بعد عملية “طوفان الأقصى” والاختراق الأمني الكبير الذي أحدثته المقاومة بإمكانيات متواضعة مقارنة بما تواجهه في الجانب الآخر وكيفية الرد على تلك العملية بتدمير هائل وممنهج لقطاع غزة بدت في الأفق علامة سؤال كبير حول مستقبل “السلام والتطبيع” مع إسرائيل بواقع يضيق حول عنق الضحايا الفلسطينيين.
وفي ظل حملة تشويه محلية وإقليمية ودولية للفلسطينيين وضحاياهم، تشن إسرائيل عدوانها الواسع على غزة، وتحت هذا الجو القاتم تتشكل حكومة ما يسمى بـ “حكومة وحدة وطنية” لقيادة المعركة ضد الشعب الفلسطيني، وتسقط الخطوط الحمراء من السياسات العنصرية والطروحات الفاشية التي تحملها حكومة إسرائيلية متحدة على خوض حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني، ينظر إلى بن غفير وسموتريتش ونتنياهو اليوم في الغرب وأمريكا كعناوين للتسامح والقوة، وضرورة من ضرورات حماية وإسناد “الديمقراطية الإسرائيلية”.
يتناسى العالم عن قصد وسابق إصرار، أن مشكلة غزة والقدس وكل فلسطين، هي بوجود الاحتلال نفسه وبسياساته العنصرية والعدوانية منذ احتلال بقية فلسطين عام 67، لكن في لحظة السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، يتذكر العالم فقط أن هناك رعبا وخطرا حقيقيا أصاب المؤسسة الصهيونية المذهولة بما حدث. وأزال علامة السؤال الكبيرة التي كانت تحوم فوق الرؤوس العربية والفلسطينية منذ النكبة، من يحمي إسرائيل إلى اليوم ومن يرعى هزيمة الشعب الفلسطيني؟ ومن له مصلحة عربية رسمية في رؤية كيان فلسطيني متحرر؟
انحياز مطلق
ترتسم الصورة بشكل أوضح وأشمل لبعض الإجابات بسرعة الحشد الغربي والأمريكي لدعم إسرائيل، ومنحها الضوء الأخضر لارتكاب جرائم حرب وإبادة ضد غزة، وإرسال حاملة طائرات أمريكية للمنطقة وعتاد عسكري لإسرائيل، في رسالة واضحة عن الدعم والانحياز المطلق لإسرائيل و كل محاولات إخفاء الطابع الاستعماري والعنصري لها الذي أعيد تلميعه بقوة في الأيام الأخيرة.
مقابل ذلك لدينا أسوأ صورة للنظام الرسمي العربي منذ النكبة الفلسطينية عام 1948، عجز مهين للنظام العربي نفسه وللشعب الفلسطيني وقضيته، بعد التمعن في الاجتماع الوزاري العربي الأخير في القاهرة يفشل النظام العربي في تقديم الدواء والماء والغذاء لغزة، ويكتفي بمراقبة تدميرها وقتل سكانها على الهواء مباشرةً ومساواة الضحايا بجلادهم. حتى الذي أصبح يقدم نفسه من النظام العربي “معتدلاً ” للإسرائيلي والأمريكي يفشل في إمساك العدالة الدولية وقوانينها الإنسانية للمحاججة بها، وأصبح الخطاب العربي أجوفَ بمزاعم صهيونية عن محاربة “الإرهاب” وحماية الإنسانية.
الاعتدال والمرونة بوجه المستعمر الصهيوني، وإظهار حالة تماسك عربي ضد “الإرهاب” في الثورات وربطها بتطرف إسلامي وتنظيم “الدولة” (داعش)، كان للوصول لهذه الحقيقة التي نراها اليوم. فوسائل الإعلام الإسرائيلية لم تأتِ بجديد في استخدام وصف “المخربين والإرهابيين” للمقاومين للاحتلال، لكنها نجحت في توظيف ما وظفه النظام العربي باشتقاق الدعشنة وربطها بحركة حماس، توظيف اشتغل عليه النظام المصري منذ انقلابه وأدرج الحركة على قوائم الإرهاب، وتماهت السلطة الفلسطينية بتنسيقها الأمني مع الاحتلال بهذا التصنيف، كذلك فعل النظام السوري، والسعودي والإماراتي والتونسي وفي كل أنظمة الاستبداد والتصهين العربي.
الاكتفاء العربي بمراقبة العدوان على غزة، ومراقبة حالة صهيونية متحدة على نظرية وزير دفاع الاحتلال بوصف الشعب الفلسطيني “بالحيوانات البشرية” ويجب محوهم، ومراقبة الإسناد الغربي والأمريكي للصهيونية الحاكمة، ومن دون أن تكون هناك مواقف عربية تقول إن ذلك الوصف مقزز ومهين وعنصري يتماثل مع النازية، وإن المقاومة في فلسطين من غزة إلى الضفة هي مقاومة مشروعة يكفلها القانون الدولي لمحاربة الاحتلال.
النفاق الغربي
ذلك يكشف حقيقة الأمر أن النفاق الغربي والدولي من قضية فلسطين قد وصل ذروته بهذه الحالة الهستيرية من الوقوف خلف إرهاب الدولة في إسرائيل، لكن افتضاح النفاق العربي الرسمي تجاوز مسألة الوقوف بجانب الحق الفلسطيني، في التكالب على المقاومة لأنها مرآة عجز وخزي لأنظمة متهالكة.
أخيراً، ما يعتقده بعض النظام العربي بالظهور معتدلاً ينبذ التطرف، أمام احتلال قائم ومستمر بالإرهاب الجارف لكل الأوهام، سيُظهر ما بدا يتشكل في الأفق وشبيه بمحاكم التفتيش الأوروبية في القرن الرابع عشر، سعار أوروبي وأمريكي نحو تشديد القوانين ضد من ينتقد إرهاب إسرائيل. وبما يقفز عن أسطورة “معاداة السامية” سنشهد حقبة من جلد الذات العربية بتقزيمها وتسخيفها لأنها عربية مسلمة وتجاور حيزا جغرافيا يسمى فلسطين وغزة التي تجرأت بما فقده النظام العربي من قوة بأس على التصدي ومقاومة المحتل.
إن حماية معادلة المقاومة في غزة كانت وستبقى الضامن لكل ما تبقى من فلسطين، و لكل ما تبقى من شهامة وكرامة عربية سُحقت بالاستبداد والاحتلال.
كاتب فلسطيني