عائلة الألسن

حجم الخط
0

يحتار الإنسان أمام بعض ملكاته الفطرية، كتقليده الأصوات، أو قدرته على الغطس، والسباحة تحت الماء، والقفز بمظلّة من ارتفاع كبير، أو قدرته على تعلُّم اللغات.
يحمل الإنسان في داخله شيئا من كل الكائنات الحية الموجودة في الكون، وكأنّه بالضبط تلك السفينة التي نُسبت لإنقاذ النبي نوح وتابعيه من الطوفان العظيم. في الإنسان كل أنواع الحيوانات ولهذا بإمكانه أن ينهق مثل الحمار، ويعوي مثل الذئب، وينبح مثل الكلب ويفعل أفاعيل الحيوانات كلها، ونحن لا نوفّر أي وصف لنلحقه بإنسان ما إن تصرّف تصرف أسلافه الحيوانات! فهذا كلب، وذاك حمار، وتلك بقرة، ولا جدوى من تغيير قاموسنا «الفوقي» لمخاطبة أبناء جنسنا احتقارا لهم وللكائنات الأخرى، فالعقل الذي تميزنا به، يمشي عكس عقارب الساعة على ما يبدو، ويعود بنا لعصر الحجر. ولاحظوا معي، القصّة الخيالية العلمية التي تقف ضد نظرية داروين تقول إن الإنسان خلق أولا، ثم تكاثر، ثم انتشر خلال ملايين السنين على هذه البسيطة وتطوّر حسب معطيات الطبيعة، ولهذا يحمل الإنسان أغلب جينات الحيوانات مجتمعة، وتحمل الحيوانات ما تبقى لها.
يا للدهشة!

لم يخترع الإنسان الموسيقى، بل وجدها في كل ما يحيط به، وكل ما فعله هو أنّه قلّد الطيور، والحيوانات والحشرات في أصواتها فأنتج ألحانا.

أما الحكاية الدينية فتروي لنا قصة آدم وحواء، المطرودين من الجنة، ولا نعرف لا مكان الجنة، ولا أزمانها، ولا الزمن الذي يفصلنا نحن أبناء هذا العصر، وأبناء ذلك الزمن السحيق. كل ما نعرفه هو أن الأرض كانت أول منفى لبذرتنا البشرية الأولى. ويا للعجب حين تلتقي قصة الخيال العلمي مع المُحكى الديني الذي ترويه كل الكتب السماوية، إذ تنْصَبُّ القصتان في معطى جذري واحد، كون الإنسان هو بذرة الحياة الأولى لكل أصناف الكائنات الحية، ولا بأس أن يكون الإنسان هو الجدّ الأول لقرد اليوم، بعد فقده لبعض جيناته خلال رحلته الحياتية من فضاء الفردوس إلى فضاء أمنا الأرض بمتغيراتها المناخية القاسية. لا بأس من تحرير المخيلة من قضبان وهمية، والذهاب بعيدا في رسم الكون الذي لم نعرفه سابقا والذي لن نعرفه أبدا بعد ألف سنة من الآن. فقد لعبت المخيلة البشرية الحرة دورا مهما لتطوّر العلم، وفهم طبيعة البشر، وفي خلال هذا المسار الخيالي ولدت أفكار علمية استمرت، وأخرى تحوّلت إلى تراث قصصي، ما لم تصطدم بالمؤسسة الدينية التي دمّرت أغلب التراث البشري، ويبدو أن الإنسان لا ينجو بأفكاره إلاّ حين يعود إلى فطرته، ويعانق الطبيعة، ويلتصق بها كجزء لا يتجزأ منها.
لم يخترع الإنسان الموسيقى، بل وجدها في كل ما يحيط به، وكل ما فعله هو أنّه قلّد الطيور، والحيوانات والحشرات في أصواتها فأنتج ألحانا. لم يخترع الإنسان الكتابة، بل لفتت نظره آثاره وآثار كل الكائنات حوله، فتعلّم كيف يعرف أين يجد طرائده، وأعداءه. لم يدجّن أي حيوان، بل الحيوان المحب للبشر هو الذي جاء إليه ولقّنه فعل التعايش، ولئن خان الإنسان ثقة هذا الحيوان الطيب، فلأن بذرة الشيطان لا تزال قابعة فيه، هذا حسب معطى العلم الخيالي، أو الخيال العلمي كما شئتم. لم يخترع الإنسان النار، ولكنّها اشتعلت جرّاء صواعق ضربت الأرض من السماء، ووحدها الطبيعة لقّنت هذا الكائن المتعجرف كيف يشوي البطاطا ويأكلها، وكيف يتحوّل الطائر بعد تلك الصاعقة إلى وجبة لذيذة.
حتى إن كان العقل البشري كاملا، وعبقريا، فهو عاجز عن إبقاء منجزاته لبضع مئات من السنين، فكل حضارة تبلغ القمّة، تنهار وينبثق منها خلف سيئ يدمّر نفسه بنفسه. تلك الحلقة الغائبة في مسار خلق الإنسان، هي التي انتجت الأسئلة، والفضول الذي لا يقاوم لفهم الماضي، بكل تعقيداته، ومبهماته وغرائبه. ومنها أسئلة اللغة، التي لا نزال نبحث فيها، في ما يعتقد البعض أنها من الثوابت ولا تحتاج سوى لترسيخ قواعدها، إذ يبدو أن عمر اللغات من عمر الأصوات التي سمعها الإنسان وقلّدها، وبالتالي فكل لغة ابنة بيئة جغرافية معينة، ومنها تولدت لغات ولهجات لا حصر لها، أكثرها مات واندثر ولم يبق منه غير النادر من الكلمات. نحتاج لكثير من الشجاعة لنعترف بأن الطبيعة هي التي لقّنت الإنسان لغته الأولى، وأن تطوّرها نتج عن حركة الهجرات البشرية من مكان لمكان بحثا عن الطعام، واليوم حين نتحدّث عن لغة منتشرة أكثر من أخرى، فذلك مرتبط بعامل جد مهم، وهو النشاط البشري نفسه من أجل البقاء.

ما الذي يمنعنا من تعلّم لغة مشتركة، هي «لغة مفتاح» لأغلب الشعوب، لتسهيل تواصلنا؟ مع الإبقاء على لغتنا «التي ليست الأم» ولكنها لغة حقبة وجماعة؟

أحد القراء في تعليق ممتاز، قال هناك «لسان مجتمع» وهناك «لغة مهنة»، وهذا تقسيم عادل في نظري للغات في أي بلد، فقط أضيف أن «لغة المهنة» هي لغة المجتمعات النشيطة، المبتكرة، والمتحكمة بعصب الحياة، أمّا المجتمعات الكسولة التي تكتفي باستهلاك ما ينتج لها، فإنّها ستأخذ اللغة كمنتج مستورد، ولسوف تستهلكه، بدون أن يصبح يوما لغة لسانها، ستبقى لغة مهنة، وأي اهتزاز سياسي سيعصف بتلك اللغة لتنزاح وتترك مكانها شاغرا، وهذا ما حدث في المجتمعات الكولونيالية التي فُرِضت عليها لغة المستعمر، والتي حطّمت حسب منظوري الخاص لسان ذلك المجتمع، فلا هو تقدّم بها، ولا تقدّم بلغته الأم، وفي تجارب عدّة عاشتها بعض بلدان العالم العربي، فقد فشل حتى تعريب تلك البلدان، لأن عقدة اللغة متوغلة في الماضي، بل إننا نسجّل نجاح عناصر متميزة قليلة في اللغتين، لكن ليس لدرجة الإمساك بزمام أمور إدارة الأوطان وتصحيح مساراتها التعليمية ومنها الإنتاجية.
إنّ السؤال الذي يقلق مجتمعاتنا اليوم، هو كيفية الإبقاء على لغتها الأم؟ وجوابي ورد سابقا، فلغتنا الأم هي لغة الطبيعة، أمّا ما أنجبته من لغات فهي ألسن للتخاطب في ما بينها كجماعات، والتأسيس لقبائل وأمم، تجمع بينها تلك الشبكات اللغوية المختلفة، فما الذي يزعجنا اليوم إذا ما اكتسبنا لغة «مجتمع» ولغة «مهنة»؟ وما الذي يمنعنا من تعلّم لغة مشتركة، هي «لغة مفتاح» لأغلب الشعوب، لتسهيل تواصلنا؟ مع الإبقاء على لغتنا «التي ليست الأم» ولكنها لغة حقبة وجماعة؟
أبحث في هذا الأمر، لأنه يعطي للغة بعدها الإنساني، فكل تعصب للغة معينة ليس سوى «فبركة أيديولوجية» جرّدت الإنسان من فطرته، وشحنته بنعرات غرّبته فعلا عن انتمائه الأول، وسواء كنا قرودا وتطوّرنا، أو أننا أجداد هذه القرود، فإن الأهم هو كيف نتعايش ونتفاهم ، إذ يبدو أن أول ما يخيف الحيوان هو الأصوات، ونحن إلى اليوم نتصرّف بردة الفعل تلك، كون حاجز اللغة بين فردين، هو الذي يخلق بعض العدائية بينهما، وكلّما كسر ذلك الحاجز، نمت الألفة بينهما، فالتعارف يبدأ باللغة، والسلام يقوم عليها، ربما لهذا نجد الصم البكم وهم يتحدثون بلغة الإشارة أكثر الناس تصالحا مع أنفسهم، كونهم يتكلمون لغة واحدة في كل العالم، وأكثرهم إدراكا لأهمية التواصل السلمي مع الآخر. فهل تراها لغتنا الأم، قبل أن يفسد النطق حياتنا؟

٭ شاعرة و إعلامية من البحرين

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية