قبل أيام شربت قهوة مع صديق يدير قناة وطنية معروفة، كنت سعيداً برؤيته. وأثناء حديثنا عن الموسيقى والكتابة، قال ضاحكاً: قل لي يرحم الوالدين، واش جابك ل[لشيخة الريميتي] (سعدية بضياف)؟ واش وجدت فيها؟ ليست مي زيادة لتعيد لها الاعتبار ولا لور دكاش؟ لقد ارتقيت بالرواية العربية عالياً في رواية «كتاب الأمير» و«أصابع لوليتا» و«رماد الشرق» و«شرفات بحر الشمال» و«فاجعة الليلة السابعة بعد الألف»… واش راح تضيف لك الشيخة الريميتي روائياً؟ سمعت وقرأت أيضاً أنك مهتم بها وزرت منطقتها ومواقع حياتها في السنة الماضية وقرات الفاتحة على قبرها في وهران، وبدأت تتلمس مواقعها في تسالة وسعيدة وغليزان وباريس…». لم أستطع كتم غيظي، فقلت له ما أحسست به داخلياً. شعرت به يشتم جزءاً من ذاكرتي أنا الطفل الذي عاش أعراس قريتي والقرى المجاورة على صوت الريميتي وحضرت للشيخة حبيبة العباسية والشيخة الجنية والشيخ ابن عبد الله الوجدي رحمهم الله جميعاً وووو. «يا صديقي، الريميتي مشروع، متوسط المدى. أمامي الآن رواية «كتاب الأمير» في جزئها الثاني «غريب الديار».
لم أر في حياتي التي أقضيها اليوم متنقلاً بين عواصم العالم ناساً يحتقرون ثقافتهم الشعبية مثلما هو عندنا. ماذا فعلنا بـ [بقار حدة] التي لولا اهتمام الصديق الإعلامي الكبير عبد الكريم سكار لاندثرت إعلامياً؟ مع أن تأملاً بسيطاً في ثقافتنا الشعبية يقودنا إلى الانحناء أمام توغلها في الضمير الشعبي العام، الصادق. كانت أمي عندما تسمع أغنية «وادي الشولي» وقصة الشهيد [ابن علال] (المعركة وقعت في شهر نوفمبر سنة 1956 بـ «وادي الشولي» على مسافة 20 كيلومتراً من مدينة تلمسان شرقاً. استمرت من الساعة السابعة صباحاً إلى العاشرة ليلاً، استعملت فيها مختلف الأسلحة الثقيلة والطيران. شاركت فيها فصيلتان من جيش التحرير الوطني، كان على رأسها الشهيد «بن علال» الذي استشهد وسلاحه في يده. نفذ من الموت سبعة جنود، بينما كانت الخسائر الفرنسية أكثر من 400 بحسب الكثير من الروايات) وكذلك أغنية: «نوري يا الغابة» للشيخة الريميتي، تبكي، تبكي بدموع قاسية وظلت كذلك حتى وفاتها، لروحها الطيبة الرحمة والسلام. ليس فقط لأن ذلك يذكرها بفصول تعذيب زوجها «اللي تعلم فيه الشمايت» كما كانت تردد دائماً. وتحيل بذلك إلى الخونة الذين «باعوه» لعسكر الاستعمار الذي عذبه حتى الموت. الفن الشعبي يا صديقي بما فيه ما غنته الشيخة الريميتي، بوسائله البسيطة القصبة والقلال ولغة اليومي المشتعلة، صور أعماق الأشياء، وقال الحياة بكل تناقضاتها، وثبت اللحظات الأكثر عمقاً وصدقاً التي ربطت جيلاً بكامله بتاريخه الحي.
كانت «الثورة» موضوعاً أثيراً لها. ومن استمع إلى أغنية الريميتي: «نوري يا الغابة»… سيعرف مدى التزامها العفوي بالثورة الوطنية دون ادعاء أو تنظير. نعم، في كلامها قسوة تضاهي قسوة العقلية الذكورية المنافقة التي تحضر ليلاً سهراتها الشعبية على إيقاعات «شرك قطع» و»قلبة بقلبة» وفي الصباح تشتمها لكلامها «الفاحش». كل الذين تحبهم يا صديقي، الشاب خالد، الشاب مامي، الصحراوي، حسني الله يرحمه، خرجوا كلهم من عباءتها ونشيجها الخفي وقسوة كلماتها. هي التي شكلتهم بيدها المحناة أبداً واحداً واحداً. ما وصلت إليه، في بحثي، منذ سنتين في حياتها القاسية أذهلني، بل جعلني أتذكر إيديت بياف التي حولها الاهتمام الفرنسي والعالمي إلى أيقونة وحفنة من نور؟ وماذا فعلنا نحن بالريميتي La mami du Rai؟ أكلنا لحمها حية وميتة (توفيت في 16 مايو 2016) على مدار قرن من الزمن. مائة سنة مرت على ولادتها منذ سنة مضت [8 مايو 1923] من تذكرها بكلمة خير واحدة أو زارها في قبرها؟ كل شيء مر وسيمر، وكأن شيئاً لم يكن.»
كرمها [مجلس مدينة باريس] في نوفمبر 2018 بتسمية ساحة باسمها في الدائرة 18، لأنها كانت صوت الجالية المغاربية الذي ربط الهجرة بالوطن الأم. كانت سفيرة الجالية بلا حقيبة وزارية ولا اعتراف وطني.
أكبر جريمة في حق المبدع والفنان هي النكران وليس النسيان فقط.