فيليب تيستار ـ فايانكثيرون هم الفنانون المشاهيرأو العلماء الكبار الذين عانوا من اضطرابات عقلية حادة.فما هو إذن الدور الذي يلعبه الجنون في الإبداع ؟بين نور العقل وآلام النفس، هذا غوص في القلق المصحوب بالألم لدى بشر استثنائيين. هل عانى ميكائيل أنجلو، موزارت، نيتشه، هوغو، تشرشل، وشخصيات عبقرية أخرى كثيرة من المرض العقلي؟ إذا كان الإبداع يسقي حقول الآداب والفنون والفلسفة والعلوم والسياسة،فهل ينشأ الإبداع الرفيع من اختلالات الذهن؟ لا تعود فكرة أن المعاناة النفسية هي الثمن الذي ينبغي دفعه لتحقيق مصير متميز، إلى تاريخ قريب.هاهو أفلاطون، في الحضارة الإغريقية القديمة يؤكد أن البشر العباقرة هم في العادة يعيشون ‘خارج ذواتهم’،وطرح تابعه أرسطو هذا السؤال: ‘ لماذا كان كل الرجال الذين تميزوا في الفلسفة والسياسة والشعر، أو في الفنون، كما يبدون لنا، حزانى؟ ‘ لقد بلغت الأطروحة التي تؤكد أن الجنون يسبب و يغذي العبقرية أَوْجَها في القرن التاسع عشر،وقد كانت تم تفعيلها في عصر النهضة، لتمجيد السمو الفكري ‘ للمحزونين’ وحضرت في مسرحية ‘ طبيب رغم عنه’ لموليير(1)، ودُعِّمت في عصر الأنوار، من طرف الطبيب وعالم النبات الهولندي هيرمان بويرهاف، من بين آخرين، الذي رأى ‘ أنه يوجد دائما نوع من الهذيان في العقول الكبيرة’ . يُبحث عن المريض المتخفي في شخصية المبدع، وعن الانهيار النفسي وراء العمل الإبداعي الرئيس. حيث يشخص شاتوبريان ‘كمريض’ عانى من ‘ الإرهاق المبكر’، والفيلسوف أوغست كونت ‘كمريض نفسي متصوف ذي هلوسات وانتشاءات’،وموسيه على أنه عانى من ‘ انهيار نفسي حاد’، وبلزاك على أنه ‘ مهووس لا يتطلب علاجه مراقبة’ ، وفلوبيرعلى أنه مصاب ‘ بالصرع الهستيري’ . لقد غربل الطبيب النفسي الإيطالي سيزار لومبروزو، الذي كتب سنة1889 (الرجل العبقري) التاريخَ العالميَّ ليجد فيه أدلة قرابة بين الإبداع والمرض النفسي.’وكل أمر يخدمه في التقريب بين العبقرية والجنون، حتى تعبير الوجه. وهكذا يكتب أن بودلير’ يبدو في صورته الشخصية، الموضوعة على رأس أعماله، المنشورة غداة وفاته، كالنمط الحقيقي للمصاب بجنون العظمة:مثولُهُ الاستفزازي، ونظرة التحدي، والاعتداد المبالغ فيه بالنفس’.هل هناك سبب طبي وراء الإبداع؟إذا كانت خيميائية ‘ العملية الإبداعية لا تزال تسحر كثيرين، فإن المعطيات العلمية الحديثة تسمح بإلقاء الضوء على الظاهرة من منظور أكثر عقلانية. وينبهنا عالم النفس و الأعصاب سباســـــتيان دييجــــــيز، الذي يعمل بمختبر العلــوم العصبية الإدراكية التابع لمعهد العقل والدماغ بمدرسة البوليتكنيك الفيدرالية بلوزان(2)، إلى أن الأمر ‘ لا يتعلق بتفسير عمل إبداعي فريد، فقط بالمرض العقلي لصاحبه، والفن عموما بدرجة أقل، ولا حتى ‘ العبقرية’ بعلم الأعصاب أو الطب النفسي’. ويذهب الطبيب النفسي جون كوترو(3) أبعد، قائلاً: ‘إن تحليل مصير المبدعين الكبار ، أولئك الأشخاص الذين خلخلوا عقول المتفرجين، المغرقين في رضاهم عن المجتمع الإنساني،بتمكينهم من مشاهدة غير المألوف، هو تحليل يبرز إلى السطح ما يرتبط، بدرجة مدهشة، بالاضطرابات الوجدانية. إلا أنه لا يكفي أن يعاني الفرد من الاضطرابات الوجدانية حتى يكون عبقرياً، إذ يجب التوفر على قدرات إدراكية وأفكار تخرج عما هو سائد، وبنفس الطريقة فليس كل العباقرة يعانون من الاضطرابات الوجدانية.’ فقد عاش ‘مبدعوعوالم’ كبارٌ، بالخصوص في الموسيقى أو الرسم ( باخ، روبنز، رفاييل، كورو، إلخ.) حياة هادئة ومتوازنة. لكن الشخصيات ،التي هي بنفس هذا العدد أو تزيد عليه، والتي خلخلت حساسية ومعتقدات وأخلاقيات ، بل وحتى طرق إدراك العالم لدى معاصريهم،شارفت حافة الجنون، إن لم تكن قد وقعت فيه، وهناك ، بالخصوص ، مرض نفسي ذو أصل وراثي استرعى انتباه الأخصائيين المتلهفين على حل سر ‘الإبداع المفرط’ لدى المبدعين، وهو الاضطراب ثنائي القطبين للمزاج ، الذي كان يعرف في الماضي بالجنون الدوري، أو اضطراب المزاج الدوري، أو عُصاب الهوس الاكتئابي،تتناوب في هذا المرض النفسي العصبي حالات من ‘الارتفاع’ والانخفاض’ ، هي نوبات من الهوس والتهيج (4)، ونوبات من الإرهاق/ الانهيار الاكتئابي.حيث يتبع الابتهاجُ غيرُ المسيطر عليه ، والمقرون بالاشتغال المفرط للدماغ الانفعالي ـ كما يضيف سباستيان دييجيز ـ التشاؤمَ الأكثر عمقاً، والذي يمكن أن يؤدي إلى الإحساس بالعجزالمطلق، أو الإقدام على الانتحار. ففي فترة الابتهاج يتصور المريض أنه قادرٌ على هد الجبال، ويتسارع كلامه، وتقل حاجته للنوم .’ كما يكثرنشاطه، ويفكر ويتصرف بسرعة ‘ يتابع الطبيب النفسي فيليب برونو(5): ‘ويسكنه نشاط ذهني محموم ، يرى معه المريض، مائة فكرة في الثانية الواحدة ‘ . وهي نوبات من التهيج الوجداني الإبداعي لجهة الابتهاج، سماها الكاتب فرناندو بيسوا بـ’ نوبات الغزارة ‘ ووصفها نيتشه بـ ‘ السكرات ‘ وشبهها كوكتو بـ ‘ الخيل الجامح حين فوزه بالسباق ‘. ويحدد فيليب برونو أنه خلال مدة نوبة الهوس التي تترافق مع تراجع للكوابح والحواجز الاجتماعية ‘ يصبح توارد الأفكار سهلاً،والمفكر فيه: شخصياً، ومتفرداً. ويغدو المريض رؤيوياً.فيمسي الانخراط السريع في حالة الإلهام ميزة ملحوظة للعبقرية المبدعة ‘.وتعد لائحة الشخصيات المشهورة التي يُشتبه في أنها أظهرتْ سمات الاضطراب ثنائي القطبين، مثيرة للإعجاب، رغم أن كل ‘سيرة حياة مرضية’ لماضي الشخص ينبغي أخذها بتحفظ. فإلى جانب الأسماء التي سبق ذكرها، يتجاور ملك فرنسا شارل السادس المسمى بـ ‘المجنون ‘، نابليون، همنجواي، دوستويفسكي، غوغان، مالرو، جيريكو، لينكولن، فان جوخ، الإسكندرالآكبر، كرومويل، جوته، نيلسون، ستريندبيرغ، تولستوي، بو، برليوز، بافيز، ألتوسير، فيرجينيا وولف…على غير ترتيب. وتعتبر حالة شومان علامة رمزية.’فعملية الإبداع عند هذا الموسيقار، المفرط الانفعال، والمثالي والكريم، هي ثنائية القطبين بامتياز'(6) كما يؤكد طبيب النفس والأعصاب مارك ـ لويس بورجوا، ‘ فتأليف أعماله كان دورياً، مع تناوب فترات الحماس الإبداعي ، وفترات الاكتئاب التي خلتْ مطلقا من أي إنتاج.’ ويذهب فيليب برونو إلى القول :’إن الطاقة الإبداعية للهوس هي هادرة وفجائية في الأدب، حيث كتب فيكتور هوغو ‘ القادة العسكريون’ في ستة أسابيع، خريف 1842 وستة آلاف بيت من ‘العقوبات’ في بضعة اشهر فقط، في منفاه في جيرسي.’ وفي نظر الطبيب النفسي جون كوترو، يُفسِّر تسارعُ الفكر والكلام الخاص بالهوس بلاغةَ الكاتب الشعبي فريديريك دار،ومهارته في تكرار تجنيس الجمل، وفريديريك هذا هو المؤلف المرح لنص : التحليق فوق عش الكوكو، ونص: الحياة الخاصة لوالتر كلوزيت وسيسيت بولفار ‘.والهوس يتَّسق مع الفلسفة أيضاً، وكدليل على ذلك فلسفة وأعمال نيتشه’ التي كانت على إيقاع التغيرات المتوالية والفجائية لمزاجه وصحته ونوباته الإبداعية حتى عام1888 آخر أعوام صفائه الذهني، الذي سجل تسارعاً مذهلا لإنتاجيته .كما يلاحظ سباستيان دييجيز. ففي ثمانية اشهر ، من ماي( أيار) إلى ديسمبر(كانون أول) 1888 كتب الفيلسوف ‘ حالة فاغنر’ و’ أفول الأصنام’ و’عدو المسيح ‘و’ هذا هو الإنسان’ وجمع’ قصائد مديح ديونيزوس’ وأكمل ‘ نيتشه ضد فاغنر’. أما فان جوخ فيقول نفس الأخصائي: ‘إن الاضطراب ثنائي القطبين ـ كما يبدوـ يمكن أن يكون تعليلاً، أيضاً، لإنتاجيته الإعجازية، ففي أقل من عشر سنوات، بين 1882 وسنة انتحاره1890، أنجز نحو 900 لوحة وأكثر من 1000رسم، كان جزء كبير منها قد أنجزخلال السنتين الأخيرتين، و90 خلال الشهرين الأخيرين.’الإشارات:*مقتطف من مقال مطول بعنوان (عبقرية الجنون الإبداعي) للكاتب فيليب تيستار ـ فايان، مجلة (العلم والحياة ـ عدد فصلي ، خارج السلسلة رقم 255 ـ يونيو(حزيران)2011 ، ص. ص. 135 ـ 138)’إنه لشيء مثير للإعجاب أن كل الرجال العظام هم دائماً ذوو نزوات، وذوو قدر قليل من الجنون ممزوج بعلمهم. ‘ الفصل الأول ، المشهد الرابع .ومؤلف: آلام فنانين : ما تخبئه الأعمال ـ دار نشر بُلان، 2010ومؤلف: لكل إبداعيته. أينشتاين ، موزارت، بيكاسو… ونحن. دار نشر أوديل جاكوب، 2010Hypomanieمقتطف من: العبقرية والجنون . دار نشر أوديل جاكوب2007ومؤلف: الهوس والاكتئاب .دار نشرأوديل جاكوب، 2007 ترجمة: بيْسان بن ميمون