما على الإخوان شركائهم في الثورة بالأمس
يقول الأستاذ المحترم( يحي مصطفى كامل ) أن السيسي وإن شكل ظاهرةً تبدو فريدةً بقدر ما هي مدهشةٌ محزنةٌ ومفجعة
شكرًا أخي ابراهيم عبد المجيد. أعتقد أن معظم لنقل المثقفين والناس عمومًا، مصابين بهذا النوع من الإحباط بعد فشل الربيع العربي. المشكلة هي في سقوط البلدان العربية تحت سيطرة حكومات أسوأ، سلطوية قمعية استبدادية تقود البلد إلى الإسوأ دون أن يستطيع المثقف العربي من التأثير على مقدرات الوطن رغم كل تطلعاته. لكن من الملاحظ أيضًا أن عنصر التفاؤل موجود وبوضوح تمامًا كما جاء في المقال، رغم كل المأسي التي تحيط بنا. أن شخصيًا أركز على عملي وقلما يصيبني التشاؤم. وعندما قرأت المقال وكيف يتم قطع الشجر وتدمير الحدائق خطر إلى ذهني كيف تفعل إسرائيل والصهاينة وتقطع أشجار الزيتون وتحاول بكل وحشية وفاشية الإحتلال كسر إرادة الشعب الفلسطيني دون جدوى. ويواجههم الشعب الفلسطيني بإرادة أقوى ومقاومة أقوى. وهكذا الشعوب العربية لن تنكسر إرادتها رغم كل هذا القمع والوحشية والإستبداد. لكن طبعًا كم يحزن الإنسان عدم قدرته على التأثير والتغيير ونحن نرى كيف يتطور العالم بينما نحن نسير نحو الأسوأ، في الوقت الحاضر.
عذرًا من الكاتب يحي مصطفى كامل الذي أقرأ مقالاته بكل سرور، لكن هذا التعليق سقط سهوًا هنا.