استغلت إسرائيل الزلزال السوري، الذي فاجأ الجميع، وتوغّلت في المزيد من الأراضي السورية وسيطرت على شريط بعمق عدة كيلومترات على طول خط وقف إطلاق النار وفك الارتباط. وشن الطيران الإسرائيلي حوالي 400 غارة جوية مستهدفا أكثر من 300 موقع عسكري، يشمل المطارات العسكرية بما فيها من طائرات حربية، ومخازن أسلحة وذخائر، وقواعد للصواريخ ومستودعات مضادات الدروع، وموانئ وسفن حربية ومراكز للبحث العلمي، وتباهى وزير الأمن الإسرائيلي يسرائيل كاتس، بأن جيشه دمّر بالكامل سلاح البحرية السوري، وادعت مصادر أخرى بأنه جرى القضاء على ما يقارب 80% من قدرات الجيش السوري، ووُصفت سلسلة الهجمات بأنّها «أضخم العمليات الحربية لسلاح الجو الإسرائيلي». وعلى الرغم من أنّه لم تسبق العدوان الإسرائيلي الواسع، أي تحركات أو تهديدات عسكرية مصدرها الأراضي السورية، وجد المتحدثون بلسان الدولة الصهيونية، كمّا كافيا من الوقاحة للادعاء بأنها عملية «دفاع عن النفس»، مشددين على أنه جرت وتجري بالتنسيق المسبق مع إدارتي بايدن وترامب، اللتين أبدتا ـ كما قيل ـ تفهّما لما تقوم به إسرائيل.
شدة وسعة الهجمات العدوانية الإسرائيلية على سوريا، امتداد لما جرى في السابع من أكتوبر، ولما أحدثه من صدمة ومن هزّات ارتدادية طالت صلب مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي
ونشر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو شريط فيديو وجّه فيه تهديدا مباشرا للقيادة السورية، واستهله بوقاحته المعهودة بالقول «ليس لدينا نية بالتدخل في الشؤون الداخلية لسوريا»، مضيفا «لكن لدينا النية بأن نعمل المطلوب للمحافظة على أمننا.. إذا سمح هذا النظام بعودة إيران للتموضع في سوريا، أو أذن بمرور سلاح إيراني أو سلاح آخر لحزب الله، أو إذا هاجمنا سنرد بقوة شديدة. ما حدث للنظام السابق سيحدث لهذا النظام». وردد وزير الأمن الإسرائيلي الكلام نفسه قائلا: «من يسير في طريق الأسد مصيره كالأسد».
وجاء رد الفعل الرسمي العربي خافتا باهتا، إزاء الاعتداءات الواسعة والتهديدات الخطيرة، ويبدو أن الأنظمة العربية قد «تعوّدت» وسلّمت بالعربدة الإسرائيلية وبقلّة حيلتها حيالها. أما القيادة السورية فهي مشغولة حاليا بنقل السلطة، لكنّها ستكون مضطرة قريبا إلى التعامل بجدية مع استباحة السيادة، ومع إلحاق الأضرار الجسيمة بمرافق وممتلكات الدولة السورية، ولن يمكنها الاكتفاء بالرد الخجول الذي نُقل عن أحد قادتها بأن «إسرائيل بدأت معنا بالرجل الشمال».
أطلق جيش العدوان الإسرائيلي على حملته العسكرية في سوريا اسم «عملية سهم الباشان» في إشارة للمنطقة الواقعة جنوبي سوريا، وفي أكثر من تلميح بأنّها لن تسمح بنشوء «تهديد عسكري» في تلك المنطقة. وقد اغتنمت إسرائيل فرصة الانشغال بزلزال سقوط نظام بشار الأسد، ودخول قوى المعارضة إلى دمشق، لإضعاف القدرات العسكرية للجيش السوري ولتوسيع المناطق المحتلة في الجولان، في محاولة لخلق أمر واقع جديد يشمل السيطرة على مواقع استراتيجية في جبل الشيخ، وعلى المنطقة العازلة ومناطق إضافية تتجاوزها. وتأتي التهديدات لفرض معادلة غير متوازنة قوامها، أن إسرائيل ستتدخل عسكريا في سوريا عند نشوء أو احتمال نشوء تهديد لأمنها.
استراتيجية المنع والإحباط
تنطلق الاستراتيجية الأمنية في خلفية العدوان الإسرائيلي على سوريا من السعي إلى «المنع والإحباط» من جهة، وإلى «نشر الرعب»، وإظهار جبروت الدولة الصهيونية وقدراتها التدميرية الضخمة، من جهة أخرى. وحين يصرح نتنياهو بأنّه لن يسمح بتموضع إيراني في سوريا، فهو في الواقع يعرف بأن القيادة السورية الجديدة لن تسمح بذلك، فلماذا يهدد إذن؟ يبدو أن هذا التهديد موجّه للمنطقة بأسرها، وبالأخص العراق. فقد التزم نتنياهو مرات عديدة بأن كل من يضرب إسرائيل سيلقى ضربات موجعة، وإسرائيل لم ترد، إلى الآن، على الهجمات بالمسيرات التي أطلقتها ميليشيات عراقية مرتبطة بإيران. ومن المحتمل أنّه ينوي مع قدوم ترامب التعامل مع التموضع الإيراني في العراق، كما تعامل معه في سوريا. وقبل وقف إطلاق النار في لبنان، جرى نقاش في إسرائيل حول توجيه ضربات انتقامية إلى الأراضي العراقية، ومن الممكن جدا أن الولايات المتحدة طلبت من إسرائيل عدم القيام بذلك، لتفادي رد ميليشيات عراقية باستهداف الوجود العسكري الأمريكي في العراق. يمكن الجزم بأن شدة وسعة الهجمات العدوانية الإسرائيلية على سوريا، هي امتداد لما جرى في السابع من أكتوبر، ولما أحدثه من صدمة ومن هزّات ارتدادية طالت صلب مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي، وأدّت إلى طغيان «استراتيجية المنع والإحباط» على العقلية الأمنية الإسرائيلية المحدثة. وفي مركز هذه الاستراتيجية أن الأهم هو حرمان «العدو» من القدرات القتالية، بما يمنعه من الإقدام على القيام بتهديد أمن الدولة الصهيونية. ومع أن الضربات الإسرائيلية موجهة الى سوريا هذه المرة، إلا أنها تهدف أيضا إلى منع وصول أسلحة إلى حزب الله، لمنعه من استرداد ما فقده ولإبقائه مع قدراته الحالية إلى حين تقرر هي القضاء عليها. تحمل «عملية سهم الباشان» عناصر التدريب والتجريب والترهيب، ففي حجمها وكثافتها مناورة لتدريب سلاح الطيران الإسرائيلي على القيام بغارات جوية متواصلة ومتزامنة في مواقع عديدة، بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ هذا السلاح، بما يحاكي هجوما مماثلا على إيران أو بعض مركّباته. وفي هذا بالطبع رسالة تهديد وترهيب لإيران وأطراف أخرى في اليمن والعراق. ولا تخلو مثل هذه العملية من تجريب أسلحة جديدة، خاصة أنواعا جديدة من صواريخ جو-أرض، جرى الحديث عن تطويرها في الصناعات العسكرية الإسرائيلية.
مشروع ساعار
في أكتوبر 2015 نشر جدعون ساعار، الذي يشغل اليوم منصب وزير الخارجية الإسرائيلي، مقالا بعنوان «وداعا سوريا وداعا سايكس بيكو» شاركه فيه جابي سيبوني، أحد أهم المنظرين الأمنيين الإسرائيليين. وتمحور المقال حول الدعوة لتقسيم سوريا إلى أربع دول: سنية وعلوية ودرزية وكردية، استنادا إلى ديموغرافيا التركيبة الدينية والقومية لسوريا. وجرى التأكيد في المقال إلى أن مثل هذا الحل للأزمة السورية هو في مصلحة إسرائيل والولايات المتحدة ودول أخرى. وعبر الكاتبان عن قناعتهما باستحالة إحياء الدولة السورية من جديد، وأعلنا موتها وموت سايكس بيكو معها. وعاد مصدر إسرائيلي كبير هذا الأسبوع إلى طرح مشروع تحويل سوريا إلى كونفدرالية مكونة من كيانات سياسية سنية وعلوية ودرزية وكردية. ويبدو أن هذا المصدر هو ساعار نفسه لأن الإعلام الإسرائيلي يشير إلى نتنياهو بتعبير «مصدر كبير جدّا».
إضافة لذلك، كثر الحديث في إسرائيل هذا الأسبوع عن ضرورة القيام بدعم وحماية الدروز والأكراد في سوريا، حتى لو لزم ذلك التدخل المسلّح، ولم ير المسؤولون الإسرائيليون حرجا في الادعاء بالنَّفَس نفسه بأن دولتهم لا تتدخل في الشؤون الداخلية لسوريا. ماذا سيفعل قادة إسرائيل بالضبط لدفع مشروع التقسيم؟ هم يقولون ـ دون أن يسألهم أحد- إن هذا هو الحل الأفضل لكن تأثيرهم على تنفيذه محدود جدّا. ومع ذلك، إذا وجد ـ لا سمح الله ـ في سوريا من يسعى للانفصال فإن إسرائيل ستحاول جاهدة دعمه ومساندته.
في الأسابيع الأخيرة، لم تسترجع إسرائيل غرورها المعهود فحسب، بل تجاوزته كثيرا ودخلت إلى حالة «فرط الثقة بالنفس» وإلى الشعور بأنّها كلية القدرة. وقد أظهر عدوانها على سوريا أنّها لم تعد تكتفي بالسعي لأمن بنسبة 100% بل لأكثر من 200%، وفي سبيل ذلك توسّع عدوانها إلى درجة يبدو معها أنها فقدت إدراكها وإحساسها بحدود القوّة. هذه وصفة مجرّبة لفقدان السيطرة على الذات وللمغامرات غير المحسوبة وللوقوع في الأخطاء، وهي ستدفع ثمن أخطائها، إن وجد من يغتنم الفرصة ويدفّعها الثمن، وإن لا فهي ستتعّثر وتقع ثم تقوم وكأن شيئا لم يكن.
*كاتب وباحث فلسطيني