عبد الوهاب الدكالي: صوت المغرب الخلاب وموسيقاه الباهرة

للموسيقار المغربي عبد الوهاب الدكالي مشروعه الفني الضخم، الذي بدأ في تأسيسه عام 1959 حين كان شابا موهوبا طموحا في الثامنة عشرة من عمره، أراد أن يسبق الزمن بموسيقاه وأن يخط لنفسه طريقا فريدا في عالم الطرب، واستطاع مع الوقت أن يحقق ذلك وتم له مبتغاه، لكنه لم يفقد أبدا تلك الروح الشابة الطموحة، التي تحمل عبء الخلق الفني ومعاناة البحث عن معاني الجمال وصوره، وتسعى دائما نحو التجديد والتجريب والتجويد، وكان للدكالي الفضل ولا يزال في صناعة الأغنية المغربية الحديثة وتطويرها، وقد تمكن من ذلك بصوته الخلاب البديع، وموسيقاه المضيئة الباهرة، وعزفه المتمكن البارع على العود، فهو فنان يمتلك الصوت والموسيقى، وهما من أهم وسائل التعبير الفني على الإطلاق، من حيث سرعة الوصول إلى المتلقي، وقوة التأثير فيه والنفاذ إلى القلب والروح مباشرة، بالإضافة إلى قدرتهما على تجسيد الهوية والترجمة عن الوجدان، وفي نبرات صوته، وأنغام ألحانه خلاصة الروح والأسلوب المغربي، وآثار رؤيته الفكرية التي تمكنه من صناعة الجمال بذكاء فني وعاطفة متقدة.
ويعد الدكالي مثلا أسمى لكل موسيقي ومطرب في سائر بلادنا العربية، ودليلا على أنه لا يمكن لأحد أن يكون فنانا حقيقيا وهو فارغ العقل والوجدان، غير متذوق للجمال وللموسيقى، والغناء في المغرب، كما هو معروف تاريخ طويل وقديم، يضرب عميقا في الأزمنة البعيدة، ويظهر ذلك في قوة الطرب لديهم، وتفرد النغمة الموسيقية، وتعدد ألوان الغناء، وتنوع الإيقاعات بارتباطاتها الجغرافية والتاريخية، ومهارة العازفين اللافتة التي تثير الإعجاب، وتحديدا في العزف على الوتريات، ومن خلال الاستماع إلى الدكالي يمكن التعرف بشكل كبير على شخصية ومقومات الموسيقى المغربية المعاصرة، التي نجح في نشرها عربيا، مع المحافظة على كيانها ومميزاتها، ويشعر المستمع بأن ألحانه صادرة عن نفس مغربية، متأثرة ببيئتها ومتفاعلة مع محيطها، ولديها القدرة على مخاطبة الجميع بلغتها الخاصة، فهو لم ينفصل عن الذوق المغربي، لمحاولة إرضاء ذوق آخر، وفي الوقت نفسه قام بتحرير الأغنية العربية من إطارها المحدود، وجعلها أكثر شمولا، وعمل على توسيع آفاقها وتفعيل دورها في التعبير عن المشترك العربي والإنساني بشكل عام.
وهو من ذوي الأصوات الرخيمة، وله نبرة ترتاح لسماعها النفس في أجوبته وقراراته، ويتسم بالمرونة وقوة النَفس وامتداده، ويمكّنه هذا الصوت العريض الضخم برنينه الأنيق من أن يتفنن في الطرب من أعماق الإحساس، ويُسهّل عليه تأدية الألوان المختلفة مع الحفاظ الدائم على رونق الغناء، وبقاء صوته راقيا غنيا، سواء كان هامسا أو جهيرا، وما أجمل تنغيماته الشجية عندما يحن صوته ويرق.

يميل الدكالي دائما إلى الانطلاق والحرية في لغته الموسيقية، واستحداث الألحان على نمطه الذاتي، والأفكار والتصورات الفنية، التي أنتجت أغنيات كانت عصرية جدا في زمنها ولا تزال

وهو بشكل عام يجيد استخدام المميزات الموسيقية لحنجرته المدهشة، ويتميز بقوة الجانب الدراماتيكي في تعبيره الغنائي، كما أنه يحبك الأداء التمثيلي أثناء الغناء، ويحسن التعبير عنه بتمويج الصوت، وتعد الضحكة المغناة الشهيرة في أغنية «هدي هي إنتي» مثالا على ذلك، وفي كل من حفلاته وأغنياته المصورة تظهر شخصيته الجذابة، التي تجمع بين خفة الظل والمرح والجدية الشديدة، بالإضافة إلى ما يتمتع به من كاريزما قوية، وكذلك يظهر انفعاله الموسيقي، وارتباطه بالعود الذي يعزف عليه واقفا، ثم يتحرك بحرية ويرفع ذراعه عاليا، بينما يمسك بآلته الحبيبة جيدا، ونجد أن أقدم أغنياته لا تزال حية، ولا تزال مؤثرة جدا، وفي ألحانه نستمع أحيانا إلى بعض اللفتات الشرقية، وإن كانت قليلة ونادرة، مثل بعض الضربات المنتظمة، والدقات الراقصة، التي تنسجم مع اللحن بشكل لطيف، كما قدم بعض الأغنيات المصرية الخالصة مثل أغنية «بُعدك على عيني» وهي جميلة حقا من ناحية الغناء واللحن والإيقاع، وتجري اللهجة المصرية على لسانه سهلة منضبطة تماما، حيث ينطق الحروف بلا تضخيم زائد أو ترقيق مصطنع، كما شارك الدكالي في بعض الأفلام القديمة مثل فيلم «القاهرة في الليل» عام 1963 ، لكن تظل أغنيته الخالدة «مرسول الحب» هي أكثر أعماله شهرة وشعبية في مصر.
ولا شك في أن إبداعه الموسيقي، أضخم من أن نذكره ونتناوله سريعا، لكننا نستطيع أن نحدد بعض الملامح الأساسية البارزة في فنه، وعلى رأسها أنه يهتم بالجانب التعبيري والوصفي في موسيقاه، ويمنح الكلمة أيضا كل طاقاته التعبيرية أثناء الغناء، كما في أغنية «حكاية هوى» وأغنية «مشى غزالي»، بالإضافة إلى التنوع بين عذوبة الألحان وبساطتها، وقوة الموسيقى وعمقها، وتعقيدها الكلاسيكي بأوزانه الزمنية، كما في قصيدة «مولد القمر»، وتناول بعض النواحي الإنسانية والمشاعر الأكثر ضعفا وحساسية، ومحاولات التصبر والتجلد، كما في أغنية «وحداني»، وأغنية «أنا والغربة»، وتتجلى قدرته على رسم القصة بالحكي الغنائي والموسيقي معا في أغنية «كان ياما كان»، والقدرة أيضا على خلق الأثر الدرامي، والتعبير عن الصراع الشعوري، من خلال الغناء والإلقاء الملحن، ومثل هذه الأغنيات التي تعكس صورا مأخوذة عن الحياة، وتروي قصصا نستطيع متابعتها، قد يكون فيها بعض التعويض عن المسرح الموسيقي أو الفيلم الغنائي.
ويميل الدكالي دائما إلى الانطلاق والحرية في لغته الموسيقية، واستحداث الألحان على نمطه الذاتي، والأفكار والتصورات الفنية، التي أنتجت أغنيات كانت عصرية جدا في زمنها ولا تزال، وهو دائم الابتكار والانتقال بين الألوان المختلفة، معتمدا على درايته الموسيقية الكبرى وتمكنه من التكنيك واتساع مدى موهبته، وللإيقاع في موسيقاه أهمية بارزة تظهر أكثر ما يكون في الألحان الموغلة في السرعة، ويكون بارعا في توظيف الإيقاعات المغربية، التي وإن كنا نجهل أصولها ومسمياتها، إلا إننا نلحظ تنوعها وحضورها في أغنياته، ويتسم اللحن لديه عادة بالسلاسة والتنوع في المقامات والتراكيب والأوزان الإيقاعية، والاهتمام بالميلودية في أغنياته الفصيحة والعامية على السواء، وانسجام تراكيبها وقوة تعبيرها، والافتتاحيات العذبة والمقدمات المملوءة بالنغم الشجي الممتاز، والصياغة الإبداعية المنظمة والمنمقة، كما أنه يجيد توظيف التكرار، كأحد جماليات الموسيقى، كما في أغنية «حجبوك العدا»، وهي من أجمل أغنياته بحق، وتظل بعض مقاطعها تتردد في الذهن لفترة طويلة بعد سماعها، كالمقاطع التي تقول: «لو بنوا عليك سور نهده بدراعي أو قطعوا بيك البحور نشقها بشراعي»، كما تعد أغنية «محراب القدس» من أجمل الأغنيات العربية عن المسجد الأقصى، فهي غير مباشرة ولا متشنجة، ولا يشعر المستمع بأن من يغنيها يؤدي مهمة رسمية تم تكليفه بها، بمشاعر مصطنعة من أجل الحصول على رتبة فنية، أو غير فنية، لكنه يشعر بأنها نابعة من القلب، نظما ولحنا وصوتا وأداء وخشوعا صادقا على المسرح، وللدكالي الفضل في تقديم أنواع من الأغنيات العربية التي تعمل على مخاطبة العقول والأفكار، مثل أغنية «سوق البشرية» التي هي أكبر قيمة وأعظم أهمية من أي جوائز دولية حصلت عليها، وكذلك أغنية «الله حي» الفريدة في أسلوبها من ناحية الكلمات والموسيقى والغناء، وتُظهر قدرته على تلحين الاسم والحرف، وكل منهما للشاعر المغربي عمر التلباني، الذي هو أحد الشعراء الكثيرين الذين شاركوه في إبداع أغنياته، وإذا كان الدكالي لا ينظم أشعاره بنفسه، فإنه يختارها، وهذا الاختيار يكون معبرا عن فكره وأهدافه الفنية، وما يرغب في توصيله للأسماع والأفهام والأفئدة، وما أجمل أن نستمع إلى مثل هذه الأغنيات، وأن نتبع عبد الوهاب الدكالي في رحلته الغنائية الممتدة وسفره الموسيقي الطويل.

٭ كاتبة مصرية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول _خليل_@ عين باء:

    يمثل هو و الراحل محمد الحياني و عبد الهادي بلخياط اقطاب الاغنية المغربية بعد الاستقلال

    استفاد في بدايته من تعامله مع موسيقيين كبار امثال عبد الرحيم السقاط و عامر و البيضاوي

    فانفرد بطريقته الخاصة اغاني مثل ما انا الا بشر التي غنتها الشحرورة صباح _ بلغوه سلامي

    و كان يا مكان ستبقى راسخة في اذهان المستمعين عبر الاجيال

    1. يقول مروة متولي:

      جميلة جداً أغنية ما أنا إلا بشر، لديه الكثير من التحف الفنية الخالدة ومنها “كان يا مكان ” بالطبع. استمعت إلى القليل من أعمال محمد الحياني، ولم أكتشفه بعد كما يجب، لكن صوته مذهل وإحساسه أيضاً.

  2. يقول _خليل_@ عين باء:

    يحكي عن تجربته في تلحين اغنيته الشهير كان يا مكان انه لم يتردد في الذهاب لساحة جامع الفناء

    لارتياد حلقات الحكواتية و الاستفادة من فن الحلقة لمعايشة فن الحكي الذي يستأثر بروح الاغنية

    كما نهم من كل الاشكال الموسيقية المغربية على اختلاف هوياتها عبد الوهاب الدكالي ليس فنانا

    موسيقيا و ممثلا فقط بل له ميزة فنية اخرى بارع فيها لا يعرفها الا القليلون و هي موهبة الرسم

    و التشكيل في الختام اشكرك اخت مروة على التعريف بالفنانين المغاربة بحرفية فنية عالية

    تحياتي

    1. يقول مروة متولي:

      تحياتي لك أخي خليل. الآن أفهم السر وراء الأسلوب الرائع في أغنية “كان يا مكان”، شكراً لك على هذه المعلومة. استمعت إلى أغنية “حبيبتي” والشكر لك أيضاً لأنك عرفتني بها في تعليق سابق، واستمعت كذلك إلى “آخر آه”، وأحببت كثيراً صوت الدكالي مع موسيقى عبد السلام عامر، لكن فضلت أن أدخرهما لموضوع آخر إن شاء الله.

  3. يقول رشيد رشيد من المغرب:

    حفظه الله و رعاه
    مخ خيرة ما انجب المغرب فنيا

    1. يقول مروة متولي:

      موسيقار مغربي عظيم نفتخر به جميعاً. ربنا يحفظه

  4. يقول Osama-USA:

    من اشهر أغانيه اغنية ( مرسول الحب)

    1. يقول مروة متولي:

      نعم نعرفها جيدا في المشرق العربي ونحفظها من زمان.

    2. يقول عربية حرة:

      أغنية “مرسول الحب” مصورة سينمائيا عام 2008 ومنشورة على الـ”يوتيوب” لمن يريد الاطلاع؛
      للأسف “مرسول” هي من بين الأغنيات العديدة التي تكرس فكرة هيمنة الذكر وتبعية النساء (أو بالأحرى الحريم) لهذا الذكر كل التكريس؛ فحين نراه يشرع في الغناء وهو يتجول في غابة كثيفة الأشجار، وكلما يمر بشجرة من أشجار هذه الغابة تنط له فجأة امرأة “حسناء” من ورائها، إلى أن يكتظ المشهد بالنساء (أو الحريم)، وليس لهن في الأخير عندها إلا أن يرتمين عند قدميه بكل طوع وإذعان واستخذاء وكأن كلا منهن تقول بلغتها، لغة الصمت المكبوت: “شبيك لبيك نحن كلنا جواريك وإماءك بين إيديك”!!!؟
      لا أعتقد أن أية امرأة حرة كريمة على هذه الأرض تقبل بهذه المهانة بأي شكل من الأشكال حتى لو كانت حياتها كلها تتوقف على “غنائه الشجي”!!!!؟؟

    3. يقول مروة متولي:

      أنا أحب هذه النسخة المصورة من أغنية مرسول الحب.

  5. يقول هيثم:

    لا يشعر المستمع لأغانيه بالملل ولا بالرتابة لأنه يتميز بالاجتهاد والتجديد والابداع وسعة الخيال بدءا بأغنيته الأولى يا الغادي في الطوموبيل ثم ما أنا إلا بشر التي غنتها ايضا الفنانة اللبنانية صباح… نتذكر انه استقر في مصر بداية الستينيات من القرن الماضي لصقل مواهبه وتطوير نتاجه الموسيقي.شكرا للأخت مروة على اهتمامها وتمكنها بمجال الفن الموسيقي والغناء في المغرب.

    1. يقول مروة متولي:

      شكراً لك أستاذ هيثم. بالفعل لا مجال للملل أبدا، ومع إعادة الاستماع تكتشف الجديد في التكنيك والجماليات، وهكذا هو الفنان الحقيقي.

  6. يقول سعيد:

    هناك العديد من الاغاني التي لم يتم التطرق لها في المقالة الرائعة ك هذه يدي ممدودة و الدار لي هناك والاغنية الوطنية الخالدة حبيب الجماهير

    1. يقول مروة متولي:

      نعم وغيرها الكثير، أتمنى أن أتمكن من الكتابة عنه مرة أخرى.

  7. يقول عبدالإله:

    برافو عليك أستاذة مروة ! أضفت الكثير على ما قيل لحد الآن في حق هذا الفنان الكبير المتميز ! تعبيرك ينم عن ثقافتك الكبرى و حسك الفني العميق. أسلوبك السليم يبعث على الارتياح للنفوس التي تقدس اللغة. عبدالوهاب الدكالي فنان ذو كاريزما اسثتنائية !

  8. يقول عبدالإله:

    برافو عليك أستاذة مروة ! أضفت الجديد المتميز على ما قيل لحد الآن في حق هذا الفنان العظيم المتميز ! أسلوبك ينم عن ثقافة كبيرة و حس فني عميق. لغتك السليمة الجميلة مطمئنة على ماضي و حاضر و مستقبل لغة الضاد.

  9. يقول الدوال جمال:

    جل أغاني الموسيقار عبد الوهاب الدكالي لها قصة. لاتتركيني
    في نفس العمارة التي كان يسكنها الموسيقار ع.د في القاهرة كانت تسكن فتاة غاية في الجمال كان الموسيقار مع الشاعر محمد الكيار يعلمه اللهجات المصرية طرقت الباب دخلت وقالت بأن أمها قررت الرحيل من العمارة بعد أن ودعت الموسيقار كتب الشاعر أغنية لا تتركيني
    إن شئت أن أحيا وأعطي الناس إحساسي وفني لا تتركيني….

  10. يقول الدوال جمال:

    أود أن أتقدم لك بالشكر على هذه المعلومات القيمة والغنية والتي سوف يستفيد منها المتتبعين للفن الجميل.

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية