الملايين حول العالم ومن مختلف الأعمار والخلفيات يعشقون طعم الشوكولاتة، لكن القليل فقط من هؤلاء يفكر في مصدر هذه الشوكولاتة اللذيذة وطريقة وصولها لمتناول أيدينا. ينتج الكاكاو في بلدان العالم الثالث بواسطة مزارعين محليين، وينطبق على زراعة هذا المنتج وجمعه ما ينطبق على زراعة وجمع غيره من المحاصيل، فالظروف الاقتصادية في بلدان الجنوب، لا تسمح بمراعاة المعايير الإنسانية كافة المتعلقة باستخدام العمالة وحقوق المزارعين، بما في ذلك الشق المتعلق بعمالة الأطفال، الذي يتناقض مع المعايير الدولية.
هنا وجدت شركات الشوكلاتة الكبرى نفسها في مأزق لم تملك إزاءه سوى إعلان التزامها بمعايير حقوق الإنسان، لأن تجاهل الواقع في مناطق إنتاج المواد الخام وإظهار اللامبالاة يخصم بالتأكيد من رصيدها الإنساني ومن ثم التجاري.
في مقابل إصرار هذه الشركات على اتباعها الأنساق الحقوقية في جميع مراحل صناعة الشوكولاتة من الإنتاج إلى الاستهلاك، يحاول ناشطون ومجموعات حقوقية تفكيك هذه الادعاءات بتسليط الضوء على الواقع الفعلي، الذي يشير إلى فشل برامج حماية الأطفال، التي ترعاها بعض هذه الشركات، أو بعض المنظمات الدولية. في نظر هذه المجموعات الحقوقية فإن المستهلك يتناول في حقيقة الأمر شوكولاتة هي مزيج من استغلال العمال وتوظيف الأطفال، بل والعبودية أيضاً. ينقسم الناس إزاء هذا الموضوع، فيرى البعض أن هذه الشركات تفعل ما بوسعها، وأنه لا يمكننا أن نتصور أن معايير الجمع والتصنيع في بلد مثل ساحل العاج، الذي ينتج 40% من كاكاو العالم، يمكن أن تكون مماثلة للمعايير الأوروبية. في المقابل تنطلق وجهة نظر أخرى من كون أن هذه الشركات الرأسمالية هي استغلالية بدورها وباحثة عن الربح، وبهذا فهي لا تكترث كثيراً بالمسائل الإنسانية، إلا في المستوى الذي لا يضر سمعتها بشكل واضح. ساحل العاج مثال جيد لطريقة العمل، ففي هذا البلد الفقير لا ينتج الكاكاو بشكل صناعي محترف، كما يمكن أن نتصور، وإنما بشكل زراعة أهلية لمساحات صغيرة، حيث يتحكم في المشاريع العشرات من المزارعين، الذين يمكن وصفهم بأنهم من صغار رجال الأعمال. هل تجرّم ساحل العاج عمالة الأطفال؟ الإجابة هي نعم، بل إن العقوبة قد تصل إلى السجن لمدة ستة أشهر. هذا من الناحية النظرية، لكن من النواحي العملية فإنه يصعب إثبات هذا الجرم، أو التحقيق في وقوعه، فالأطفال لا يحرصون على الشكوى ضد مشغليهم، ويبدو الأمر وكأن الجميع متعايشون مع هذا الوضع. في الحقيقة فإن غابات الإنتاج الكثيف تبدو مناطق خارجة عن القانون، بل إن زراعة الكاكاو التي سيطرت وطغت على المنتجات الأخرى، هي في كثير من أماكنها نشاط غير شرعي. هنا يمكن للمرء أن يسمع عن «الدوزو» التي هي في أصلها كلمة قديمة كانت مستخدمة في منطقة الغرب الافريقي للدلالة على مجموعة الصيادين التقليديين. اليوم تشير كلمة «الدوزو» إلى المجموعات المسؤولة عن حماية مزارع الكاكاو من عين المتطفلين، التي يتسع دورها بشكل يتجاوز دور قوات الشرطة، لتصل مرحلة الميليشيا التي تسيطر على المكان بشكل كامل، بل التي تفرض رسوماً على عابري الطريق.
حسب منظمة العمل الدولية، فإن عدد أطفال الكاكاو يقدر بمئتين وستين ألف طفل. وفق معايير المنظمة فإنه لا وصف لظروف العمل هذه سوى العبودية
في داخل هذه الغابات يقبع عمال الكاكاو، يكتفي هؤلاء العمال بما توفره لهم الطبيعة من فواكه كالموز ويشربون المتاح من مياه النهر، ويلتحفون السماء بشكل فعلي معرضين للسع الحشرات، ولكل ظروف الطبيعة، حسب الفيلم الوثائقي الذي عرض على القناة الفرنسية الثانية تحت عنوان: الكاكاو: أطفال في المصيدة، فإن واحداً من كل ثلاثة عمال هو طفل. أكد ذلك الوثائقي معلومة أخرى وهي أن هؤلاء العمال ليسوا في غالبهم من ساحل العاج، بل من بوركينا فاسو المجاورة، وهذا يشمل أيضاً الأطفال الذين يهاجرون ليبقوا لأشهر، بل لسنوات طويلة أحياناً معزولين عن العالم بما يشبه حياة المسجونين. المشكلة هنا لا تكمن فقط في مجرد عمل الأطفال، أو في ابتعادهم عن محيطهم الأسري، أو حتى في تركهم المبكر لمقاعد الدراسة، وإنما تتعدى ذلك لاستغلال فقرهم وحاجتهم، فهؤلاء الأطفال يقومون بأعمال شديدة الخطورة وغير مناسبة لأعمارهم من قبيل رش المواد الكيميائية، أو استخدام آلات القطع الحادة، وبالفعل فقد فقد المئات منهم حياته أو أطرافه جراء ذلك، فالأكيد أن تقطيع الكاكاو الجاف ليس بلذة أكل الشوكولاتة، أيضاً، وبالأخذ في الاعتبار أن العائد عن هذا العمل لا يكاد يتجاوز، وأحياناً لسنوات طويلة، وجبة الأكل الأساسية البسيطة، قبل أن يصل العامل درجة الحصول على مكافأة متواضعة هي عبارة عن سلة كاكاو، فإن الأمر يرقى، بلا مبالغة، لدرجة العبودية. حسب منظمة العمل الدولية، فإن عدد أطفال الكاكاو يقدر بمئتين وستين ألف طفل. وفق معايير المنظمة فإنه لا وصف لظروف العمل هذه سوى العبودية، لكن الجديد في هذه العبودية هو أنها عبودية اختيارية، ففي الغالب يعلم أهل الطفل أنه سوف يعمل لسنوات بلا مقابل ولا عائد سوى توفير مصروفاته، وسوى مبلغ زهيد قد لا يتجاوز ما يساوي ثلاثمائة دولار تتسلمها العائلة الفقيرة التي تكون أحوج ما تكون لهذا المبلغ.
خلاصة الأمر هي، أن الكاكاو المجموع عند التاجر المحلي في نهاية اليوم هو خليط من منتج المزارع المعلنة، ومن المزارع التي تعمل في الظل، وعلى الرغم من ادعاء كثير من تجار الكاكاو بأنهم يتعاملون وفق المعايير القانونية التي تجرم عمالة الأطفال، كما تجرم القضاء على الغابات واستبدال البيئة الطبيعية بالكاكاو، إلا أن الواقع هو أنه، وحين يتعلق الأمر بشركات المصدرين، فإن كل شيء يختلط ببعضه.
هنا يبرز دور شركة «كارغيل» الأمريكية التي تشتري مجمل حصاد الكاكاو لتعيد تصديره إلى شركات الشوكولاتة الكبرى. يبدو الأمر تجارة رابحة بالنسبة للتجار المحليين، الذين يأخذون مالاً مناسباً بالنظر إلى بضاعتهم التي جمعوها، من دون أن تكلفهم شيئاً كثيراً، كما يبدو مربحاً أيضاً لشركة «كارغيل» التي تعيد توزيعه على المستوى العالمي بأسعار مضاعفة وبما يحقق لها أرباحا مليارية كل عام، بالتعاون مع كبرى مصانع الشوكولاتة. هل يمكن لهذا الوضع أن يتحسن؟ بالتأكيد نعم، ليس بالطريقة الأصعب التي تعتمد على تدخل الشرطة، ومحاولة تخليص هؤلاء الأطفال بالقوة كما يحدث الآن، وإنما بما هو أسهل من ذلك فيكفي أن يحرص مصدرو الشوكولاتة على أن يأخذ العمال والمزارعون في حلقة الإنتاج الأولى أجوراً أكبر يستطيعون بها تدبير متطلبات حياتهم الأساسية والعيش بكرامة. هذا سيقود لحل كثير من المشكلات ولتقليل أعداد الأطفال المتسربين من المدرسة، لكن إلى أي مدى يمكن أن تكون سلسلة رجال الأعمال التي تبدأ من المشغّلين المحليين وتنتهي عند الشركات العالمية حريصة على ذلك؟
كاتب سوداني
شكرا جزيلا على تسليط الضوء على هذه القضية