لا يوجد غباء عاطفي وحقوقي يعادل غباء «الليبرالية اليمينية» المنتشرة في عالمنا العربي، ليبرالية غرائبية التوجه، محافظة أحياناً، ومتطرفة في مواقفها السياسية التحررية أحياناً وكأنه حراك يعاني من انفصام في الشخصية. وأما المذهل اليوم هو هذا الموقف المتطرف في تحرريته السياسية، التي لا يواكبها في الواقع تحرر حياتي أو اجتماعي، خصوصاً في تقييم الحراك الفلسطيني. بلا شك، فإن الموقف من حماس يتخذ بعداً أعمق من مجرد اختلاف أيديولوجي، فهناك سياسات ومصالح تتعاضد مع الأيديولوجيا لتكوين مواقف الأفراد والدول من الأحزاب السياسية، وخصوصاً الدينية منها. لكن أن يتوقع منك العالم، لأنك يساري الفكر، ليبرالي اجتماعي الهوى، نسوي التوجه، أن تقف ضد حماس ظالمة أو مظلومة، فهذه قمة الغباء العاطفي العقلي.
إنه لمن سخافة الدفاع عن النفس وسذاجة التكرار أن أقول، ولكنني سأقول، بأنني أقف ضد أيديولوجية حماس تماماً، موقفي في ذلك لا يختلف مطلقاً عن موقفي تجاه حزب الله. كلاهما حزبان سياسيان إسلاميان يستندان إلى حد كبير على أيديولوجيتهما وعلى غطائهما الإسلامي ليس فقط في تبرير قراراتهما، ولكن كذلك في تأمين قدسية وهالة حولهما تمنع عنهما النقد والاختلاف، وفي ذلك، حزب الله يتعدى حماس بمراحل في الواقع بتلك الهالة المصورة حول رئيسه حسن نصرالله. إلا أن تقييم الموقف السياسي، خصوصاً تجاه القضية الفلسطينية، لا يتحمل تداخل الأيديولوجية أو اتخاذ موقف طائفي من الحزبين، ذلك أن فلسطين، وكذلك لبنان، أهم من الجميع، من الشيعة والسنة والليبراليين والإسلاميين وسياساتهم ومصالحهم، ولو خيرت شخصياً بين اختفاء كل هؤلاء وبقاء فلسطين وسلام لبنان، لكانت فلسطين ولبنان اختياري دون تردد.
إلا أن تقييم المواقف السياسية هو قصة أخرى. بكل وضوح، ليس أي من الحزبين يعتبر حزباً إرهابياً مطلقاً، ولو صرخ بذلك العالم «المتحضر» أجمع. حزب الله وحماس ليسا داعش، ولن يكونا كذلك مهما «روجت» عنهما الحكومات العالمية الإرهابية. أختلف تماماً مع أيديولوجية الحزبين ومع الكثير من تحركاتهما السياسية وقراراتهما العسكرية، وفي الواقع هو من العسير الاتفاق مع أي قرارات عسكرية لأي حزب في العالم، ذلك أن الحرب دائماً فعل غير شريف، حيث إنها تضطر كل الأطراف، حتى المظلوم، أن يتصرف تصرفات لا إنسانية ولا أخلاقية وأن يتخذ قرارات لا يمكن تقبل كلفتها الضمائرية. إلا أنه لمن البشاعة الاضطرار للإقرار بأن هناك الكثير من المظالم والعديد من السرقات والتعديات والاعتداءات الشنيعة التي لا يمكن إيقافها سوى بالحرب، لذا الحرب موجودة ما دام البشر موجودين.
في 2006، حين أسر حزب الله جنديين إسرائيليين في عملية بدت معزولة عن الحراك النضالي العام، حركة بدت عبثية ومكلفة بشكل مرعب للدولة اللبنانية ودون موافقة منها أو تعاون معها، كان موقفي شخصياً متضاداً تماماً مع هذه الخطوة ومع ما تبعها من احتفاءات «بالنصر الإلهي» التي تبدت مظاهره في نفخ البالونات وتوزيع الحلوى وأطفال قانا لم تجف دماؤهم بعد. أما اليوم فالقصة مختلفة والحراك مختلف وشرعيته مختلفة تماماً. هذا حراك يأتي من الداخل الفلسطيني على أرض تعتبر كلها أرض حرب، وفي رد فعل أقل ما يقال عنه إنه متوقع إن لم يكن متأخراً في حدوثه في الواقع. في كلا الحراكين كان المحرك حزباً سياسياً إسلامياً، إلا أن الحكم على الأداء السياسي لا علاقة له بأيديولجيتهما ولا توجهاتهما، تماماً كما وأن نقدهما لا يجب أن تحجبه هذه الأيديولوجيات والتوجهات. ضربة حماس مكلفة، نعم هي كذلك، كل قرار حرب مكلف ومفجع ومُساءل أخلاقياً بلا شك، كل تحرك عسكري مرعب ومخرب وستكون له ضحايا مدنيون، ولكن السؤال يبقى، هل المساءلة عادلة؟ من الملام هنا؟
بلا شك هناك هذا السؤال الأخلاقي الموجع حول الإسرائيليين المولودين على الأراضي المحتلة دون ذنب لهم أو خيار، بشر أتوا للحياة ليجدوا أنفسهم على أرض محتلة، أقنعهم، أو لم يقنعهم، مجتمعهم باستحقاقهم لها. هذه الأجيال تعتبر فلسطين موطنها، لا تعرف غيرها أرضاً ولغيرها انتماء. بالتأكيد المطلوب منهم مواجهة الحق والحقيقة والسعي لمعرفة الجذور الصادقة لهذه الكارثة الإنسانية، إلا أنه ليس كل البشر لديهم القدرة النفسية و»الأخلاقية» للإقدام على هذه الخطوة. معظمنا نأتي إلى الحياة على بقعة جغرافية محملين بالشعور بالانتماء لها واستحقاقها، مهما خالفتنا الظروف السياسية أو المنطق التاريخي والإنساني. ما ذنب هؤلاء المدنيين إذن؟ لا يمكن بحال قبول قتلهم، إلا أن السؤال يتكرر: من الملام هنا؟ من المعتدي أصلاً؟ من المستوجب عليه وضع حد لهذا الواقع البشع؟
حماس ليست الحكومة الفلسطينية ولا تمثل كل الفلسطينيين، إلا أن العالم العربي البعيد عن «موقع الصفر» يحاكم الطرفين، الحكومة الفلسطينية لمهادنتها وحماس لعسكريتها، وكأن أحد الطرفين له خيار في ذلك. مطالبون نحن طوال الوقت بأن ندين حماس كما ندين إسرائيل وكأن المقياس واحد، فهل يستوعب العالم الغربي الذي سقطت حكوماته بكل ما تدعيه من ليبرالية وإنسانية أن الكفة لا تستوي؟ أن إسرائيل قوى محتلة وأن حماس ميليشيا مقاومة؟ أن إسرائيل تمتلك أحد أقوى جيوش العالم وأكثر أسلحته فتكاً وأن حماس تعتمد على المعونات المتقطعة؟ كيف نحاكم المعتدي والمعتدى عليه بذات المسطرة؟
يتساءل السفير الفلسطيني لدي بريطانيا حسام زملط في إحدى مقابلاته حول منطقية طلب العالم من الفلسطينيين إدانه أنفسهم طوال الوقت، وكأنهم مطالبون بنفض أي تحرك عسكري عن أنفسهم وكأنه جريمة. ترى هل طلب الإعلام من أي مسؤول إسرائيلي أن يدين حكومته أو جيشه أو يبرر جرائم الحرب التي يقومون بها بشكل يومي؟ لماذا تتم محاصرة المسؤولين الفلسطينيين، وهم الجانب المحتل، المعتدى عليه، الأضعف في هذه المعادلة، على الشاشة في زاوية: ما رأيك بما تفعله حماس؟ هل تدين أفعالهم؟ نرد نحن بأسئلة موازية: وهل الكفة واحدة؟ وهل المحتل هو حماس؟ وهل هناك أي احترام للقوانين ولأحكام المحاكم وللاتفاقيات الدولية، مثل أوسلو أياً كان الرأي فيها، من طرف الجانب الإسرائيلي، حتى ينتقل العالم إلى مرحلة محاسبة حماس؟ ماذا تتوقعون من ميليشيا مقاوِمة والصهاينة، بمعية أمريكا وأوروبا، تقتل وتهجّر وتعزل وتنكل وتطرد وتهين وتفجر وتروع كل يوم؟ ما هو رد الفعل الإنساني الطبيعي ها هنا؟
وفي حين أن حكومات العالم وصحافتها المأجورة قد غسلت وجوهها بالبول، أنصفتنا الشعوب وبعض الإعلام الحر ومواقع التواصل الاجتماعي التي مهما حاول مجرمو الحرب شراءها وتوجيهها، سيخرج الحق من ثناياها ولو صدته أقوى قوى العالم. تخرج اليوم المظاهرات المؤيدة لفلسطين حول العالم أجمع، ليتحرك ضمير العالم بعد طول سبات وليتجدد الأمل. هل حماس إرهابية؟ هل تؤيدون أفعال حماس؟ عار عليكم أن تسألوا هذا السؤال!
مع الانتهاء من هذا المقال، وصلت أخبار قصف المشفى المعمداني في غزة وأصبحت كل الكلمات فارغة من هول ما نرى ونسمع. وسيبقى الإرهابيون الحقراء الأغبياء يسألون: هل تدينون إرهاب حماس؟