عز الدين المناصرة الشاعر والناقد

 عبد المجيد زراقط
حجم الخط
0

غيَّب الموت، منذ أيَّام، الشاعر الفلسطيني عزَّ الدِّين المناصرة (1946ـ2021). ان كان الموت هو الحقيقة المؤكَّدة في الحياة، فانَّه بالنسبة إلى الفلسطيني، إضافة إلى ذلك، استشهاد واقع، ومحتمل الوقوع، في أيِّ وقت.
هذا الواقع جسَّده عزُّ الدين المناصرة في لوحة شعرية عندما كتب: «كاتبتُ الموت، وكاتبني هذا الأسبوع / عانقتُ الموت، وعانقني قرب الينبوع/ قاتلتُ الموت، وقاتلني، ياسعف يسوع».

قفا نبكِ

عز الدين المناصرة

(…)
يا ساكناً سِقْطَ اللِّوى
قُربَ اليمامةِ بيتُهُ
الخيرُ ينتظمُ البلاد: (بلاد كنعان) السخيّةْ
من بَعْدِ أعوامٍ عِجافْ
عادتْ إليك مزارعُ التفّاح من فرحٍ صبيّةْ
كانت على النبع الذي أحببتَهُ
بعُصارةِ الحنّاءِ تصبغُ وجهَها… تُسقى السُلافْ
وتنام حتى تحرق الشمسُ الصباحيةْ
خَدَّ البُنيَّةْ
تبكي على خلٍّ مضى
نسيتْهُ ، فاختطفتهُ منها النائحات
يا حلوتي: جسدٌ… وفات
فوق الأكفِّ ﻭﻓﻲ النعوش العابرات
فلتعبري نحو ابتهاجات الحياة
يا ساكناً جبل الخليلْ
جَهِّزْ سلاحكَ من عَلِ
وامددْ ذراعكَ للجليلْ
يشتاقُ قلبُ الكرملِ
وبكيت فوق الجسر بين القدس، فالوادي السحيقْ
وصرختُ من يأسي، ومن طول السفرْ
لو مات فارسك المجيد ومات ناطور الشجر
فادفِنْ عظامي، يا حبيبي، تحت كرمتنا، على الجبل العتيقْ
تتعتَّقُ الأيامُ والأعوامْ
ويسحّ ﻓﻲ الشام المطر
تنمو، وتخضرُّ العظامْ
فادفِنْ عظامي … وانتظرْ
يوماً من الوادي، شُروقي
إنّي لأخشى الموت ﻓﻲ المنفى… فَمَنْ
يروي عُروقي؟
(…)

في لقائنا الأخير، في مثل هذه الأيَّام، من العام 2019، في عمَّان، وكنت أشارك في مؤتمر نقدي نظمته جامعة فيلادلفيا، أسمعني هذه الكلمات، عندما سألته عن الأحوال، وتحوَّل الضمير هذه المرَّة إلى «كاتَبْنا … عانَقنا… قاتلنا… «. وعادت بنا الذكريات إلى أيَّام عايشنا فيها الموت في حزيران (يونيو) من العام 1982. كنت، اَنذاك، رئيس قسم الطباعة في مركز الأبحاث الفلسطيني، وبهذه الصفة كنت مدير تحرير تنفيذي لمجلة «شؤون فلسطينية» التي كان يصدرها هذا المركز، وكان هو مدير تحرير هذه المجلة، وكنَّا متفاهمين متعاونين. وعندما كنت أقول لكلّ من يراجعني في أمر: أنا مهنيٌّ مستقلّ، لا أقبل وساطة أحد، كان يشجعني على ذلك، ويبتسم، ويقول: وهل أحلى من أن يكون المرء مستقلَّاً!؟  وعندما بدأ الاجتياح الإسرائيلي، اَنذاك، للبنان وبيروت، اتُّخذ قراراً بمواصلة العمل في المركز، في مكان اَمن، واستمرار صدور المجلَّة، وقد أثمرت علاقتنا تنفيذ هذا القرار بنجاح، في الوقت نفسه الذي كان يحرر جريدة «المعركة» التي صدرت لمواكبة مقاومة الغزاة؛ وذلك على الرُّغم من معوِّقات الاجتياح الهمجي، على مختلف المستويات.
عز الدين المناصرة، كما عرفته، إنسان نقيّ، لطيف، دمث، وديع، حادّ الذكاء، لمَّاح، نافذ الرؤية، شجاع، ابتعد عن المؤسسة الرسمية، فكان مستقل الرأي مستقيمه. انتمى، في مسار نضاله، إلى حركة القوميين العرب (1964ـ1966)، ثم إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (1968ـ1972)، ثم أصبح مثقفاً عضوياً مستقلا في إطار منظمة التحرير الفلسطينية. طوال هذه المسيرة، كان منشد فلسطين، يشتاق إليها محرَّرة، تسكنه، فينشد لطبيعتها التي تشدُّ عزمه:
الليلة هجموا كالغربان
لكن الأشجار معي
والأنهار معي
حتى الحجر الصوان
يفتح لي قلباً
لم يُفتح في أيِّ زمان ومكان …
ويرى أنَّ المقاومة هي الطريق إليها. ولطالما ردَّد: «ياساكناً جبل الخليل/ جهِّز سلاحك من عل/ وامدد ذراعك للجليل/ يشتاق قلب الكرمل… «
عز الدين المناصرة شاعر مبدع راء كاشف، أصدر 11 مجموعة شعرية، بدأت بـ «ياعنب الخليل «، 1968، وانتهت إلى «البنات، البنات، البنات»، 2009، ومنها «بالأخضر كفنَّاه»، 1976، و»جفرا»، 1981، و»كنعانياذا»، 1981. هو، في المقام الأوَّل، شاعر يغنِّي لفلسطين وللميثولوجيا الكنعانية، يقول: «أنا عز الدين المناصرة/ سليل شجرة كنعان/ وحفيد البحر الميت/ قبطان سفن الزجاج المحملة بالحروف/ أسافر في مدن العالم كالطائر…».  ويُغنَّى شعره، غنَّى له مارسيل خليفة قصيدتَي «بالأخضر كفَّنَّاه» و»جفرا»،  وهو ناقد بارع جاء إلى النقد بعد أن أصبح أحد أعلام الشعر العربي، ومارس النقد كما كان يقول دفاعاً عن الشعر. وأستاذ جامعي، حاز درجة الدكتوراه في النقد الأدبي الحديث والأدب المقارن من جامعة صوفيا، سنة 1981، ومارس العمل الأكاديمي في عدد من الجامعات العربية. وهو مفكِّر منظِّر، أصدر 25 مؤلَّفاً تبحث في القضايا الثقافية، وخصوصاً في نظرية الأدب والنقد الأدبي والمثاقفة والنقد المقارن والحداثة وما بعدها والتراث. وقد أثارت مؤلفاته سجالات شبيهة بما أثاره كتاب «قضايا الشعر المعاصر» لنازك الملائكة، وكتاب «زمن الشعر» لأدونيس. ويمكن القول إن كتبه «المثاقفة والنقد المقارن»، و»نظرية الأدب»، و»النقد الثقافي المقارن»، و»الهويات والتعددية اللغوية، في ضوء النقد الثقافي المقارن»، و»علم التناص والتلاص»، و»تداخل الأجناس الأدبية»… وضعت أسس منهج يؤسس لنظرية عربية في شعرية المثاقفة والنقد المقارن، وهو بهذا يجيب عن السؤال الأهم في تاريخ العرب الثقافي الحديث، وهو: لمَ لا نكون منتجين نظرياتنا الأدبية والنقدية؟ أجاب المناصرة عن هذا السؤال عملياً، فسعى إلى وضع أسس هذه النظرية، وعمل على أن ينفتح المنهج على العلوم الإنسانية، وعلى تداخل الفنون. وكان، بصنيعه هذا، منتجاً وليس مستهلكاً، يخرج من هيمنة المركزية الغربية، ليسعى إلى تأصيل تعدُّدية أدبية نقدية ثقافية، فلا يكون متَّبعاً وانما أصيلاً مبدعاً.
كما كان له رأي متميِّز في تصنيف قصيدة النثر، مفاده أنَّها يمكن أن تعدَّ نوعاً أدبياً جديداً، ومعياره في ذلك أنَّها تفتقر إلى الإيقاع الشعري، وهو المكوِّن الأساس للنص الشعري، وما حدث هو أنَّ الكثيرين اقتطعوا عبارته «قصيدة النثر كتابة خنثى»، واكتفوا بها. ويحسب له وضعه مصطلح «النقد المقارن» بدلاً من «الأدب المقارن»، وبحثه في شعرية النص العنكبوتي، أو النص المتشعب التفاعلي، وتأسيسه مفاهيم التعدُّدية النقدية النوعية، وتطبيقه نقداً ثقافياً على الفنون الجميلة: الفن التشكيلي والسينمائي والموسيقي والرسم والدرامي. وهو مناضل، تلقى دورات عسكرية، وشارك في معارك عسكرية، في كفرشوبا والمتحف…
يعدُّ عز الدين المناصرة ضمن مجموعتين من الشعراء الفلسطينيين الكبار الذين أضافوا للشعر العربي إبداعات خالدة. المجموعة الأولى توفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم، والمجموعة الثانية محمد القيسي وأحمد دحبور ومريد البرغوثي . وهو، إذ يعدُّ أحد هؤلاء الشعراء الكبار، يُعدُّ أيضاً ناقداً يرى النقد موهبة ومعرفة وجَلداً وشجاعة ونزاهة، ومفكراً منظِّراً من النقاد والمنظرين العرب الكبار، كما أنه مناضل كاتب الموت وعانقه وقاتله، فقهره، وقتله بما حقَّق من إنجازات، في مختلف المجالات التي أشرنا إلى إنجازاته فيها.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية