«كم كنتَ وحدك»
محمود درويش
وأنا أكتب هذه السطور تصل أخبار عن توقف نصف مستشفيات غزة عن العمل بفعل الحصار. وصلت كمية القنابل التي أسقطتها الهمجية الإسرائيلية على غزّة إلى ما يعادل قنبلتين نووّيتين من التي أسقطتها الولايات المتحدة على هيروشيما في الحرب العالمية الثانية. أزهقت أرواح آلاف المدنيين الفلسطينيين، 40٪ منهم من الأطفال. مربعات كاملة من البنايات السكنيّة تتحوّل إلى ركام وقبور جماعية. تستهدف البربرية المستشفيات والمخابز والمساجد والكنائس والجامعات. وتحرم الغزّيّين من الماء والطعام والوقود وكل مقوّمات الحياة. الهدف الرئيسي هو تدمير الحياة وجعلها مستحيلة، لإجبار الفلسطينيين على هجر هذه البقعة وتحويلهم إلى لاجئين، للمرّة الثانية، فمليون وسبعمئة ألف منهم أصلاً لاجئون مسجّلون لدى الأونروا منذ 1948 و1967.
ليس مخطط إفراغ غزة والتهجير جديداً، ولم يعد سرّاً، فقد كشفت وثيقة مسرّبة من وزارة الاستخبارات الإسرائيلية تفاصيله الأسبوع الماضي. ولهذا يُخشى أن تكون هذه نكبة ثانية، يكتمل بها فصل آخر من فصول المشروع الاستعماري الاستيطاني بإخلاء الأرض من سكانها الأصليين. وقد صرّح نتنياهو إن هذه هي حرب «الاستقلال» الثانية. ولم تكن الأولى، كما هو معروف، سوى حملة تطهير عرقي شنّتها العصابات الصهيونية في 1947-1948 وارتكبت فيها سلسلة من المجازر الوحشية في دير ياسين والطنطورة وغيرها. ودمّرت فيها مئات القرى الفلسطينية واحتلت المدن وشرّدت 750 ألف فلسطيني أصبحوا لاجئين داخل فلسطين وفي دول الجوار. تحسّر المؤرخ الإسرائيلي بيني مورس ذات مرة لأن مشروع التطهير العرقي لم يكتمل في 1948 ولام دافيد بن غوريون لأنه لم «يكمل المهمة!».
لكن هذه النكبة الثانية تحدث على مرأى من العالم. ويُبَثُّ الموتُ حياًّ على الشاشات الكبيرة والصغيرة لنشاهد الأشلاء والجثث ونسمع صرخات الاستغاثة وبكاء الأطفال، أو نرقب بألم صمتهم وذهولهم من هول الوحشية. لكن حتى هؤلاء الأطفال، كما قالت إحدى عضوات الكنيست، يستحقون كل ما حدث وسيحدث لهم! قد تتفوق هذه النكبة في وحشيتها لأن الإبادة تُشن ضد شعب محاصر من البرّ والبحر والجو منذ سنوات طويلة، ويعيش في ما يوصف بأنه أكبر معسكر اعتقال في العالم، وعلى البقعة الأعلى كثافة سكانية. وفي فصل آخر مجاور تستمر حملة التطهير العرقي في الضفة الغربيّة المحتلة حيث يهجم المستعمرون (وما كان يجب أن يسمّوا مستوطنين) على القرى الفلسطينيّة ويهجّرون ويقتلون بحماية الجيش ومباركته لنهب المزيد من الأراضي.
وبينما يتظاهر الآلاف من الأحرار والشرفاء في مدن العالم مطالبين بوقف الإبادة ووقف إطلاق النار، وتتصاعد الأصوات الغاضبة المنددة بجرائم إسرائيل الشنيعة، يتواصل، من جانب آخر، الدعم الصريح من ساسة الدول الغربيّة («المتحضّرة»، كما يحب قادتها أن يصفوها، دول العالم «الحر») والكثير من نخبها بعنصريّة مقيتة. وفي المقدّمة، بالطبع، الولايات المتحدة، المشتركة في الجريمة لوجستياً ومادياً ومعنوياً. وفي خضم مشاعر الغضب وهول الصدمات من مدى التواطؤ الغربي مع حرب الإبادة، والتماهي الكامل مع الخطاب الصهيوني، وترديد رواية إسرائيل للتاريخ (وكأنه بدأ في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر وليس قبل قرن!) وللأحداث، وموجات العنصريّة المتجذرة، والعجز عن رؤية الفلسطينيين كبشر، أو التعاطف معهم، في خضم كل هذا، يتكرر سؤال على ألسنة الكثيرين: «أين الإنسانية»؟ ويستنجد آخرون كثر، بنوايا حسنة، في هذه اللحظة الكارثية المظلمة، بالـ»عالم» ويناشدون كل من يؤمن بالـ»قيم الإنسانية».
والمفارقة أننا نجد «الإنسانية» التي يلوذ بها الكثيرون في خطاب المجرم نتنياهو! فقد قال عن الهجوم الوحشيّ على فلسطينيي غزّة «نحن نخوض حرب الخير ضد الشر والإنسانية ضد البربرية». الفلسطينيون هم البرابرة في خطاب نتنياهو عما سمّاه حرب «الاستقلال» الثانية. هناك جملة غاية في الأهميّة في إعلان استقلال الولايات المتحدة، حليفة إسرائيل وموردة أسلحتها، الذي كتبه توماس جيفرسون في الرابع من تموز/يوليو، 1776، معلناً استقلال المستعمرات في أمريكا الشمالية عن بريطانيا لتكوين الولايات المتحدة. ولعلها ليست ذائعة الصيت مثل تلك التي وردت في بداية الوثيقة، والتي يردّدها الكثير من الأمريكيين بفخر واعتزاز، وغيرهم من الليبراليين في العالم دائماً. تقول الجملة إن «كل الرجال خلقوا سواسية». لكن الجملة التي تهمّنا تأتي في نهاية النص، إذ تشير، في معرض الاعتراضات على حكم الملك البريطاني آنذاك، إلى أنّه يحرّض السكان الأصليين على شنّ الحروب على المستعمرين وتصفهم، أي السكّان الأصليين، كالآتي: «الهنود المتوحشون، عديمو الرحمة، وقانون حروبهم المعروف بأنه تدميرٌ لا يميّز بين الأعمار والأجناس والأحوال». استثنى إعلان الاستقلال في «كل الرجال خلقوا سواسية» النساء وملايين المُسْتعْبَدين الذين اختطفوا من أفريقيا واقتيدوا إلى قارة أخرى، ووضع السكان الأصليين في خانة الوحوش فلا لا مكان لهم في رحاب الإنسانيّة التي خص بها الخالق الرجال البيض.
لن أكرّر هنا التصريحات العنصرية التي أتحفنا بها الكثير من المسؤولين والصحافيين الإسرائيليين منذ السابع من تشرين الأول/اكتوبر، والتي تُسْقِط الفلسطينيين من منزلة البشر وتطالب بمحوهم وبتدمير غزّة بأكملها وتحويلها إلى ركام. إنها عقيدة الاستعمار الاستيطاني والتراتبية العرقية/ الإثنية التي يهيكلها التفوق المفترض والمتخيّل، والتي لا يستوي فيها المستعمِر مع المستعمَر. ولا يُنظرُ إلى الأخير كإنسان له حضور في التاريخ والمكان (إلا كتفصيل في طبيعة بكر تنتظر من يستعمرها ويدخلها إلى مدار الحضارة ويضعها على طريق التقدّم). هذا إذا حصل على الاعتراف بوجوده أصلاً. (أو لم تنكر غولدا مائير، بكل بساطة، وجود الفلسطينيين؟ وشعار الصهيونية «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»؟).
هذه التراتبيّة العنصريّة متجذرة في عالمنا ومشفّرة في منظومة الحداثة الاستعمارية وفي الحقول المعرفيّة. والأمثلة كثيرة. من هيغل الذي قال إن أفريقيا بلا تاريخ، إلى إيمانويل كانت، فيلسوف التنوير، الذي صنّف البشر بحسب العرق وكتب «تجد الإنسانية أعلى درجات كمالها في العرق الأبيض». وبالرغم من كل النقد والنضال والمقاومة، فما زالت هذه التراتبية التي رسخها فكر الحداثة الاستعمارية سارية المفعول في اللاوعي الجمعي السياسي في العالم، وفي الغرب بالتحديد. وهي التي تنتج ثنائيات الحضارة والبربرية، والخير والشر، وتوزع الأدوار. وهي تحرّم وتحلل العنف، لا بحسب منظومة أخلاقية متكافئة، بل طبقاً لعرق من يرتكبه، أو عرق الضحية. وتحلل إرهاب الدولة «الإنساني»، لكنها تحرّم وتجرّم مقاومة الاحتلال والاضطهاد، سواء كان سلمياً أو عنيفاً.
حين خرج الفلسطينيون في مسيرات العودة السلمية على حدود غزة عام 2018 قتل الصهاينة 215 منهم وجرحوا 19 ألفاً. لطالما يتردد سؤال خبيث، يكرّره الصهاينة، وقد تلقفه المتصهينون العرب وأبواقهم أيضاً مؤخراً: أين مانديلا الفلسطيني؟ باعتبار مانديلا أيقونة ترمز إلى السلام والمصالحة. وهذه الصورة تم ترويجها بعد سقوط نظام التفرقة العنصرية وللتغطية على شيطنة الغرب لمانديلا لعقود. ينسى هؤلاء، أو يتناسون، أن مانديلا أمضى في السجن 27 سنة لأنه رفض التخلي عن الحق في استخدام السلاح ضد نظام الفصل العنصري. ويتناسون أن الولايات المتحدة وإسرائيل كانتا الأكثر دعماً ومساندة لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا حتى آخر لحظة. بل إن مانديلا، الذي كان زعيم الجناح العسكري للمؤتمر الوطني الأفريقي، كان على قائمة الإرهابيين في الولايات المتحدة حتى عام 2008. ويقودنا هذا إلى خطاب الحرب ضد الإرهاب الذي أعاد نتنياهو توظيف مفرداته فشبّه حماس بداعش، مع أن حماس حركة تقاوم الاحتلال العسكري في فلسطين في سياق استعماري، ونعرف ما هي داعش.
من حق أي إنسان أن يعيش بكرامة وحريّة في وطنه. ومن الطبيعي أن يحاول تحطّيم القيود وأسوار المعتقل، وأن يحارب بكل ما أوتي من قوة جيشاً سرق واستعمر أرضه وأرض أجداده وقتل وهجّر شعبه منها. ومن حقه أن يفك الحصار ويحرر الأرض بكل السبل، شاء العالم أم أبى. وحتى القانون الدولي، الذي لا يطبّق بعدالة إلا فيما ندر، والذي تجيّره الدول العظمى وحليفاتها لمصالحها وأطماعها، كلّما استطاعت، يعترف بحق تقرير المصير ومقاومة الاحتلال.
بالرغم من موجات التضامن الهادرة والدعم الشعبي العالمي لغزّة، فهناك، من ناحية أخرى، شراسة في المواقف العنصرية للكثيرين في «الغرب المتحضر» تدعم الوحشية الإسرائيلية. وهناك من يهلل ويصفّق ويستعجل الإبادة، ولا يعني له أو لها موت آلاف الأطفال الأبرياء شيئاً. لكن ربما ما كان علينا أن نُصْدَم أو نستغرب. ألم تبرّر مادلين ألبرايت، سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة عام 1996، قتل نصف مليون طفل عراقي بسبب الحصار الاقتصادي الذي فرضته الولايات المتحدة، وقالت أنه ثمن مستحق؟ ليست هذه أول مرة يدعم (أو يشن) فيها هذا الغرب أو العالم «الحرّ»، كما يحلو للمؤمنين به أن يسمّونه، حرباً وحشيّة، أو حصاراً مميتاً، أو يغض النظر عن إبادة. فمعظم هذه الديمقراطيات الليبرالية لم تنجح بعد في مواجهة ملفّات ماضيها الوحشي بصراحة كاملة، ولا الاعتراف بالجرائم التي اقترفتها في مستعمراتها، أو ضد السكان الأصليين، وما زالت العنصرية متجذّرة في مؤسساتها ومجتمعاتها.
أما إخوة يوسف، أي الأنظمة العربية، التي تستضيف سفارات الكيان الصهيوني بعد أن وقعّت معاهدات الخذلان، فلم تتجرأ حتى على قطع العلاقات الدبلوماسية. بوليڤيا كانت أشرف وأشجع. ولعل البعض الآخر المتلهّف قد انزعج لأن هذه الإبادة ستؤخر حفلات التطبيع المنتظر.
أهل غزة وحدهم يقاومون البرابرة والوحشية في هذا العالم البشع. عالم لا بد من تغييره، وإعادة تشكيل أطره ومنظوماته الدولية، على أساس العدالة والكرامة والمساواة الحقيقية والفعلية للجميع، لا مكان فيه لتراتبيات التفوّق العرقي والحضاري المتخيّل وممارساتها. لكي يصبح عالماً لا تكون فيه الإبادة ممكنة، ولا يُقتل فيه آلاف الأطفال بهذه السهولة. عالمٌ يكون فيه للإنسانية معنى يمكن أن نعوّل عليه.
كاتب وأكاديمي عراقي