القاهرة ـ «القدس العربي»: لم يكن طوفان الأقصى فاتحة خير فقط على أصحاب القضية، رغم عظم ما يدفعون من تضحيات في الأنفس والأموال، بل مثّل كذلك بوابة أمل لعبور أولئك المحاصرين من الكتاب والإعلاميين الذين لم يضبطوا يوما في خندق المنافقين للأنظمة، وأصبحوا رهائن آمال لا تتحقق حتى جاء “الطوفان” ليعيد التفاؤل بالنسبة لأهم قضية تخص العرب والمسلمين وكل الأحرار الذين يبحثون عن العدالة لكل المظلومين.. فتحت البطولات الخالدة التي تسطرها المقاومة الفلسطينية وشعبها، الطريق أمام كتاب ومفكرين للهروب من الخطوط المرسومة لهم سلفا بشأن ما هو مسموح وما هو مرفوض تناوله من قضايا وموضوعات، لتلقي لهم الانتصارات الكبرى، وما تحيط بها من معجزات في قطاع غزة وسائر فلسطين، حبل الإنقاذ للتعاطي مع أهم أقدار الأمة شرفا ومهابة.
وفي إطار المساعي للدفاع عن الدور المصري في مواجهة ما يلحق به من تشويه: قال محمد فوزي الباحث في المركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية، إن الموقف المصري إزاء الحرب ضد قطاع غزة ركّز على اعتبارات مهمة، أولا مسألة السردية وهي أمر مهم للمقاربة المصرية تجاه التطورات في قطاع غزة، والمقصود هو توصيف الدولة المصرية للأشياء بمسمياتها والتأكيد على أن ما يحدث جرائم حرب وإبادة جماعية تتم من قبل الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني داخل قطاع غزة. وأضاف فوزي، في مداخلة هاتفية عبر قناة “إكسترا نيوز”، مع الإعلامية مدى سعيد: “السردية المصرية كانت مواجهة للسردية الإسرائيلية، التي تحاول تصوير ما تقوم به من جرائم على أنها تأتي في إطار رد الفعل، فكان تأكيد الدولة المصرية دائما على أن هذه العمليات إبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني. وتابع: “المسألة الأخرى المهمة هي أن الدولة المصرية ركزت في تحركاتها تجاه التطورات في قطاع غزة على تكثيف قنوات الاتصال والتنسيق والتشاور مع كل الأطراف الإقليمية والدولية المعنية بالأزمة والمؤثرة والمنخرطة فعليا فيها، وكان هذا الأمر مهماً للوصول إلى رأي عام دولي مؤيد للثوابت المصرية تجاه الملف الفلسطيني، خاصة على مستوى رفض مخططات تصفيات القضية الفلسطينية مثل، مخطط التهجير أو مخطط اليوم التالي للحرب”..ومن التقارير التي حرصت الحكومة على كشف حقيقتها: نفت وزارة الصحة والسكان ظهور متحور جديد لفيروس كورونا مميت وشديد الخطورة، ويصعب اكتشاف أعراضه، وأن المنشور المتداول مزيف، وغير صادر عن الوزارة، مُشددة على أن الوضع الوبائي للفيروس في مصر آمن ومستقر، ولم يتم رصد أي متحورات جديدة بخلاف ما أعلنته الوزارة على قنوات اتصالها الرسمية، وهو متحور “JN.1”. أما الدكتور مصطفى مدبولي رئيس مجلس الوزراء، فقد وجه بطرح وثيقة «أبرز التوجهاتِ الاستراتيجيةِ للاقتصادِ المصري للفترة الرئاسية الجديدة (2024-2030)»، في المرحلة الثانية لجلسات الحوار الوطني، الذي انطلق بدعوة من الرئيس السيسي، لمشاركة كل أطياف المجتمع في صياغة أولويات العمل الوطني. وقال المستشار محمد الحمصاني المتحدث الرسمي باسم رئاسة مجلس الوزراء، إن ذلك التوجيه يأتي في إطار حرص الحكومة المصرية على تنفيذ تكليفات رئيس الجمهورية بتوسيع دائرة النقاش حول الوثيقة، وكذا صياغة أولويات التحرك على صعيد السياسات بالنسبة للاقتصاد المصري خلال السنوات الست المقبلة، بعد الاستماع إلى آراء الخبراء والمتخصصين وأصحاب المصلحة وغيرهم من المشاركين في جلسات الحوار الوطني، والاستفادة من أفكارهم ومقترحاتهم لوضع خطط وآليات التنفيذ، لما يمثله ذلك من أهمية كبرى بالنسبة لتعزيز دعائم المشاركة المجتمعية في صياغة السياسات الاقتصادية، والاستفادة من طاقات أصحاب المبادرات والأفكار البناءة.
عنوان هزيمتها
لم تبلور إسرائيل، حتى الآن، وبعد مرور أكثر من 100 يوم على اجتياحها قطاع غزة، موقفا رسميا بشأن اليوم التالي للحرب. التخبط هو سيد الموقف على حد رأي الدكتور يحيى عبد الله في الشروق الذي يبدأ متسائلا: هل ستحتل قطاع غزة؟ هل ستقيم منطقة عازلة بينه وبين مستوطنات وبلدات ما يُسمى بالغلاف؟ هل ستقيم مستوطنات فيه كما كان قبل «فك الارتباط» به في 2005؟ هل ستشرك السلطة الفلسطينية في إدارته؟ هل ستختار من أهل القطاع أناسا، تثق في ولائهم، ليديروا شؤونه؟ هل ستعمل على تهجير سكانه البالغ عددهم أكثر من مليونى شخص؟ هل ستأتى بشخصيات قيادية فلسطينية من خارج القطاع؟ هل ستسعى إلى وضع القطاع تحت وصاية دولية؟ كلها سيناريوهات متداولة في الخطاب الإعلامى الإسرائيلي. إلى جانب التخبط، هناك مخاوف من ألا تستطيع إسرائيل القضاء، أصلا، على حماس في القطاع، إذ ما تزال حماس في وضع قوي، كما يقول جلال البنا («يسرائيل هيوم»، 27/12/2023)، وقادرة على «إطلاق الصواريخ، وإصابة البطن الرخوة لإسرائيل، وإدارة المعركة، وإصابة جنود بشكل يومى، فضلا عن أنها تجري مفاوضات مع كبار مسؤولي الحركة بشكل معلن ـ عبر دولة ثالثة ـ من أجل وقف لإطلاق النار وتبادل للأسرى». من الواضح، إذن أن الحديث عن «اليوم التالي» حديث افتراضي، إذ أن الأهداف التي وضعتها إسرائيل للحرب لم تتحقق، فما تزال قيادة حماس تدير المعركة من داخل غزة، وما يزال القوام الأكبر لقواتها، التي تقدر بـ«نحو 30000» مقاتل، حسب، نوعم أمير («ماكور ريشون» 25/12/ 2023) موجودا، مشيرا إلى أن «كل محاولة لبناء خطط مستقبلية هي في حكم الكلام الفارغ». وإذا افترضنا، جدلا، أنها قضت عليها، فليس هناك ما يضمن ألا تعود الحركة لحكم القطاع، بعد فترة من الوقت، إذ لا سبيل «لضمان ألا تعود لحكم القطاع»، كما يقول، موردخاي قيدار («ماكور ريشون» 24/12/2023)، لكونها مكونا مهما من مكونات الشعب الفلسطيني، وفصيلا يحظى بشعبية ليست بالهينة.
انهارت أحلامه
من الشواهد الدالة على تخبط إسرائيل بشأن «اليوم التالي»، وفق ما أخبرنا الدكتور يحيى عبدالله، أنها لم تشرع في مناقشة المسألة، إلا متأخرا وبعد إلحاح أمريكي، وتساؤلات من جانب الجماعة الدولية، والإعلام الإسرائيلي والغربي، وأنها أرجأت النقاش حولها ثلاث مرات لأسباب يتعلق بعضها بالمناكفات السياسية داخل الائتلاف الحكومي الإسرائيلي. هنا، يُطرح السؤال: هل لدى إسرائيل، حقا، خطة لـ«اليوم التالي»، لما بعد انتهاء الحرب ضد غزة؟ هناك تصريحات للاستهلاك المحلي، ولمغازلة الرأي العام الإسرائيلي، أبرزها تصريحات رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، الذي فقد كثيرا من شعبيته، بسبب فشل التصور الذي تبناه، وروج له لسنوات، عن استحالة إقدام حماس على مهاجمة إسرائيل؛ ومن هنا، نفهم رفضه، الظاهري، لكل السيناريوهات التي تتعلق بغزة بعد الحرب: «لن أسمح بأن تحل فتحستان (أي السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس في رام الله) محل حمسستان»، «لن تكون هناك دولة فلسطينية»، «لن نسلم غزة لقوى خارجية»، «لن نخضع لضغط دولي بما في ذلك من الولايات المتحدة الأمريكية». كثير من اللاءات الموجهة، في الأساس، إلى الداخل الإسرائيلي، والدليل على ذلك، أن مجلس الأمن القومي الإسرائيلي برئاسة تساحي هنجبي، المقرب من نتنياهو، وبالتعاون مع وزير الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر، المقرب هو أيضا منه، يجري منذ بضعة أسابيع سلسلة من النقاشات بهدف وضع خطة لمسألة السيطرة العسكرية، والسياسية، والمدنية في قطاع غزة في اليوم التالي للحرب؛ وأن رئيس المجلس، كتب مقالا (فى موقع «إيلاف» السعودي ـ ربما لربط السعودية بما يتبلور من حلول) أشار فيه إلى شروط إسرائيل لإعادة السلطة الفلسطينية لحكم غزة، ما يعني أنه لا يوجد رفض إسرائيلي مطلق، من حيث المبدأ، لفكرة السلطة الفلسطينية، ولكن بعد «تطويرها وتحديثها»، كما يريد الأمريكيون. لكن الانطباع السائد، كما تقول، آنا بيرسكي («معاريف» 6/1/2024) هو أن إسرائيل «تحاول بكل ما أوتيت من قوة تجنب الكشف عن خططها الحقيقية إزاء اليوم التالي». وإذا كان هناك تكتم على الخطط الرسمية، فإن سيل التصريحات من جانب كبار المسؤولين الإسرائيليين بشأن «اليوم التالي»، يكشف عن النوايا، وما يدور داخل الغرف المغلقة.
لم تشبع بعد
الفيديو الأخير الذي عرضه الإعلام العسكري لكتائب القسام لثلاثة أسرى قصف الاحتلال اثنين منهم في غزة، سبّب ضجة كبيرة في الأوساط الإسرائيلية، وزاد من هوة الخلافات بين المؤسستين العسكرية والسياسية وفق ما ترى جيهان فوزي في “الوطن”: أصوات المعسكر الصهيوني المتطرف، متمثلا في رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير الجيش يوآف غالانت ووزير الأمن القومي بن غفير ووزير المالية سموتيرتش، ترى أن استمرار الحرب على غزة وإعادة احتلال القطاع واجب ديني وقومي، لا بد أن يتحقق، بغض النظر عن الخسائر التي يتكبدها الاحتلال يوميا في وحل غزة، بالإضافة إلى التضحية بالأسرى. فيما يرى معسكر الجيش، متمثلا في بينى غانتس وإيزينكوت، أنه يجب التوقف عن الكذب، ومواجهة أنفسهم وأن مفاوضات صفقة تبادل الأسرى أصبحت أولوية لا بد من الالتفات إليها، خاصة في ضوء سقوط العديد منهم قتلى، بسبب القصف المتواصل على غزة. وغني عن القول إن الخلافات في مجلس الحرب تتفاقم يوما بعد يوم، وتتسرب للعلن بعد أن كانت محصورة في الغرف المغلقة، كما أن الولايات المتحدة الأمريكية بدأت تتململ من تورط إسرائيل أكثر وأكثر في مستنقع الحرب، دون أن تحقق أيا من الأهداف المعلنة بعد أكثر من 100 يوم على الحرب، ورغم ذلك فإن الولايات المتحدة ليس لديها النية للإعلان عن موقف يُفضي لوقف إطلاق النار، ولا أظن أنها ستتخذ هذا الموقف لاعتبارات عدة، أهمها أنها الحليف الداعم والشريك الذي تورط مع إسرائيل في الحرب وباركها، وثانيا أنها لا تريد خروج إسرائيل مهزومة، بل تريد خروجا بأقل الخسائر، يظهر بصورة نصر، ويحفظ ماء وجه دولة الاحتلال ومكانتها التي اهتزت، لذا تبحث عن تلك الصورة في خيارات مختلفة.
لهذا السبب
هزيمة إسرائيل تعني من وجهة نظر الكثيرين بينهم جيهان فوزي، انهيار المشروع الأمريكي في الشرق الأوسط، ودخول المنطقة مرحلة سياسية جديدة ومختلفة، بدأت تتشكل ملامحها، الأمر الذي سيعرض المصالح الأمريكية والإسرائيلية إلى مخاطر غير متوقعة. ومع ذلك فإن حكومة الحرب في إسرائيل لا تزال تتعنت وترفض الاستماع للنصائح الأمريكية، فضلا عن تشدد الكتلة اليمينية الصلبة التي تؤيد نتنياهو وتشكل نحو 30% من المجتمع الإسرائيلي، وترى أن إطالة أمد الحرب واستمرار العملية العسكرية، سيحققان الأهداف المعلنة، وهي القضاء على حركة حماس، وتحرير الأسرى دون دفع الثمن، وهذا لم يحدث. فضلا عن مصلحة نتنياهو الشخصية وشهوته للبقاء في السلطة، والهروب من واقع محتوم ينتظره عند محاكمته في قضايا الفساد، التي قد تُنهي مستقبله السياسي بالسجن. لكن إلى أي مدى يمكن أن تؤثر المظاهرات الاحتجاجية لأهالي الأسرى والضغط على الحكومة، لإجبارها على وقف الحرب؟ وبعد أن قتلت إسرائيل حوالي 30 ألف فلسطيني بين شهيد ومفقود، منهم عشرة آلاف طفل، ماذا تنتظر الولايات المتحدة للتدخل؟ وكم طفلا فلسطينيا يجب أن يُقتلوا في غزة حتى يتحرك المجتمع الدولى؟ على أرض الواقع لم تعد أي من الخيارات في يد إسرائيل بالكامل، وأصبح عليها المفاضلة بين خيارات جديدة وبديلة تقع جميعها دون السقف المرتفع الأول الذي طرحته إسرائيل بعد هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، فالهدف الأول المتمثل بإبادة «حماس» حل محله خيار بديل هو التطويق والمحاصرة عن بُعد، والاستمرار في حرب استنزاف طويلة المدى، بهدف تفكيك أو إضعاف «حماس» على أقل تقدير، ومنعها من تنفيذ عملية مشابهة في المستقبل. أما الهدف المتعلق باستعادة الأسرى بالقوة فقد حل محله هدف أقل طموحا، وهو الضغط إنسانيا على قطاع غزة لإجبار «حماس» على قبول صفقة تبادل، حتى إن كان الثمن الإفراج عن آلاف الأسرى الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية. أما ما يتعلق بهدف السيطرة الأمنية الكاملة على قطاع غزة، فقد تبدد تماما، ولم تعد الأوساط الحاكمة في إسرائيل تحلم حتى بإمكانية تحقيق مثل هذا الهدف. وربما خلال الأسبوعين المقبلين نشهد مزيدا من تقليص الأهداف.
عاجزة أمامه
الأخطر من وجهة نظر يوسف القعيد في “الأخبار”، ما تُبديه أمريكا الدولة الكُبرى في عالم اليوم بوقوفها المُطلق مع إسرائيل. ففي اللقاء الأخير الذي جمع بين وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، والرئيس الفلسطيني أبو مازن في رام الله. قدم الوزير للرئيس الفلسطيني حِزمة مُقترحة من الإصلاحات الموسعة على أجهزتها، لتتمكن من القيام بمهامها في الضفة الغربية وقطاع غزة، خلال مرحلة ما بعد الحرب. والحرب وصفٌ مُضلل. فهي مجزرة لم يشهد التاريخ مثيلا لها.. الأمريكيون يفرضون على الفلسطينيين مُقترحات تهدف إلى إصلاح هياكل وأجهزة السُلطة الفلسطينية، وأن يقوم محمود عباس بتعيين نائبٍ له يُمنح صلاحيات، وأن تكون هناك حكومة جديدة من التكنوقراط تُدير أحوال غزة بمجرد الانسحاب الإسرائيلي منها.. وفضلا عن أن هذا تدخل واضح في إدارة ما بعد الحرب في غزة. إلا أن الأمريكيين يشترطون أن يكون هناك رئيس وزراء فلسطيني جديد يتعاون معهم. وطبعا يتعاون مع المُحتل الذي يجب على كل فلسطيني أن يُقاوم احتلاله، وأن يُحاول رفض ما يقوم به. من الطبيعي أن يكون رد الرئيس الفلسطيني أن الأمر يتطلب إعادة نظر في سياسات واشنطن تجاه القضية الفلسطينية. وأن يكون هدفها وقف هذه الحرب المجنونة والمسعورة.. ألا يعرف الأمريكيون أن نتنياهو استولى على كل أموال الفلسطينيين المودعة في البنوك؟ وهي تُمثل 70% من ميزانية السُلطة الفلسطينية. وبدلا من أن ترفع إسرائيل يدها عن أموال الشعب الفلسطيني، ها هو بلينكن يشترط على الأشقاء الفلسطينيين شروطا مُجحِفة قبل إنهاء الحرب..
قطرة ماء
من المؤكد حسب يوسف القعيد أن الوزير الأمريكي يعرف حجم العجز الهائل في كل ما يُمكن إنفاقه في غزة الآن، ويُدرك عدد الشُهداء من النساء والأطفال والشباب الفلسطيني. وإذا كانت أمريكا تُدرك المبادئ التي قامت عليها بلادهم، فإن أول ما تفعله هو وقف كل هذا الجنون اليومي والعدوان المستمر على شعبٍ أعزل، بل إنهم يُضيقون الخناق على وصول المساعدات المُقدمة لهم من مصر الرئيس السيسي، ومن دول العالم الكثيرة التي تُرسل مساعدتها إلى سيناء. ولا تفعل إسرائيل سوى تعطيل وصولها إلى الشعب الذي يعاني البحث عن قطرة ماء نهارا بأكمله ولا يجدها. هل يُمكن أن تكون هناك أي ثقة لدى الفلسطينيين والعرب جميعا في الإدارة الأمريكية التي تُمكن الاحتلال من أن يفعل بالفلسطينيين ما لم يحدث في التاريخ؟ إن الدنيا كلها تسعى لوقف المحنة ووضع حدٍ للمأساة. ويتمثل كل هذا في أن تتوقف العمليات العسكرية التي تُشكل مجزرة لم تحدث في البشرية قبل أي كلام آخر ممكن أن يُقال. الإصلاحات الفلسطينية مسؤولية الشعب الفلسطينؤ والحكومة الفلسطينية. وإن كان من حق أحد الكلام عنها فهم من وقفوا مع فلسطين في هذه المحنة، التي تجاوزت المئة يوم من عمرها.. أمريكا تُعفي نفسها من التزاماتها تجاه الفلسطينيين وعجزها عن وقف نتنياهو عند أي حد.
اعتاد الكذب
غريب أمر أنتونى بلينكن، وزير الخارجية الأمريكي، فهو كما نقل عنه عبد المحسن سلامة في “الأهرام”: «مصدوم مما يحدث في غزة»، لكنه يبرر ما يحدث بـ«ضرورة ضمان عيش الإسرائيليين بسلام». أعتقد أن ذلك ليس بغريب على بلينكن اليهودي المتعصب، الذي أعلنها صراحة، وقام بزيارة إسرائيل 4 مرات منذ أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول، وحضر «مجلس الحرب» الإسرائيلي، ويقوم بدور وزير خارجية إسرائيل المدافع والحامي لها، والمروج لكل أكاذيبها. في منتدى «دافوس» حذّر وزير الخارجية الأمريكي من تزايد اتساع الحرب في الشرق الأوسط على خلفية الحرب في غزة، والتوتر بين إسرائيل وجنوب لبنان، والتصعيد في البحر الأحمر، مشيرا إلى أن الوضع في غزة «مؤلم»، وأن هناك حاجة إلى قيام دولة فلسطينية تمنح الشعب الفلسطيني ما يريده. أما أصعب سؤال تعرض له بلينكن فهو: «هل حياة اليهود أكثر أهمية من حياة الفلسطينيين المسلمين والمسيحيين؟ فأجاب بلينكن بشكل قاطع: «لا»، مشيرا إلى ضرورة الاعتراف بدولة فلسطينية، هذه هي «الكذبة» الكبرى للوزير الأمريكي، والإدارة الأمريكية على مدى عقود طويلة، وباستثناءات قليلة، خاصة في عهدى الرئيسين العظيمين كارتر، وكلينتون. هما أعظم رئيسين لأمريكا في ما يتعلق بالرؤية المنصفة، والعادلة للصراع في الشرق الأوسط، وحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم. في عهد كارتر وقّعت مصر اتفاقية «السلام» مع إسرائيل، ومعها ملاحق خاصة بـ”حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم”، وفي عهد كلينتون تم توقيع اتفاقية «أوسلو» التي بموجبها تم تدشين «السلطة الوطنية الفلسطينية»، والاعتراف فعليا بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة. بعد ذلك عادت أمريكا إلى الوراء خطوات، وخطوات وتخلت عن حيادها ووساطتها، وتحولت إلى شريك للمجرم الإسرائيلي، وراعٍ رسمي لكل الجرائم الإسرائيلية، كما يحدث في حرب إبادة غزة التي يتألم لها بلينكن، لكنه يدعمها، ويساندها، ويرفض وقف العدوان الإسرائيلي ويستخدم «الفيتو» الأمريكي لمنع إصدار قرار بوقف الحرب، ويقوم بدور وزير الخارجية الإسرائيلي في التهديد، والوعيد لكل من يحاول مساندة الشعب الفلسطيني، ويحيل حياة سكان غزة إلى جحيم لا يطاق ثم يظهر شفقته عليهم. أتمنى أن تعيد الإدارة الأمريكية عهدي كارتر وكلينتون، وتتسق تصريحاتها مع أفعالها لتجنيب المنطقة والعالم، مخاطر لن يتحملها أحد.
عش الدبابير
تدرك جنوب افريقيا أنها اقتحمت منفردة عش الدبابير وأن هذا المعترك المعقد له، كما قال محمد علي الهواري في “الوفد”، عواقب وخيمة ستنال من سمعتها واستقرارها، لكنها تسلك سبيلا مدروسا ومتقنا تعرف بدايته وتعرجاته وتستطيع تقدير نهايته ونتائجه. لقد أسس الفريق القانوني المحترف، شكواه المؤلفة من 84 صفحة، على تقارير دولية محايدة وتصريحات إسرائيلية رسمية، لاسيما تصريح غالانت العنصري بالعقاب الجماعي للمدنيين الأبرياء، بقطع الماء والكهرباء والغذاء والوقود، بل ووصفهم بالحيوانات البشرية، ووزير التراث عميحاي إلياهو، الذي هدد بضرب غزة بقنبلة نووية ومحوها من على وجه الأرض. طرح القضية من قبل جنوب افريقيا تحديدا أفضل من الدول العربية والإسلامية، التى ستدمر سمعتها آلة الدعاية الصهيونية كما حدث في 2009 عندما رضخت المحكمة الجنائية للضغوط الغربية وتواطأت ضد شكوى السلطة الفلسطينية عقب عملية الرصاص المصبوب، بالإضافة لسبب آخر مهم وهو الزخم الكبير لمكانة وتاريخ زعيمها الأيقوني نلسون مانديلا، ما يجعلها قضية إنسانية عالمية يلتف حولها مختلف الأعراق والجنسيات. قرار المحكمة المشكلة من 15 قاضيا سيتم تعزيزهم بقاض إضافى من كل جانب، قرار نهائي وغير قابل للاستئناف، قد تنتج عنه مواقف عملية بوقف فوري لإطلاق النار ودخول المساعدات الإنسانية، إلا أنها لا تستطيع تنفيذ قراراتها.
وجه القتلة
تابع محمد علي الهواري.. يؤمن فرانسيس بويل المحامي الدولي الذي حصل على حكمين من هذه المحكمة، بفوز جنوب افريقيا، لأن حجة إسرائيل الأساسية هي الدفاع عن النفس، وقد رفضتها المحكمة الدولية مسبقا، لأنها حجة المحتل المحارب وليس لديه الحق في الدفاع عن النفس، بموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، وبما أن الأمريكيين يحرضون على استمرار الحرب، فسيكونون مذنبين أيضا وذلك بموجب المادة «3 E» من اتفاقية الإبادة الجماعية، لذلك أتوقع أنهم سيستخدمون جون دوناهو رئيسة المحكمة والمسؤولة السابقة في وزارة الخارجية، وهي تكنوقراط فاسدة سوف تفعل كل ما في وسعها داخل الغرف المغلقة لإخضاع وابتزاز باقي القضاة لتحقيق المصالح الإسرائيلية الأمريكية. لقد أظهرت بريتوريا مستوى رفيعا من الجسارة الإنسانية يفتقدها كثيرا ممن حق عليهم القول، فخطوتها الجريئة صفعة مهينة على وجه القتلة، حمدا للرب ما يزال إرث «القديس مانديلا» الذي جمعته أخوية النضال مع أبو عمار يسري في عروق سيريل رامافوزا، بتصريحه النبيل الذي تقشعر من صدقه الأبدان. «بينما كان محامونا يدافعون عن (قضيتنا القضية الفلسطينية) لم أشعر قط بالفخر الذي أشعر به اليوم، يقول البعض إن الخطوة التي اتخذناها محفوفة بالمخاطر نحن بلد صغير ولدينا اقتصاد صغير قد يهاجموننا، لكننا سنظل متمسكين بمبادئنا ولن نكون أحرارا حقا ما لم يتحرر الشعب الفلسطيني».. سكت الكلام.
موجة تضخم عاتية
يتمحور حديث الناس في الشأن الاقتصادي عادة حول الموضوع الأكثر إيلاما لهم في حياتهم المعيشية في لحظة معينة؛ فأحيانا كما أوضح أحمد جلال في “المصري اليوم” تحتل البطالة الاهتمام الأكبر، وأحيانا ارتفاع الأسعار، وأحيانا مستوى جودة الخدمات، وأحيانا غير ذلك. بالنسبة للمصريين هذه الأيام ليست هناك قضية أكثر إيلاما من الارتفاع غير المسبوق في الأسعار إلى حد قد يدعو البعض لرفع شعار: «لو كان التضخم رجلا لقتلته»، على غرار قول الإمام علي بن أبي طالب: «لو كان الفقر رجلا لقتلته». التضخم يؤثر سلبيا على الدخول الحقيقية للفقراء وذوي الدخول الثابتة من الطبقة المتوسطة.. إضافة لذلك، يؤدي إلى تردد المستثمرين والمصدرين والمستهلكين في اتخاذ أي قرارات كبرى، متبنين سياسة «دعنا ننتظر حتى نرى».. المحصلة المتوقعة لضعف القوة الشرائية والإحجام عن اتخاذ القرارات الاقتصادية، هي تباطؤ في النشاط الاقتصادي ومستوى التشغيل، وربما بعض القلاقل الاجتماعية. بالطبع، لا تتحرك أسعار السلع كلها بشكل متساوٍ، ويزيد أثرها السلبي على الفقراء عندما تحظى السلع الأساسية بنصيب الأسد من الارتفاع.. لكن، إذا تغاضينا عن مثل هذه التفاصيل، فموجة التضخم الحالية عاتية، حيث وصل متوسط ارتفاع الأسعار في عام 2023، بناء على ما هو منشور من معلومات، إلى 34%، مقارنة بأعلى ذروة له خلال السبعين عاما الماضية، عندما وصل إلى 20.8% عام 1980. إذا كان الأمر بهذه الجدية، أو قل القسوة، فهل الحلول المطروحة على الساحة كافية لكبح جماح التضخم؟ وهل توجد حلول بديلة؟ وأخيرا، كيف يمكن حماية الطبقة الفقيرة والمتوسطة في الأجل القصير؟
البحث عن حل
بالنسبة للحلول المطروحة على الساحة، التي اهتم بها أحمد جلال فالحل الأول يأتي من صندوق النقد الدولي، وأدواته التقشف النقدي والمالي عن طريق رفع سعر الفائدة، وتحرير سعر الصرف، وتقليل عجز الموازنة، وتحقيق فائض أولي، والخصخصة لسد الفجوة الادخارية. هذا الحل قد ينجح في الأجل القصير، لكن تكلفته عالية لما له من آثار تضخمية نتيجة تحرير سعر الصرف، وآثار سلبية على معدلات النمو والتشغيل من جراء التقشف. الحل الثاني تمارسه الحكومة بالفعل، ويتضمن محاولة التحكم في سعر الصرف، ومعدل الفائدة، وأسعار بعض السلع الأساسية، وتغليظ العقوبة على المتاجرة في العملة الصعبة، وتحجيم الاستيراد، وبيع الأصول العامة. وهنا أيضا قد تحد هذه الإجراءات من تفاقم معدلات التضخم، لكن ذلك يأتي على حساب تشغيل الطاقات المتاحة في ظل ظهور سوق موازية للعملة، ناهيك عن أنه حل مؤقت، ولا يمكن التعويل عليه، وذلك لأننا جربناه في الماضى ولم ينجح. هل من حلول بديلة؟ مدخل الحل الحقيقى في تقديري هو فهم ظاهرة التضخم في مصر، كما في غيرها من الدول، على أنها محصلة تأثير عنصرين وليس عنصرا واحدا: «زيادة في الطلب»، و«قصور في العرض». في حالتنا، الزيادة في الطلب ناتجة جزئيا عن ارتفاع معدلات طبع النقود لتمويل عجز الموازنة، وجزئيا بسبب ارتفاع الإنفاق العام على مشروعات قومية عوائدها طويلة الأجل أو بالعملة المحلية. أما القصور في جانب العرض، فهو ناتج عن معوقات بيروقراطية ترفع تكلفة المعاملات على المنتجين والمصدرين، وغياب التنافسية في الأسواق، والمبالغة في دور الدولة كمالك. تفصيل السياسات الإصلاحية الواجبة لعلاج هذه المشاكل غير ممكن في هذه المساحة الضيقة، لكن أهم سمات الإصلاح في الأجل القصير ما يلي: تبني منظومة أكثر مرونة وليست تعويما لسعر الصرف (تشجيعا للصادرات وتحويلات العاملين في الخارج، وتجنبا لقفزات في معدلات التضخم مستقبلا)، والإحجام عن البدء في مشروعات كبرى جديدة.
خارج السيطرة
التهب الدولار في السوق السوداء للعملة، وهناك من يرجعون ذلك إلى أن الحكومة وبعض الجهات التابعة لها تلجأ إلى هذه السوق لتدبير احتياجاتها الدولارية وهي احتياجات لم يتخذ أي إجراءات مؤثرة لتخفيضها عبر تخفيض استيرادنا من الخارج.. وبذلك تكون الحكومة حسب رأي عبد القادر شهيب في “فيتو” تتحمل بعض المسؤولية عن التهاب الدولار في السوق السوداء، وهو ما يترجم ببقاء معدل التضخم مرتفعا ويحبط محاولات السيطرة عليه وكبح جماحه.. وهنا على الحكومة أن تنفي تلك الأنباء المتداولة في أسواقنا، أو تقدم لنا تفسيرا مقبولا لها إذا صحت وكانت سليمة، رغم التداعيات السلبية لمثل هذا الإجراء، وأهمها تعميق أزمة النقد الأجنبي وقفز سعر العملات الأجنبية في السوق الموازية، مما يضر بتدفق الاستثمارات الأجنبية على بلدنا ويدفع المستثمرين الأجانب إلى تقليص أنشطتهم الاستثمارية وأعمالهم لدينا، كما ظهر مؤخرا في الخطوة التي اتخذتها إحدى الشركات الكويتية لدينا. أما سكوت الحكومة والتزامها الصمت على تلك الأنباء المتداولة فليس مقبولا أو مستساغا، لأنه يسهم في زيادة أزمة النقد الأجنبي بدلا من تخفيف حدتها كما نأمل.. نحن في وضع، الشائعات والأقاويل تؤثر على حركة اقتصادنا، ولذلك يتعين التزام أكبر قدر من الشفافية من قبل الحكومة، خاصة ما يتعلق بأزمة النقد الأجنبي، التي داهمتنا مع هروب الأموال الساخنة من أسواقنا مرة واحدة في العام قبل الماضي، وهي الأموال التي كنا نعتمد عليها في سد الفجوة الدولارية لدينا، وعلى الحكومة أن تحسب قبل أن تتخذ أي إجراء في هذه المرحلة الحرجة اقتصاديا وقع خطواتها وتداعيات هذا الإجراء حتى لا تزيد الأزمة بدلا من تخفيض حدتها. وإذا كان صعبا زيادة مواردنا من النقد الأجنبي فلا سبيل أمامنا سوى تخفيض إنفاقنا منه بتخفيض وارداتنا من الخارج.
الأيقوني وما يليه
يتساءل عبد الغني عجاج في “فيتو”: هل كان يتحتم علينا في مصر خوض سباق أفعل التفضيل، أو بالأحرى الدخول في لعبة أفعل التفضيل واتخاذ القرار بامتلاك أكبر وأضخم نجفة، وبناء أكبر منبر مسجد وبناء أكبر كنيسة وأكبر مسجد ومركز إسلامي وبناء أكبر وأطول برج في افريقيا؟ أحسب وأجزم أن الأخذ بفقه الأولويات كان يجنبنا الدخول في لعبة أفعل التفضيل.. فإذا كانت دول الخليج قد سبقتنا في إحراز أهداف بالجملة في لعبة أفعل التفضيل، فمواردها التي أفاء بها الله عليها من وسع، تسمح لها بذلك وتسمح لها ببناء أبراج مختلفة الأشكال، فهذا برج على شكل برميل، وهذا برج على شكل حذاء ولا مؤاخذة، وهذا برج على شكل كرة دوارة، وهذا أطول برج وأعنى به برج دبي، أو برج خليفة. وللحق فإن الأشقاء في الإمارات نجحوا في توظيف أفعل التفضيل وتحويلها إلى أدوات جذب للزائرين والسياح. نعود إلى سؤال: هل كنا في مصر في حاجة للدخول في لعبة أفعل التفضيل لترسيخ مكانتنا العربية والافريقية؟ الإجابة لا بكل تأكيد، فيكفينا فخرا وشرفا أن لدينا أقدم حضارات الإنسانية، ولدينا جامعة هي أولى جامعات العالم، ولدينا جامعة الأزهر وجامعة القاهرة، ولدينا أول فائز عربى بجائزة نوبل في الأدب، وأول فائز عربى بجائزة نوبل في العلوم، وأول زعيم عربي فائز بجائزة نوبل للسلام، وأول دبلوماسي عربي فائز بجائزة نوبل للسلام. ولدينا مدارس ثانوية مثل المدرسة الخديوية والمدرسة السعيدية والمدرسة السنية ومدرسة الخديوي إسماعيل ومدرسة المساعي المشتركة ومدرسة كشك الثانوية في زفتي أقدم من معظم إن لم يكن كل دول الخليج.. لدينا أكثر من أيقونة تنافس وتضارع وتتفوق على البرج الإيقوني، فالأهرامات أيقونة، وهي واحدة من عجائب الدنيا السبع، والأزهر أيقونة، ومسجد عمرو بن العاص أيقونة، والكنيسة المعلقة أيقونة، والسيدة زينب أيقونة، والسيدة نفيسة أيقونة، وسيدنا الحسين أيقونة، والسلطان حسن أيقونة، ومسجد الرفاعي أيقونة، وقلعة صلاح الدين أيقونة، وبيت السناري أيقونة، ووكالة الغوري أيقونة. وأحسب بل أجزم أننا نحتاج لمجلدات لحصر أيقونات مصر المحروسة.. إذن لدينا من الأيقونات ما كان يسمح لنا بتوجيه المليارات التي أنفقت لتشييد البرج الأيقونى الأطول في أفريقيا إلى مصارف أولى وأكثر إنتاجية وربحية.