عدو صديقي ليس بالضرورة عدوي

أقول دائما إن موضوع السياسة هو المستقبل، وإن موضوع الإدارة هو الحاضر، وإن موضوع التاريخ هو الماضي، وإن السياسة هي علم التغيير، لأن التغيير هو الحقيقة الخالدة، وعندما يتوقف سيتوقف العالم عن الوجود. وبما أن الدولة ما تزال حتى الآن أهم وحدة سياسية في العالم، فإنها إما أن تصنع التغيير السياسي، وإما أن تتكيف معه بعد حدوثه. وفي حالة ثالثة هي الحماقة بعينها، أن تتجاهله وتدفن رأسها في الرمال، وتعتقد أن الأيام كلها واحدة، طالما أن الشمس تطلع من الشرق، وتغيب في الغرب.
هذه المقدمة مهمة لهذا المقال، لأنه يتناول كيف تخرج وحدة سياسية على مفهوم يعتبر من قبيل الحكمة السياسية الموروثة منذ قرون طويلة، وما يزال قاعدة من قواعد السياسة في العالم، خصوصا في مبادئ إدارة العلاقات بين الدول «الويستفالية» منذ القرن السابع عشر، وكذلك في سياسة «الاحتواء» التي وضع أصولها جورج كينان في القرن العشرين. منطوق الحكمة السياسة يقول: «صديقي، عدو عدوي، وصديق صديقي» وبمنطوق آخر: «عدوي، صديق عدوي، وعدو صديقي». هذه الصيغة أصبحت لا تصمد في اختبار السياسة الإسرائيلية تجاه كل من الصين وروسيا، ولا في اختبار السياسة التركية تجاه روسيا، ولا في اختبار السياسة الأمريكية تجاه الهند أو باكستان، ولا في اختبار السياسة المصرية تجاه الولايات المتحدة أو روسيا والصين. وسوف نعرض هنا باختصار لذلك، ليس فقط للتأكيد على انتهاء عصر العلاقات الخطية في السياسة الخارجية، لكن وهو الأهم للإشارة إلى أننا نشهد حاليا تغيرات تحمل ملامح ما بعد «عصر الهيمنة الأمريكية». ماذا يعني هذا بالنسبة لنا في الشرق الأوسط؟ وماذا يعني للولايات المتحدة، خصوصا في حربها الباردة الجديدة؟

الواقعية السياسية

تقود إسرائيل اتجاها جديدا في الشرق الأوسط، في إدارة العلاقات مع الولايات المتحدة والصين وروسيا. وقد وجدت لنفسها مبررات كثيرة لكي تدير علاقاتها على أساس نظرية الواقعية السياسية، بما يسمح لها بالتمييز بين تحالفها مع الولايات المتحدة، وحماية مصالحها مع كل من الصين وروسيا. وفي إطار هذا التمييز فإنها منذ حقبة نتنياهو حتى الآن تجنبت الوقوع في فخ العلاقات الخطية مع الولايات المتحدة، وأتاحت لنفسها هامشا واسعا للمناورة، بدون إغضاب حاكم البيت الأبيض، سواء ترامب أو بايدن. وتمارس إسرائيل هذه السياسة علانية وبوضوح، وهو ما شجع دولا عربية في الخليج وشرق المتوسط على أن تحذو حذوها؛ فانتقلت السعودية من تحالف مع الولايات المتحدة ضد روسيا في سوق النفط العالمية، إلى تحالف مع روسيا، يستجيب لمصالح الرياض أكثر من الامتثال لطلب واشنطن بزيادة الإنتاج وتخفيض أسعار النفط. وقبل ذلك أكدت مصر بوضوح موقفها من التسليح الروسي، بعقد صفقات جديدة مع موسكو لحماية مصالح الأمن القومي المصري، عندما بدأت تتعرض لضغوط أمريكية. ولم يتوقف التعاون العسكري المصري مع روسيا على مجرد صفقات السلاح، وإنما امتد إلى إجراء مناورات عسكرية مشتركة، من المتوقع أن تستمر بصفة دورية. وفي الوقت نفسه فإن علاقات الصين مع دول الخليج وشرق المتوسط وشمال افريقيا تمضي بقوة وبسرعة في مجالات التجارة والاستثمار، حتى أصبحت الصين عملاقا اقتصاديا في الشرق الأوسط، لا تستطيع الولايات المتحدة لجم نفوذه. وقد تعرضت إسرائيل لضغوط أمريكية شديدة تطلب منها الابتعاد عن الصين بواسطة الإدارتين الحالية والسابقة. وأظهرت واشنطن انزعاجا شديدا من حصول الصين على امتياز تطوير وإدارة ميناء حيفا، وهو الميناء الذي يستخدمه الأسطول السادس الأمريكي في أعمال الصيانة الدورية، وتبديل الأطقم للقطع البحرية، كما اعترضت على استخدام إسرائيل لتكنولوجيا 5G الصينية في أنظمة الاتصالات. وقد جاءت الردود الإسرائيلية على الطلبات الأمريكية متوافقة تماما من جانب السياسيين والأكاديميين وأجهزة الرأي العام، تؤكد أن إسرائيل لن تنحاز إلى الولايات المتحدة في صراع مع الصين، وإن كانت ستميز بين التعاون الاقتصادي والتكنولوجي بشكل عام مع الصين، باستثناء تكنولوجيا 5G، والتعاون العسكري مع الولايات المتحدة، الذي يرتبط مباشرة بضمان أمن إسرائيل. وكان من أهم النصوص المعبرة عن السياسة الإسرائيلية في هذا الشأن، افتتاحية لصحيفة «جيروزاليم بوست» بتاريخ 26 يونيو 2021، ثم مقال كتبه إيهود أولمرت رئيس الوزراء الأسبق، ونشرته الصحيفة نفسها بتاريخ 2 سبتمبر الماضي، وأخيرا الورقة السياسية التي أصدرها «معهد القدس للاستراتيجية والأمن» في 18 من الشهر الحالي بقلم رئيس المعهد البروفيسور افرايم أنبار، التي نشرتها صحيفة «إسرائيل اليوم» بعد ذلك بثلاثة أيام عشية الزيارة الأولى لرئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي نفتالي بينيت إلى روسيا. من الإشارات المهمة كذلك ما قاله في مؤتمر علمي واحد من أهم علماء إسرائيل هو الدكتور ديفيد تال رئيس المبادرة الإسرائيلية لعلوم «الكوانتوم» إن إسرائيل لن توقف تعاونها العلمي والتكنولوجي مع الصين رغم الضغوط الأمريكية.

على أسرى الحرب الباردة في واشنطن أن يفتحوا عقولهم لفرص التعاون مع دول العالم أجمع، بصرف النظر عن طبيعة أنظمتها السياسية

وسواء في افتتاحية «الجيروزاليم بوست» أو مقال أولمرت، أو دراسة أفرايم انبار أو تصريح ديفيد تال، فإن الأساس الفلسفي الذي اعتمدت عليه جميعها هو مبادئ الواقعية السياسية، التي تنحي جانبا العوامل الأيديولوجية إلى أبعد ما يمكن، وتأخذ في اعتبارها مصالح الأمن القومي والحقائق الفعلية على الأرض أكثر ما يمكن. ويجب أن نشير في هذا السياق إلى أن هذه السياسة الخارجية الإسرائيلية في حقيقة الأمر، تردد أصداء مقال مهم كتبه خبير العلاقات الدولية نيكولاي باخوموف رئيس مكتب نيويورك للاستشارات، ونشرته مجلة «ناشيونال إنتريست» الأمريكية بتاريخ 23 مارس 2017. حدد فيه نطاق المصالح المشتركة لكل من روسيا وإسرائيل، ومجالات الخلافات بينهما، وقال إن مبادئ الواقعية السياسية تستدعي من البلدين التعاون معا في تعزيز المصالح المشتركة مثل مكافحة الإرهاب، ووضع قواعد واضحة لإدارة الخلافات في مجالات مثل، الموقف من البرنامج النووي الإيراني، والعملية السياسية للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وأن تتعلما كيف تغفر الواحدة منهما أخطاء الأخرى في حال وقوع خلاف.

تركيا والهند وتنويع السلاح

كذلك فقد كف مبدأ «عدوي عدو صديقي» عن أن يحكم علاقات دول أخرى في الشرق الأوسط والمحيط الهندي بالقوى الرئيسية في العالم، رغم حدة الاستقطاب الدولي حاليا، والحرب الباردة ضد كل من الصين وروسيا، وهي الحرب التي تهدد مصالح أمن قومي شديدة الحساسية بالنسبة لأوروبا مثل «أمن الطاقة» كما تهدد أيضا مصالح قومية لقوى إقليمية رئيسية مثل تركيا والهند. وعلى الرغم من أن تركيا عضو في حلف الأطلنطي، فإنها لجأت إلى الدخول في تقارب منظم وواسع النطاق مع روسيا في مجالات الطاقة والتسلح، وتنسيق استراتيجية العمل في مناطق الصراع في الشرق الأوسط. كذلك تفعل الهند الآن في الانتقال من مجرد الاعتماد على السلاح الروسي إلى الدخول في صفقات عسكرية واستراتيجية واسعة النطاق، طويلة الأمد مع الولايات المتحدة، مع حرصها على ألا ينعكس ذلك سلبا على علاقاتها مع روسيا. الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي ما تزال تدير علاقاتها الإقليمية والدولية على أساس المعادلة الصفرية، والنمط الخطي للعلاقات هي إيران. لكن ذلك قد يتغير في الأجل المتوسط، عندما تتاح الفرصة أمامها لتطوير علاقاتها مع قوى أوروبية رئيسية مثل، بريطانيا وألمانيا وفرنسا، وليس ذلك ببعيد.

أمريكا والحرب الباردة

تبدو القيادات العسكرية في البنتاغون أكثر حرصا من القيادات السياسية في البيت الأبيض على إبقاء خط الاتصال الساخن مفتوحا مع الصين، حتى وقت كتابة هذا المقال، لتجنب تحول أي احتكاك إلى حرب شاملة. وقد ورثت القيادة السياسة الحالية الحرب الباردة ضد الصين من الإدارة السابقة، وهي تمضي فيها بالأدوات نفسها تقريبا لكن بأسلوب مختلف. وكنت قد كتبت في هذه الصحيفة في منتصف يونيو عام 2019 موضحا أن المواجهة بين أمريكا والصين هي أكثر من مجرد حرب تجارية، وقلت إن دونالد ترامب «أشعل حربا باردة تهدد العالم كله» وأوضحت في مقالات تالية إن إدارة بايدن تستخدم ضد الصين أدوات من «صندوق العِدّة» التقليدي للحرب الباردة، وهو الصندوق الذي درسته الصين جيدا، وتعلمت منه دروسا كثيرة لتجنب الوقوع في الأخطاء التي وقع فيها الاتحاد السوفييتي. وأقول الآن إن استمرار سياسة الحرب الباردة ضد الصين وروسيا من جانب الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا والشرق الأقصى، يمثل حماقة كبرى، يجب أن تتوقف، لمصلحة أمريكا والعالم، لأن العلاقات الدولية تسير حاليا على نمط تقاطعات شبكية، تختلف جوهريا عن النمط الخطي القائم على معادلة صفرية، وهو النمط الذي كان سائدا في الحرب الباردة الأولى، وخرجت من قاموس السياسة قاعدة: «عدوي عدو صديقي». ورغم أن هناك مجالات للتنافس والاختلاف يجب تحديدها بعناية، وتحديد آليات متفق عليها لإدارتها، كما اقترح هنري كيسنجر على إدارة بايدن في تقييمه للعلاقات الأمريكية – الصينية، فإن هناك عشرات المجالات التي تفتح ذراعيها للتعاون المثمر المتبادل بين القوى المتنافسة في العالم، ولذلك فإن أسرى الحرب الباردة في واشنطن، وفي أي عاصمة أخرى في العالم عليهم أن يراجعوا أنفسهم، وأن يفتحوا عقولهم لفرص التعاون مع دول العالم أجمع، بصرف النظر عن طبيعة أنظمتها السياسية، مثل التعاون من أجل حماية البيئة والمشاركة في عمليات الإغاثة من الكوارث البيئية، والتعاون في مكافحة الإرهاب، وتهريب البشر وتهريب السلاح والمخدرات وغسيل الأموال، والتعاون من أجل استثمار الفضاء لخير البشرية، بدلا من عسكرة الفضاء وتحويله إلى ميدان جديد للحرب الباردة.
كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول فلسطيني:

    بعد التحية للكاتب وللجميع ،
    خطأ كبير وقع فيه الكاتب في قرائته لموقع العرب وإسرائيل في الفكر الاستراتيجي الصيني ، لكنه برأيي المتواضع خطأ شائع يقع فيه الكثيرين من الكتاب العرب الذين يتناولون النظرة المستقبلية الصينية لكل من العرب وإسرائيل. ‏النخبة الاقتصادية والسياسية الصينية تعرف ان 500,000,000 عربي متواجدين في بقعة جغرافية واسعة ممتدة لا يمكن أن تساوي و تختلف تماما عن النظر إلى 8,000,000 إسرائيلي متواجدين في بقعة جغرافية محدودة إلى درجة كبيرة ، ‏الإشكالية هي في النظرة العربية والتعاطي العربي مع النظرة المستقبلية الصينية للمنطقة ، اي هل بإمكانهم فعلا ان يكونوا شركاء يعتمد عليهم . لكن عموما ايضا يمكن القول انه مالم يشكل العرب اتحادات إقليمية اقتصادية قوية وفعالة ‏يفاوضوا بها القوى الدولية الكبرى الرئيسية من موقع قوة بالموقع فلا الصينيين ولا الأمريكيين ولا الروس ولا غيرهم سياخذون العرب على محمل الجد والثقة ، وهنا يجب الحديث عن مكانة ودور مصر لانها الدولة الوحيدة القادرة على قيادة امر مثل هذا ، ‏والا فانهم سيستمرون في كونهم فضاءات هامشية لنفوذ القوى الكبرى الرئيسية .

إشترك في قائمتنا البريدية