الغرب المتحضّر والديمقراطي وحامي حقوق الإنسان، الذي يمكنه أن يقصي أي باحث أو مفكّر يشكك في فظاعات «الهولوكوست» النازي خلال الحرب العالميّة الثانية وراء النور، لم يحتج سوى لأكثر من أيّام قليلة بعد بدء الاجتياح العسكري الروسيّ للأراضي الأوكرانيّة حتى يُسقط كل أقنعته ويكشف عبر التغطيّة الإعلاميّة الجماهيريّة للحرب عن وجه دميم مخادع، ومنحاز، وعنصريّ، ومجرم.
ليس الأمر متعلقاً بتسيّس تلك التغطية فحسب وانحيازها السافر وغير المبرر لطرف دون الآخر، أو عجزها المتعمّد عن وضع الأمور في سياقها التاريخيّ، فهذا ديدن الغرب منذ شرّعت الإمبراطوريات الاستعماريّة الأوروبيّة القديمة توظيف الإعلام كسلاح في صراعاتها الإمبرياليّة والأيديولوجيّة بداية من الصحف فالإذاعات إلى التلفزيون، وانتهاء في عصر عولمة ما بعد الحداثة إلى وسائل التواصل الاجتماعيّ ومواقع الإنترنت.
لكّننا نتحدّث عن تحيّزات عنصريّة وعرقيّة وقبائليّة ودينية محفورة عميقاً عميقاً في العقل الجمعي الغربيّ، تتناقلها الأجيال لتحتقر كل بشر لم يولدوا ببشرة بيضاء وعيون زرق، ولتتعالى بصلف وصفاقة عن أوجاع الملونين ومعاناتهم، حتى وإن كانوا من سكان الغرب ذاته وحملة جنسياته، وتمنح لذاتها مكانة متفوقة فوق الآخرين، شعباً مختاراً رغم كل تقدّم وتحضّر وإنسانيّة مزعومة.
تلك التحيزات لم تغب يوماً، وإنما كانت هناك قريبة إلى السطح وما لبثت، مع انطلاق العمليات العسكريّة، أن انعكست تصريحات لنخب مثقفة وإعلاميّة تعلّق على الحدث الأوكرانيّ، ولم تقتصر على هفوة هنا أو سقطة هناك، بل وامتدت كما هستيريا وهياج جماعيّين لا في مواقع لمتطرفين ومأفونين، وإنما عبر بوابات إعلاميّة كبرى كثيرة.
حضارة كراهيّة الآخر على الهواء مباشرة
كان شارلي داغاتا كبير المراسلين الأجانب لشبكة «سي بي إس نيوز» الأمريكيّة يفتتح مهرجان العنصريّة الجديدة / القديمة يصف أوكرانيا بأنّها «ليست مكانا، مع كل الاحترام الواجب، مماثلاً للعراق أو أفغانستان، ويشهد صراعاً مستعرا منذ عقود. هذه بلاد متحضرة نسبياً وأوروبية نسبياً – يجب أن أختار هذه الكلمات بعناية أيضاً – بلاد لا تتوقع فيها ذلك، أو تأمل أن يحدث ذلك».
وبالطبع فإن داغاتا الذي اختار كلماته بعناية، يدعو مشاهديه للتعاطف مع الأوكرانيين (المتحضرين والأوروبيين وإن من الدرجة الثانية) الذين (يشبهوننا) على عكس الأفغان والعراقيين، الذين (لا يشبهوننا) ولا يستحقون ذلك التعاطف، وغياب اللون الأبيض عن بشرتهم تجعل بلادهم جديرة بالصراع الدائم.
ثم كانت هناك كيلي كوبييلا، التي قالت: «فقط بصراحة، هؤلاء ليسوا لاجئين من سوريا، هؤلاء لاجئون من أوكرانيا المجاورة. هؤلاء مسيحيون، إنهم بيض، يشبهون إلى حد كبير الناس الذين يعيشون في بولندا».
وأجرت هيئة الإذاعة البريطانية «بي.بي.سي» مقابلة مع نائب سابق للمدعي العام الأوكراني الذي قال «إنه لأمر مشحون بالعاطفة بالنسبة لي لأن أرى أوروبيين بعيون زرقاء وشعر أشقر يقتلون كل يوم».
وكان تعليق مذيع» بي بي سي» صريحاً بشكل قاطع في تأييده للنائب العام: «أنا أتفهم وأحترم العاطفة».
وربما وصل هذا الابتذال إلى أقصاه على تلفزيون BFM الفرنسي بتصريح الصحافي فيليب كوربي عن أوكرانيا «نحن لا نتحدث هنا عن السوريين الفارين من قصف النظام السوري المدعوم من بوتين. نحن نتحدث عن مغادرة الأوروبيين في سيارات تشبه سياراتنا لإنقاذ حياتهم». فالأوكرانيون لا «يشبهوننا» فحسب؛ بل حتى سياراتهم تشبه سياراتنا».
ولم تقتصر سقوط الأقنعة هذا على قنوات العالم الأوّل، بل ها هو مراسل لقناة «آي تي في» البولنديّة: «الآن حدث لهم ما لا يمكن تصوره. إنها الحرب، وهذه يا سادة ليست دولة نامية من دول العالم الثالث. هذه أوروبا!» وتورط مذيع في قناة الجزيرة بالإنكليزية بوصف اللاجئين الأوكرانيين بقوله: «بالنظر إليهم، والطريقة التي يرتدون بها ملابسهم، هؤلاء مزدهرون وهم – وأنا أكره استخدام التعبير- من الطبقة الوسطى. من الواضح أن هؤلاء ليسوا لاجئين يتطلعون إلى الابتعاد عن مناطق في الشرق الأوسط لا تزال في حالة حرب هائلة. هؤلاء ليسوا أشخاصا يحاولون الابتعاد عن مناطق في شمال أفريقيا. إنهم يشبهون أي شخص منّا».
وإذا امتلكت قناة الجزيرة الجرأة ومطلق المهنية كما عهدناها، للاعتذار عن الخطأ الذي ارتكبه مراسلها، ربما بحكم التسرّع الذي يرتبط بالحديث المباشر على الهواء، فإن ما كتبه دانيال هنان في صحيفة» التلغراف» البريطانيّة يشير إلى تشبّع العقل الغربيّ بهذه النظرة الاستعلائيّة البغيضة تجاه كل آخر مختلف وغلبتها حتى في تدبيج المقالات التي من المفترض أنها أقلّ تلقائيّة مقارنة بالتصريحات التلفزيونية: «يبدو أنهم (يشبهوننا). هذا ما يجعل من هذه الحرب صادمة للغاية. أوكرانيا بلد أوروبي. يشاهد شعبها» نيتفليكس»، ولديهم حسابات على أنستغرام، ويصوتون في انتخابات حرة ويقرأون الصحف غير الخاضعة للرقابة. لم تعد الحرب شيئاً يلحق فقط بالسكان الفقراء والبعيدين عنّا».
الإعلام لسان «الحضارة» المسمومة
ولعل القلق الذي ينتابنا ويُدمي الروح، عليه أن يتجاوز هذا الوجه الدميم للإعلام الغربيّ وشاشاته ويتجه نحو تغلغل هذه القبائليّة العنصريّة في نظرة الغرب تجاه الشرق في كل سلوكيات المجتمعات (المتحضرة التي تشاهد نيتفليكس – يا للسخريّة المريرة –).
لنتأمل معاً كيف يفتح الأوروبيّون أبوابهم الآن أمام تدفقات اللاجئين (الذين يشبهوننا) وتذلل أمامهم العقبات، بعدما شهد العالم بأجمعه شيطنة اللاجئين وإساءة معاملتهم، وخاصة اللاجئين المسلمين والأفارقة، لسنوات. هذه وزيرة الداخليّة البريطانيّة التي أغمضت حكومتها العيون عن عشرات اللاجئين قضوا ويقضون غرقاً أمام شواطئ الجزيرة (البيضاء) والتي وظّفت التخويف من سيل المهاجرين لإقناع الناخبين بالتصويت لصالح ترك الاتحاد الأوروبيّ، تقرر في وقت قياسيّ تعديل كل القوانين لتضمن تسهيل هجرة اللاجئين الأوكرانيين (الذين يشبهوننا) إلى بلاد جلالة الملكة! وهذا وزير الداخلية البولندي الذي كانت بلاده أرسلت الجيش وأقامت جداراً عازلاً مع جارتها بيلاروسيا لمنع عشرين ألفاً من لاجئي الشرق الأوسط من عبور حدودها يقول بعد أن استقبلت بلاده مليون لاجئ أوكرانيّ خلال أيّام: «يمكن لأي شخص يفر من القصف الروسيّ الاعتماد على دعم الدولة البولندية»!
لكن ذلك لم ينطبق بطبيعة الحال على ذوي البشرات الملونة، لدرجة أن نيجيريا احتجت رسمياً على سوء المعاملة التي تعرّض لها مواطنوها على الجانبين الأوكراني والبولنديّ من الحدود.
وفي فيينا صرح المستشار النمساويّ الذي أُنتخب على أساس برنامج متشدد ضد اللاجئين من أفغانستان والشرق الأوسط بأنّ بلاده «بالطبع ستستقبل اللاجئين الأوكرانيين، فالأمر مختلف في أوكرانيا عنه في دول مثل أفغانستان!».
كما نقل عن رئيس الوزراء البلغاري قوله «هؤلاء ليسوا اللاجئين الذين اعتدنا عليهم. إنهم أوروبيون، أذكياء، متعلمون، بعضهم مبرمجو تكنولوجيا المعلومات. هذه ليست موجة اللاجئين المعتادة من أشخاص لديهم ماض مجهول. لا توجد دولة أوروبية تخاف من اللاجئين الأوكرانيين».
تناسل الهولوكوست: هكذا صنع الغرب حضارته
يعلّق ويرنر ستيغماير، وهو فيلسوف ألماني معاصر على موضوعة الهولوكوست فيقول بذكاء: «لا أعتقد أن الهولوكوست النازي جاء من الفراغ». فالنظرة الاستعلائيّة الفوقيّة التي استوطنت أذهان الشعوب الغربيّة وكُرّست عبر أدوات التعليم والإعلام والأدب والاستعمار والعبوديّة نموذجاً سائداً وطريقة لفهم العالم والتعامل معه، وهي كانت سرّ كل هولوكست ألمّ بالبشر منذ الحروب الصليبيّة في الشرق إلى مأساة العراق مروراً بمئات ملايين البشر الذين أُبيدوا في قارات العالم الأمريكيّ الجديد. ومن الجليّ بمكان أن هؤلاء الصحافيين والسياسيين المعاصرين جميعاً مصابون بهذا العصاب الأعمى الذي يتعاطى بمقاييس مزدوجة مع المعاناة الإنسانيّة حيث التعاطف والترحيب بالأشخاص الذين يشبهوننا (أو سياراتهم تشبه سيّاراتنا) فيما تغلق أبواب أكوانهم في وجه كل آخر (لا يشبهنا) بدمٍ مثلّج وغيبوبة ضمير. لقد فقأ الاجتياح الروسيّ لأوكرانيا دمامل عنصريّة الغرب المريضة، وأظهر حضارته المزعومة على حقيقتها عارية بشعة، كما كانت دائماً.
فهلا أبلغتموهم أننا لن نقبل منهم دروساً في الأخلاقيات وحقوق الإنسان بعد اليوم؟!
إعلامية وكاتبة لبنانية- لندن
اشكركم والقدس العربي، وكأن المقال يعكس ما في خاطري وأنا اتصفح القنوات الغربية. التحيز الغربي وخاصة الأنجلو ساكسوني مفضوح حتى قبل وبعد الحرب العالمية الثانية (لا اسهب عن التحيز ضد الهسبانك والفرانكوفونيين). فقد كانت آلة النازية تقوم بالإبادة والتهجير في الأشهر الأولى ولم تتدخل الدول الغربية وكانت تراقب ولكن بعد أن تم قصف لندن وهددت صواريخ V2 نيويورك. وبعد أن ضخ الرأسمال اليهودي وملأ جيوبهم. ثم بعد سقوط النازية كان المحتلون والمحامون الأمريكان متعاطفين مع بعض مجرمي الحرب والطيارين الألمان في نورمبرغ ولم تضرب ألمانيا بتلك الهمجية والسطوة والترسانة كما ضربت اليابان. وبعد الحرب ظهر وجه التحيز ضد الروس والأوروبيين الشرقيين في الحرب الباردة.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . الى الانسانة المحترمة ندى حطيط . اسمحيلي قبل كتابة تعليق متواضع جدا وبسيط انا ممكن أكون اكبر من الوالد ولكن اريد تقبيل هذه اليد التي كتبت هذا المقال الجميل الذي لم اقراء مثله من سنين طوال في هذا العالم الذي يعيش على النفاق والحقد والتقرب للغرب اللعين النتن العفين انا أعيش في هذا الغرب انه عفن حقير عنصري ولا يعلم عن الحياة الى كل ما هو شاذ وبغيض وعليهم غضب ربنا الرجل شاذ والمرأة شاذه والأسرة في تفكك ما بعده تفكك والأب يطرد بنته بعد 18 سنة اذ لم تغادر هي والابن نفس الشيء والجميع في انحراف ما بعده ولكن المهم الون يكون ابيض والشعر اشقر . حسبي الله ونعم الوكيل .وشكرا
أحسنت! الكاتبة الفاضلة دوما تتحفنا بكتابات تعبر عن خبرة ساسية اجتماعية تاريخية وبعد نظر وتحليل متعمق ومعرفة واطلاع. إنها intellectual بكل معنى الكلمة.
ما تفضلت به هنا استاذة ندى يحتكم للمنطق ، و المنطق آخر ما يفكر به العنصري!
دعيني استدل لك من موقفه هنا تحديدا على تنافي المنطق و تفكيره. هو يرى في الاوكران شبهه ومن هنا كان تعاطفه ، لكنه تعامى تماما عن شبهه الجلاد!!
انحياز الاوروبي العنصري للاوكران كان يمكن تفهمه لو كان بوتين اسمرا ، اما و جنس ثلاثتهم واحد، فلا منطق في التحيز ” عنصريا” للضحية , اذا كان الضحية و الجلاد و المتحيز من نسل واحد!
هل نستنتج من اختلاف معاملة اللاجئ لعنصرية ، أن جرائم بوتين في سوريا لم تكن جرائما، فقط لان المجرم و العنصري هنا من جنس و الضحية من جنس آخر!! ….. انسان غريب .. عالم غريب!!
تحياتي لك استاذة ندى.
العيش في اوروبا الغربية وخاصة المانيا وسويسرا والنمسا او الدول الاسكندنافية يجعل المرء يكشف طبقات التمييز. الألمان يحتقرون الأوروبيين الشرقيين والعنصر السلافي وأنا شخصيا عاصرت تمييزهم حتى ضد الطليان واليونان والاسبان والروس. امريكيا وكندا واستراليا تريد استقطاب اوكرانيا لمحاصرة ولإضعاف روسيا وبالتالي السيطرة على بقية أوروبا. ولكن باختصار مثال تسلا المعروف بابداعاته واختراعاته وهو اوروبي شرقي صربي سلافي عانى التمييز والاستغلال في امريكا. ولو هاجر الأوكران في وقت سلم لتم التمييز ضدهم لأنهم نصارى ارثوذكس!
كلام المذيعه ليس كامل
ليس فقط التشابه الخارجي، فقد كانت الحرب على البوسنيين و الشيشان، و في بشارتهم و مظهرهم الخارجي يشبهون الاوروبي بعيونهم و شعرهم، التشابه لا يكفي ليتعاطفوا معك، و يفتحوا لك الابواب
لا أقول إلا ما قاله ربنا ” ولن ترضى عنك اليهود والنصارى حتى تتبع ملتهم ”
ومع هذا لو اصبحنا يهودا او نصارى فلن يقبلوننا بحكم اللون والبشرة وألوان العين
وكما يقول الشاعر :
اذا نطق السفيه فلا تجبه …فخير من إجابته السكوت
إن اجبته فرجت عنه …
وإن تركته كمدا يموت
من كثرة ما دخل الإسلام ديارهم واوطانهم وعائلاتهم اصابهم الغيظ ” قل موتوا بغيظكم ”
وأقول للمؤمنين ” ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ”
ارجعوا الى دينكم وعندها يأتيكم وعد ونصر ربكم مسيرة شهر
هذه البلدان أصلا ممتلئة بالخير الكثير وهؤلاء المتكلمون زعران وسفل وسقط فلا تكتثروا بهم .