السرد على أنواعه، هو الحقل الذي يُجري فيه عبد المجيد زراقط تجاربه البحثية. وَعُدتُهُ، في ذلك، خبرةٌ طويلةٌ في التدريس الجامعي، وثقافةٌ نقديةٌ واسعة، وأدواتٌ منهجيةٌ مناسبة. والحصيلة نتائج مفيدة راح يعلنها في مؤتمرات جامعية وندوات ثقافية، حتى إذا ما ساورته الرغبة في تعميم الفائدة، قام بجمعها ونشرها في كتابه النقدي الجديد «في السرد العربي/ شعرية وقضايا» الصادر عن دار الأمير. وغني عن التعبير أن كلمة «شعرية» تسمية معاصرة للشكل، وكلمة «قضايا» تُحيل إلى المضمون. وثنائية الشكل والمضمون ثابتة نقدية قديمة في النقد العربي، غير أن المتغير هو تسمية طرفي هذه الثنائية، عبر العصور الأدبية. وإذا كان الطرف الثاني من الثنائية «قضايا» من الوضوح بمكان، فإن الطرف الأول منها «شعرية» يحتمل مزيدًا من التوضيح. وزراقط يعرف الشعرية بأنها «الخصائص اللغوية التي يتصف بها النص الأدبي، وتعطيه هويته الأدبية، وتميزه من أي نص آخر». وبما أن الخصائص فنية تتعلق بكيفية بناء النص لا بماهيته، فإنها، من وجهة نظري، ترادف كلمة «الفنية»، وتعادل مصطلحات أخرى تختلف تسميتها باختلاف النوع الأدبي، فشعرية الشعر هي المعادل الموضوعي لأدبية الأدب، وروائية الرواية، وقَصَصِية القصة، وسِيَرِية السيرة، مما يمكن إدراجه تحت مصطلح فنية النص.
يشغل الكتاب الحلقة الثالثة والأربعين في سلسلة النتاج الأدبي المتنوع لصاحبه، والحلقة الرابعة والعشرين في سلسلة دراساته، ويشتمل على ثماني عشرة دراسة، تتمحور حول السرد بأنواعه المختلفة، وتتوزع على تسع دراسات في الرواية، دراسة واحدة في القصة القصيرة، دراستين في القصة القصيرة جدا، دراسة واحدة في القصة الومضة، دراسة واحدة في السيرة، وثلاث دراسات عامة. وبذلك، يستأثر السرد الروائي بحصة الأسد. وهذا طبيعي في زمن يعتبره البعض زمن الرواية، ويعتبر آخرون أن الرواية ديوان العرب الجديد. فكيف يقارب زراقط هذه الأنواع السردية في كتابه؟
في الرواية، يدخل زراقط إلى هذا النوع بمفتاحي «الشعرية» و«القضايا» المذكورين في العنوان، فيرصد، على سبيل المثال، في إحدى الدراسات، «ملامح السرد الروائي في لبنان في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين»، ويفعل ذلك، من خلال القراءة في نتاج اثنين وعشرين روائيا لبنانيا، نصفهم من الجنوب، بوتيرة نموذج واحد أو أكثر لكل روائي. وهو يحدد الملمح ويضرب عليه مثلاً تطبيقيا أو أكثر، يقوم بتحليله بما يؤكد تجسيده الملمح المذكور، وبذلك تجاور الدراسة بين التنظير والتطبيق، وتكتسب بعدًا تعليميا.
وإذا ما علمنا أن الدارس يحدد مصطلح «الملامح» بـ«الصفات الأساس اللامعة في السرد الروائي»، نستنتج أن المصطلح يتعلق بالخطاب لا بالحكاية. ويبلغ عدد الملامح المرصودة من قبله، في هذا السياق، ستة عشر ملمحًا، تتعلق بـ: بنية الرواية، تعدد البنى وتنوعها، الحبكة، تعدد الرواة، تنوع المادة المسرودة ونوعيتها. وهي ملامح تعكس الاتجاهات المتعددة للسرد، التقليدية والتجديدية والتجريبية، وتجمع بينها وحدة المرجع المتمثل في الحياة اليومية اللبنانية ذات القضايا المتعددة.
على أن الدارس يتناول الرواية، في ثماني دراسات أخرى، متعددة القضايا، مستخدمًا المفتاحين إياهما. وهو في درسه لا يكتفي بالاختيار والوصف والتحليل والاستنتاج، بل يبدي رأيه بصراحة معلقًا أو ناقدًا أو معترضًا أو مقارنًا، في هذا الجانب أو ذاك؛ ففي معرض تحليله رواية «حكاية زهرة» لحنان الشيخ، يرى أن «تعدد الرواة لم يؤد الوظيفة التي استُخدِم من أجلها كاملة، وإن كان قد قدّم الوسائط التي تسوغ معرفة ما يحدث في الحاضر خارجا وداخليا وما حدث في الماضي».
في القصة الومضة، يربط زراقط بين ظهور هذا النوع وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وتحولها إلى منابر مفتوحة لمن هب ودب، ما يؤدي إلى تعدد مستوياته واختلاط الغث بالسمين.
وفي معرض مقارنته بين الرواية ورواية «جسر الحجر» لليلى عسيران، يرصد نقاط التلاقي والاختلاف بين الروايتين، ويرى أن المنظورين الروائيين فيهما يتفقان في تحديد سبب الحرب، ويختلفان في تحديد سبيل الخروج منها. وهو يأخذ على رواية «ألف ليلة وليلتان» لهاني الراهب قصور منظورها الروائي في اعتبار «عاشوراء» مجرد هزيمة وندب، «لا يرى فيها الثورة الهادفة إلى التغيير، وكشف زيف «النظرية السياسية – الدينية» التي نظر إليها السلطان، وتأسيس نهج ثوري، منذ قيامها، ولا يزال مستمرا حتى هذه الأيام»، على حد تعبيره. ويأخذ على رواية «على بوابة الوطن» لأميرة الحسيني قفزها فوق تفاصيل من شأنها إغناء الرواية، والسقوط في إيجاز يُحيل القص إلى مجرد إخبار، ويذهب إلى حد اقتراح مسار معين لتلك التفاصيل. وينسب إلى رواية «تحليل دم» لعباس بيضون عدم خلو لغتها من «التعقيد والركاكة والأخطاء»، على سبيل المثال لا الحصر. وبذلك، يجمع في كتابه بين الدرس والنقد.
في القصة القصيرة، يقارب زراقط هذا النوع السردي، من خلال إضاءة القصة القصيرة السعودية. وهو يفعل ذلك بقراءة في دراسة نقدية لأعمال القاص السعودي محمد الشقحاء، أعدها طلعت صبح السيد، من جهة، وقراءة في مجموعتين قصصيتين للقاص نفسه، من جهة ثانية. وبذلك، يجمع بين حقلين معرفيين اثنين، هما نقد النقد ونقد القصة. يناقش، في الحقل الأول، ما ذهب إليه الدارس من أن القصة القصيرة في المملكة والبلاد العربية، لم يكن لها شأوٌ يُذكَر قبل الحرب العالمية الثانية، فيوسع زراقط المصطلح ليشمل ما صدر قبل هذا التاريخ، لاسيما أن هذا الفن «متعدد الأشكال، الأمر الذي لا يتيح تحديد مفهوم شامل ذي أسس وتقنيات نهائية».
ويُبدي ملاحظات على أحكام أطلقها الدارس تتعلق بتصنيف القاص ونمو تجربته، وبنشأة القصة القصيرة ومراحل تطورها.
ويدرس، في الحقل الثاني، مجموعتي «الغريب» و«الانحدار» للقاص نفسه، فيختار قصة واحدة من كل مجموعة، ويقوم بقراءة نصية لها، بعد تقسيمها إلى مشاهد قصصية. ويقتفي حركة نموها، بفعل محفزات داخلية وخارجية، حتى تبلغ فاعليتها الفنية. ثم يستخلص منها شعرية القصة أو قَصَصِيتها. وهنا، نتساءل: هل تكفي دراسة قصة واحدة لإضاءة مجموعة قَصَصِية؟ وهل تكفي دراسة قاص واحد لرسم صورة واضحة للقصة في بلد بكامله؟
في القصة القصيرة جدا، يعرف زراقط بهوية هذا النوع، فينفي عنه النقل والتقليد، ويعتبره وليد التجربة الأدبية القائمة على التجربة الحياتية، ويعرف بالمفهوم ومكوناته وتاريخه. ثم يقوم بقراءة تطبيقية في «قرى الملول» لسليمان جمعة، فيرى فيها تجربة جديدة تسهم في تأسيس النوع. فكيف تستقيم هذه الخلاصة مع تبلوره قبل صدورها بكثير، ومع وجود نظائر وأشباه له في تاريخ الأدب العربي؟ وفي السياق نفسه، يقوم زراقط برصد تمظهرات هذا النوع في أعمال زكريا تامر القصصية، ويستخرج ما يسمُهُ من خصائص، وهي: الاستقلالية، التعالق، التخيل، التفاعل مع الآخر، التناص، بساطة الحدث، خطية السرد، مألوفية المعجم، طلاوة التراكيب، وغيرها.
في القصة الومضة، يربط زراقط بين ظهور هذا النوع وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وتحولها إلى منابر مفتوحة لمن هب ودب، ما يؤدي إلى تعدد مستوياته واختلاط الغث بالسمين. وإذ يرى الدارس أن القصة الومضة نوعٌ أدبي جديد، فهو لا يفوته أن له، بدوره، أشباهًا ونظائر في تاريخ الأدب العربي كالتوقيعات والأمثال والحكم. وهو إذ يتناول، في دراسته، حجمه، شكله، لغته، مكوناته، أنواعه، يضرب أمثلة تطبيقية على كل من هذه العناصر. وبذلك، يقرن النظرية بالتطبيق ما يعزز الفائدة المتوخاة من الدراسة.
النوع الأدبي الأخير الذي يقاربه زراقط في كتابه هو السيرة. وهو يفعل ذلك من خلال جهد نظري تمهيدي، يتناول التعريف بها لغةً واصطلاحًا، أنواعها، خصائصها. ومن خلال جهد إجرائي تطبيقي، يتناول تقصي تمظهراتها في روايات معينة لجواد صيداوي، ويخلص بنتيجته إلى أن سيرته الذاتية وسير شخصيات أخرى تشكل المرجع الذي تحيل إليه تلك الروايات.
وبعد، «في شعرية السرد/ شعرية وقضايا» كتابٌ مرجعي آخر لعبد المجيد زراقط، يقدم فيه معرفة وافية بموضوعه نظريا وتطبيقيا، ما يجعل منه مرجعًا، لا غنى عنه، للدارسين والطلاب الجامعيين خاصةً، وللقراء عامة. وهو يعكس خبرة مؤلفه وحِرَفيتَهُ وثقافته ومنهجيته العلمية، ما يجعل قراءته محفوفةً بالمتعة والفائدة، ويجعل قارئه يعود من القراءة بمغانم كثيرة.
٭ كاتب من لبنان