عسكرة العالم والطريق إلى جهنم

إذا كان كارل فون كلاوزفيتز قد أسس مقولة إن الحرب هي امتداد للسياسة بوسائل عنيفة، فإننا نستطيع أن نضيف بيقين، أن الحرب تبدأ عندما تغيب السياسة، وأنها تتضاءل وتتلاشى عندما تحضر. وما نهج عسكرة العلاقات الدولية الذي نراه، إلا دعوة لاستحضار الحرب وتغييب السياسة، وذلك على الرغم من آثارها المدمرة. ومن قبيل السخرية أن «عسكرة العالم» تتستر وراء شعار «الديمقراطية ومواجهة الأنظمة الأوتوقراطية»، وهي لا تستقيم إطلاقا مع الدعوة إلى الديمقراطية أو السلام. إن ما نراه من مقدمات وتداعيات «العسكرة» يثير مخاوف حقيقية من انزلاق البشرية إلى انتحار جماعي، إلى جهنم التي لا تبقي حيا على وجه الأرض.
ما نقصده بعسكرة العالم هنا، هو تقديم الحلول العسكرية للمشكلات الدولية على ما عداها، وخلق وإدارة أزمات سياسية بطريق التصعيد والاستفزاز؛ بهدف تحويلها إلى مواجهات عسكرية، وهو ما يعني وقوع «الحرب بطريق الاستفزاز»، ثم العمل بكل الطرق من أجل إطالة أمد الحروب، وتوسيع نطاقها، حتى لو كانت تكلفتها هي شقاء العالم كله ووقوعه في مستنقع الفقر والغلاء والركود والبطالة والخراب.
«عسكرة العالم» تعني أيضا تحويل السياسة إلى قنابل وصواريخ ودمار وموت، وحبس الدبلوماسية السلمية في أقبية مظلمة تحت الأرض، وإجهاض أي دعوة للسلام. كما أنها تعني تحييد مؤسسات النظام الدولي المتعدد الأطراف، وإطلاق العنان لسياسة إدارة العالم من خلال حلف عسكري واحد، هو حلف الناتو، وبقيادة منفردة بواسطة الولايات المتحدة، التي تظن أنها قادرة على إبقاء نظام أحادي القطبية، حتى داخل التحالف الغربي. كما تسعى «عسكرة العلاقات الدولية» إلى تحويل الأمم المتحدة ومنظماتها إلى مجرد منصة للخطابة، أو ما يمكن أن نطلق عليه: «هايد بارك العالم»، وتهميش دورها تماما، وجعلها تبدو بلا قيمة عملية في السياسية العالمية. «عسكرة العالم» تصل إلى حد محاولة إسقاط خصوم الولايات المتحدة من النظام العالمي، وفصلهم عنه تماما، من خلال الحروب الاقتصادية، والمقاطعة، والعقوبات في مجالات كثيرة، حتى تلك التي تعتبر في جوهرها قنوات لبناء السلام بين شعوب العالم، مثل المسابقات الرياضية والغنائية، حيث تم حرمان روسيا من المشاركة في كأس العالم، ومن المشاركة في المسابقة الدولية للأغنية الأوروبية، إضافة إلى فرض قيود على سفر الوفود والطلاب والمواطنين العاديين.

الأمل ما يزال معقودا في قدرة الديمقراطية الأمريكية على تصحيح نفسها بنفسها، وإدراك أن الولايات المتحدة لن تعيش إذا مات العالم

وتقدم الحرب الأوكرانية نموذجا واضحا لكيفية خلق الأزمات وإدارتها في اتجاه العسكرة. وهي مجرد نموذج قد يتم تكرار استخدام دليله للعمل به في أزمات أخرى مقبلة، أخطرها تايوان، وهي الأزمة الجديدة المرشحة للتطور في المسار الذي سبقتها إليه الأزمة الأوكرانية. ومع أن طريق الدبلوماسية ما يزال مفتوحا في أزمة تايوان، إلا أن هذا الطريق قد ينقطع في أي لحظة، خصوصا أن الإشارات إليه تضيء في اتجاه، بينما الإشارات على طريق العسكرة تضيء في الاتجاه المعاكس تماما. ونظرا لأن الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة سيبدأ حملته للانتخابات الرئاسية المقبلة، فإن المزايدات ذات الطابع العسكري أصبحت أحد ملامح المباراة السياسية داخل الكونغرس الأمريكي بين الديمقراطيين والجمهوريين، وفي دهاليز البيت الأبيض بين الراديكاليين والمعتدلين. ومع ذلك فإن الأمل ما يزال معقودا في قدرة الديمقراطية الأمريكية على تصحيح نفسها بنفسها، وإدراك أن الولايات المتحدة لن تعيش إذا مات العالم، وأن عسكرة صراعاتها مع خصومها، مهما كانت الصيغة الأيديولوجية التي تتستر وراءها، سوف تؤدي بالبشرية إلى جحيم جهنم.

عالم ما بعد الحرب الباردة

على مسار «عسكرة العلاقات الدولية» منذ نهاية الحرب الباردة حتى الآن كانت الولايات المتحدة طرفا رئيسيا في كل الحروب تقريبا التي انفجرت خارج حدودها، بدأت بحرب الخليج الأولى عام 1990، والبوسنة وأفغانستان وحرب العراق، والحرب على الإرهاب. وما تزال بعض هذه الحروب مشتعلة حتى الآن في العراق وسوريا والصومال والحرب الممتدة ضد «داعش» و»القاعدة». وكانت حرب أفغانستان (2001- 2021) أطول الحروب في تاريخ الولايات المتحدة. وقد اكتسبت نزعة «عسكرة العالم» قوة كبيرة، بتنشيط سياسة توسيع حلف الناتو شرقا، سعيا لعزل روسيا عن أوروبا، على عكس ما تعهد به الرئيس الأمريكي بيل كلينتون للرئيس الروسي بوريس يلتسين في عام 1994 بالعمل معا على بناء أوروبا موحدة، وضم روسيا إلى مجموعة الدول السبع الصناعية. كما أن سياسة «عسكرة العالم» أنشأت تطبيقا لها ضد الصين لمحاولة عزلها عن جنوب شرق آسيا، وتطويقها بتحالفات عسكرية معادية تضم الولايات المتحدة مع دول من داخل المنطقة. وتنطلق سياسة عسكرة المنافسة مع الصين من تشجيع تايوان على الاستقلال عن الصين، وتقديم المساعدات الاقتصادية لها وتسليحها، على عكس ما تضمنه التعهد التاريخي بين الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون والزعيم الصيني ماوتسي تونغ، بإقامة علاقات سلمية بين البلدين، على أساس مبدأ «الصين الواحدة»، وهو مبدأ يتضمن الاعتراف بأن جزيرة تايوان هي جزء لا يتجزأ من جمهورية الصين الشعبية، مثلها مثل هونغ كونغ وماكاو. كما تضمنت التعهدات الأمريكية وقف تزويد تايوان بالأسلحة تدريجيا، وألا تزيد كمية أو نوعية الأسلحة المقدمة لها عما كانت عليه قبل إقامة العلاقات الدبلوماسية مع الصين الشعبية، حتى تنتهي هذه الإمدادات تماما. وتتعمد الإدارة الأمريكية استغلال غموض التعهدات المقدمة إلى موسكو وبكين، وعدم وجود اتفاقيات مكتوبة تنظمها، سواء ما يتعلق بمسألة توسيع الناتو شرقا، أو التعامل مع «تايوان»، لغرض توسيع أو تمييع المعاني التي تضمنتها هذه التعهدات.
وقد شهدت السنوات الأخيرة تصاعدا في هذا الاتجاه، إلى الحد الذي أشعل حربا في أوكرانيا على الحدود المباشرة مع روسيا، يقف فيها حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة خصما لروسيا، بتسليح أوكرانيا وتشجيعها على مواصلة الحرب، وكذلك إمداد تايوان بصفقات أسلحة متطورة، وتحريضها سياسيا وعسكريا ضد الصين، مع العمل في الوقت نفسه على توسيع طوق الحصار على روسيا من خلال دول البلطيق، والضغط على ألمانيا لزيادة قوتها العسكرية. وكذلك توسيع نطاق الحصار على الصين، من خلال ترتيبات عسكرية مع أستراليا واليابان والهند وكوريا الجنوبية، تضمنت إقامة حلف عسكري جديد «أوكوس» يضم الولايات المتحدة وبريطانيا واستراليا، إلى جانب تحالف عسكري – اقتصادي رباعي يضم الولايات المتحدة واليابان واستراليا والهند. وطبقا لاستراتيجية الأمن القومي للرئيسين الأمريكيين، السابق دونالد ترامب، والحالي جوزيف بايدن، فإن روسيا والصين تمثلان التهديد الرئيسي للمصالح الأمريكية في العالم، بينما تضم الشريحة الثانية من مصادر التهديد أربع دول أخرى هي إيران وكوريا الشمالية وفنزويلا وكوبا.

عسكرة ألمانيا واليابان

في ألمانيا واليابان على وجه التحديد يكتسب التوجه نحو العسكرة أهمية كبيرة ودلالات خطيرة، نظرا لدور كل منهما في إشعال الحرب العالمية الثانية. وقد قررت ألمانيا على ضوء حرب أوكرانيا إعادة بناء قوتها العسكرية، وأنشأت صندوقا لذلك، مستقلا عن الميزانية السنوية لوزارة الدفاع بقيمة 100 مليار يورو. أما اليابان فإنها قررت أن تقلب استراتيجيتها الدفاعية رأسا على عقب للمرة الأولى بعد الحرب العالمية الثانية، وأعلنت قبل أسبوعين استراتيجية جديدة، تتخلى بمقتضاها ضمنيا عن «مبدأ الدفاع الذاتي»، وإعادة بناء قوتها العسكرية على أساس «مبدأ توجيه الضربة الأولى»، على ضوء التوتر في بحريّ الصين، الشرقي والجنوبي. هذه النزعة العسكرية الجديدة في كل من ألمانيا واليابان تشكل جزءا من حقائق جيوستراتيجية جديدة في العالم، تمثل قيودا أو حوافز في عملية تطوير نظام عالمي جديد. ونستطيع التمييز بوضوح بين النزعة العسكرية الألمانية الجديدة، التي ترفض الحرب الباردة، ومقابلها في اليابان، التي تنبع من مفهوم قومي يتوافق مع مسار الحرب الباردة الجديدة. وتتميز النزعة العسكرية الجديدة في ألمانيا بارتباطها برؤية فلسفية للعالم المتنوع، ولدور أوروبا الجيوستراتيجي في نظام متعدد الأطراف، وليس النظام الأحادي القطبية. وقد عبر عن ذلك المستشار الألماني أولاف شولتس في مقال كتبه في العدد الجديد من مجلة «فورين أفيرز»، وسبق أن أكد عليه في منتدى دافوس وفي بيانات سياسية في جلسات البوندستاغ. وعلى العكس من ذلك فإن النزعة العسكرية اليابانية تحركها مشاعر قومية شعبوية، وتسعى لترسيخ الحرب الباردة، وتتبني الحلول العسكرية للنزاعات الإقليمية في جنوب شرق آسيا، خصوصا في نزاعات اليابان مع كوريا الشمالية والصين. هذه النزعة تضع اليابان في حالة تصادم «قومي»، ليس فقط مع الصين وروسيا وكوريا الشمالية، ولكن مع دول «حليفة» مثل كوريا الجنوبية، كما تثير قلقا شديدا في أستراليا التي عانت هي الأخرى من النزعة العسكرية اليابانية خلال الحرب العالمية الثانية.
كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول باعمراني:

    إعادة بناء القدرات العسكرية في ألمانيا و اليابان تحدي خطير أمام العالم خاصة في ظل امتلاك البلدين لقدرات علمية و تنظيمية متطورة … ستمكن البلدين من امتلاك أسلحة فائقة ..

إشترك في قائمتنا البريدية