مع كل عام جديد تأخذني الذاكرة إلى أيام تقريبا انتهت في مدينة مثل الإسكندرية، التي ولدت ونشأت فيها. كان الاحتفال بالعام الجديد سهرة بين العائلة أو الأصدقاء أو الجيران، وعندما ينتصف الليل يلقي المحتفلون زجاجات قديمة أو قللا فخارية من النوافذ، تتكسر في الشارع. كان ذلك تمثيلا للمثل الشعبي القائل «اكسر قلة وراه» يقصدون بذلك كل ما لا تحبه حين تودعه خاصة من البشر. فكسر القلة فأل بعدم عودته.
طبعا جرى ما جرى من تغير في الأحوال وصار الاحتفال بليلة رأس السنة الميلادية شكلا من أشكال الكفر، ليس بسبب كسر القلة، ولا من أجل نظافة الشوارع ، لكن لأنه احتفال بسنة ميلادية، وهذا يعني في نظر أصحاب هذا الفكر أنها سنة مسيحية. الحمد لله لم يلتفتوا إلى التقويم القبطي، ربما لأن لا أحد يحتفل بمرور سنة قبطية خارج الكنيسة أو المنزل، رغم أن شهور السنة القبطية لم تغب عن المصريين مسلمين ومسيحيين، وحولها كانت الأمثال الشعبية الشهيرة مثل «كياك صباحك مساك تفطر وتدور على عشاك» وكياك هي النطق العامي المصري لاسم الشهر كيهك، أو «طوبة تخلي الصبية كركوبة» وتعني أنه فى شهر طوبة يزداد البرد إلى درجة انكماش الشخص في نفسه وعدم قدرته على الحركة، أو «برمهات اطلع الغيط وهات» وتعني شهر جني المحاصيل الشتوية، أو «بؤونة تنشِّف المياه من الماعونة» وهذا يرمز إلى شدة الحر.
وهكذا في كل الشهور القبطية، وارتباطها بالمحاصيل الزراعية، لم يأت من فكرة دينية، رغم أن كل أسمائها تقريبا أسماء لآلهة مصرية قديمة، لكن جاء من الحالة الزراعية التي كانت عليها البلاد قبل أن يجرفها الفساد، ويتم التخلص من كثير جدا من الأراضي الزراعية لصالح المباني العشوائية، وهذا حديث طويل، لكن السؤال الذي يقفز هو، ماذا سيبقي من هذه الأمثلة بعد أن تتم إثيوبيا سد الخراب المسمى بسد النهضة. والسؤال الآخر كيف كان أهلنا والغالبية كانت تعمل في الزراعة، لا يبتدعون أمثالا شعبية عن التقويم الجريجوي أي الميلادي، من يناير/كانون الثاني إلى ديسمبر/كانون الأول. لم يكن ذلك نقصا في التعليم، لكن هكذا كانت مصر يوما ما، غلب فيها التقويم القبطي في العادات الزراعية. لم يجد المصريون في الشهور أي معني طائفي.
يعود بي هذا الحديث لأهنئ الجميع بسنة جديدة أرى الآن على السوشيال ميديا تجليات لها في عالم الأدب، مثل أسئلة لبعض القراء، أو الكتاب أو الجماعات الأدبية عن أفضل عشر روايات قرأتها في العالم السابق. كثيرون يبدون رأيهم في الاختيار وهذا حق لهم، رغم أنهم في الغالب لم يقرأوا كل ما صدر. من يستطيع أن يقرا مئات الروايات، التي صارت تصدر كل عام الآن. أتخيله لو فعل ذلك سيمشي عاريا في الشوارع. بالنسبة لي جاءني السؤال المتكرر من الصحافة عن أهم ما قرأت هذا العام. اعتذرت عن الإجابة في كل مرة، لأني لم أقرأ كل ما صدر. وفيما يخص الرواية بشكل خاص، تقريبا لم اقرأ غير ثلاث أو أربع روايات، بينما قرأت واقرأ الآن بشكل دائم كتبا فكرية وفلسفية ونقدية، في محاولة لاسترجاع قدراتي العقلية بعد رحلة المرض ومع التقدم في العمر. قرأت كتبا جعلت الفضاء مكتبة بحجم الكون، وكتبت عنها جميعا، هنا وفي صحف أخرى، وكتبا منها، «قارئ الجثث» من ترجمة الروائي مصطفي عبيد، وهي مذكرات الطبيب البريطاني سيدني سميث مؤسس الطب الشرعي في مصر، وقبله قرأت له كتاب «مذكرات توماس راسل حكمدار العاصمة» من ترجمته الفائقة أيضا. و»تصورات العدالة في تاريخ الفلسفة» لفريال حسن خليفة، و «مذكرات هدى شعراوي» التي قدم لها الباحث والمترجم طارق النعمان، كذلك كتاب «إنقاذ الأمل» للمفكر البحريني نادر كاظم، وكذلك كتابه «الشيخ والتنوير» وكتاب « اللوفر رحلة مع الألوان» للفنان التشكيلي والروائي عبد الرازق عكاشة، وكتاب «شبح الربيع» للناشط السياسي علاء عبد الفتاح و»بنت شيخ العربان» للروائية ميرال الطحاوي، وهو عن صورة البدوي في المخيلة الشعبية، و»البلاغة العمياء عند طه حسين» للباحث ممدوح فرّاج النابي، وكتاب «رحلات علي باي إلى مصر والحجاز وفلسطين ودمشق» من ترجمه الشاعر والروائي طلعت شاهين عن الإسبانية، و»أمينة رشيد أو العبور إلى الآخر» لسلمي مبارك بالفرنسية أصلا، ترجمة داليا سعودي، و»مصريون وروس» للقاص والباحث أحمد الخميسي، و»الصراع السياسي في التاريخ الإسلامي» للروائي إيهاب بديوي، و»لم يصبه العرش» لمحمد غنيمة و»المتن المجهول» لسيد محمود و»الطاهي يكتب والكاتب ينتحر» لعزت القمحاوي، و»أنا قادم أيها الضوء» للمرحوم محمد أبو الغيط ، ورواية «زهرة القطن» لخليل النعيمي و»الديكتاتورية الجديدة» لأنور الهواري، و»الفيلق المصري» لمحمد أبو الغار، و»مذكرات يهودي مصري» لألبير آريّه»
و»300000 عام من الخوف» لجمال أبو الحسن، و»كل دا كان ليه» لفيروز كراوية عن تطور الغناء والموسيقى من الحرملك إلى عصر الإنترنت، و»انت السبب يابا» لنوارة نجم، و»سينما المشاعر المنتهية الصلاحية» لمحمود الغيطاني، و»قاهرة المماليك من العمارة الإسلامية إلى البحث عن هوية وطنية» لرضوى زكي، و»علم الخيال» لسعدني السلاموني، و»رائحة الفراغ» لعادل واسيلي، و»العمران والسياسة» لمأمون فندي، وعلمانيون وإسلامويون» لعلي مكي، و» اليمننة» للطفي فؤاد نعمان، و»أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي» لكريم جمال، و»رجال عاشوا ألف عام» لجلال الشايب، ورواية بالإنكليزية هي «عازفة الماندولين الإيكارية» لأنجيل عزيز السكندرية المولودة من أب مصري وأم يونانية. وبالإنكليزية أيضا كتاب «مصر وفرنسا.. مواجهات وآفاق مشتركة» لمحمد عوض، وهو أبرز علامات العمارة والتاريخ في الإسكندرية.
كتب كثيرة تتوزع ما بين العلوم والأدب والفلسفة والسياسية والعمران، فكنت حين يسألني أحد عن أهم ما قرأت، أقول له مرتبكا، لم أعد أذكر، ويمكن أن تدخل صفحتي على فيسبوك وتعرف، فكل مقالاتي أضعها عليها بعد النشر واختر ما يعجبك! لا أعرف من فعل ذلك ومن لم يفعل ولا أتابع، فأكتفي بالمتعة التي حصلت عليها من القراءة، كما اكتفي بالمتعة التي أحصل عليها من الكتابة. هي أسئلة تتكرر كل عام، ودائما ما أقول للصحافيين عليكم بالنقاد، وبمن هم أصغر مني عمرا، فما أكثر ما أجبت عن هذه الأسئلة في أعوام سابقة، ويحدث هذا في مناسبات كثيرة مثل عيد الأم، أو عيد ثورة يوليو/تموز/ أو الخامس والعشرين من يناير أو الثلاثين من يونيو/حزيران . مناسبات عديدة لا أدخل في إجابة عنها لأن ما كتبته يكفي وكله موجود فلا شيء يضيع. ورغم أن السوشيال ميديا حافلة بالمقالات، فانا لا ألوم أحدا، فهذه مهنة من يسأل وهذا عمله، لكن هناك الكثيرون من أعمار أصغر أولى بالحديث.
أعود إلى الموضوع الأول وهو نهاية عام وبداية عام . هل ستختلف الأيام ونحن نرى ما يحدث في غزة، وتواطؤ حكومات العالم كله تقريبا عليها. هل سيحتاج هذا العالم أن نكسر وراءه قللا أو زجاجات. الحقيقة أنه يحتاج أن نكسر وراءه كل ما نملك. أن تصبح بيوتنا خالية من الأثاث كله. لكن هذا لا يمنع من فتح باب الأمل حتى لو مرت الليلة الأخيرة من العام في صمت. لا مجال للحوار عن حُرمة وحلال الاحتفال دينيا، ولعل هذا الحديث يختفي هذا العام، فما أمامنا من سياسة وإجرام في حق شعب غزة، يفوق كل حوار أو خلاف. فلنتمنى جميعا لغزة أن تنتصر، وأن تكون هذه بداية انفجار المجتمع الصهيوني من الداخل، وكلي أمل في ذلك. لقد وصل المسافرون ولا يريدون العودة والمهاجرون من إسرائيل الآن إلى المليون شخص، بعد أن كانو منذ أسبوع، نصف مليون، ولعل يوما يأتي تفرغ فيه فلسطين من كل صهيوني أثيم، وأن تكون سنة الانتصار والحرية.
روائي مصري