عشرة أشهر من الصمود: غزة تكسر نظرية الأمن الإسرائيلي

دخلت حرب الإبادة التي يشنها الكيان الصهيوني على الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية شهرها العاشر. إنها أطول حروب العرب جميعا مع الكيان منذ إنشائه، هذا إذا اعتبرنا أن حروبا حقيقية دخلتها الجيوش العربية، ما عدا حرب أكتوبر 1973. لقد نسفت هذه الحرب نظرية الأمن الإسرائيلية القائمة على استراتيجية عسكرية ثابتة تستند إلى نظرية الحرب الخاطفة التي تشن في أرض خارج الكيان، وتعتمد على آخر مبتكرات تكنولوجيا الأسحة المتطورة لتحقيق انتصارات حاسمة وسريعة وبأقل كلفة مادية وبشرية.
المفاوضات الآن مستمرة حول وقف إطلاق النار وإطلاق الرهائن والأسرى وعودة المهجرين إلى مناطقهم، ورحيل الاحتلال والبدء بإعادة الإعمار. المفاوضات صعبة وحساسة وهناك تفاؤل حذر بأن التوصل لاتفاق بات قريبا. المقاتل العنيد هو المفاوض العنيد، وأي مفاوضات لا تسندها القوة والاستعداد لاستئناف القتال لن تؤدي إلا إلى الاستسلام، وهو ما حدث في أوسلو وغيرها. نحن نشعر بعمق المأساة الإنسانية، ولكن هل ترك الكيان للفلسطينيين وقوى المقاومة إلا خيار الصمود والقتال وإجبار العدو أن يتجرع من كأس المرارة التي تذوقها الفلسطينيون لأكثر من قرن من الزمان؟ وأود هنا أنا أنظر إلى الحرب من زواياها الأربع، الفلسطينية والإسرائيلية والعربية والدولية، عشية طوفان الأقصى وكيف تغيرت الصورة جذريا بعد هذه الشهور الطويلة من الصمود والتضحيات والقتال، بصورة تكاد تكون أقرب إلى المعجزة في ظل اختلال صارخ لموازين القوى.
لم يكن الوضع الفلسطيني أسوأ مما كان عليه عام 2023، فقد شهد النصف الأول من السنة أعلى نسبة ضحايا منذ عام 2005. فبعد وصول اليمين الأكثر توحشا في تاريخ الكيان بعد انتخابات نوفمبر 2022، اتضحت الاتجاهات التي يسير فيها هذا الثالوث الدموي: (نتياهو، بن غفير ، سموتريتش) والقائمة على ثلاثة عناصر: توسيع الاستيطان والاستيلاء على الأرض، وإطلاق أيادي المستوطنين لاستخدام العنف المفرط، تصعيد اقتحامات الأقصى، تغييب القضية الفلسطينية تماما عن المسرح الدولي. أصبحت السلطة الفلسطينية في أضعف حالاتها. وخطاب عباس في الأمم المتحدة في الخامس عشر من مايو 2023 بمناسبة الذكرى 75 للنكبة أوضح مثال على هذا الهوان الذي وصلت اليه القيادة الرسمية عندما خاطب القاعة قائلا: إحمونا: حتى الذي عنده حيوان يحاول أن يحميه». لقد فشلت الجهود لتوحيد الساحة الفلسطينية بما في ذلك اتفاق الجزائر بتاريخ 13 أكتوبر 2022 بحضور 14 فصيلا ولقاء العلمين الاحتفالي في 3 يوليو 2023. لقد تغولت الحركات الاستيطانية واتسع حجم الاقتحامات، بالمقابل توسعت ظاهرة عرين الأسود بعد ازدياد القناعة بأن الاستشهاد أفضل من حياة الذل التي وصل إليها الناس، بسبب التنسيق الأمني والاقتحامات والمداهمات، فانتقلت الظاهرة بقوة إلى كتائب جنين وطولكرم والعديد من المخيمات والقرى. اتسعت دائرة العنف الصهيوني وتعمق الشرخ مع سلطة التنسيق الأمني فما كان أمامهم خيار إلا المواجهة.
أما الكيان الصهيوني فقد بلغت العنجهية مداها عام 2023، خاصة بعد أن قطعت محادثات التطبيع مع المملكة العربية السعودية شوطا بعيدا، لدرجة أن نتنياهو تحدث عنها بكل أريحية في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 24 سبتمبر 2023 الذي رفع فيه من على منصة الجمعية العامة خريطة ما سماها دولة إسرائيل عام 2023 مقارنة بما كانت عليه عام 1948، وفيها اختفى أي أثر لفلسطين، وأضيف إليها هضبة الجولان السورية المحتلة. لقد أنجزت إسرائيل في السنوات الأخيرة بعد التطبيع العربي، اختراقات مميزة مع كثير من الدول الافريقية وأمريكا اللاتينية. وأقامت علاقات حميمية مع الهند وروسيا والصين. وللصين شركات عديدة تعمل في المستوطنات، أما علاقاتها مع دول أوروبا الشرقية فهي صلبة جدا، ووقعت مذكرات المعاملة المميزة مع كامل دول الاتحاد الأوروبي.

حرب الإبادة على غزة رسمت الصورة الحقيقية بأن إسرائيل تريد للفلسطينيين أن يختفوا من التاريخ والجغرافيا، فهل المفاوضات ستفشل هذا الهدف، أم المقاومة والمواجهة؟

لا نحتاج لكثير من الشرح عن الوضع العربي العام المتردي وغياب المشروع القومي العربي والأمن القومي العربي المستباح، في الوقت الذي تتعاظم قوى الجيران الأربعة: إثيوبيا وإيران وإسرائيل وتركيا. الحروب البينية أو النزاعات الطائفية أو السياسية أو العرقية مستعرة في اليمن وليبيا وسوريا والعراق، وفي أبريل 2023 انفجر الوضع في السودان بتمويل عربي، ولبنان دون رئيس منذ 1 نوفمبر 2022 وسوريا مجزأة ومقسمة، كما شهدت تونس نوعا من الانقلاب الدستوري في يوليو 2021، والمغرب والجزائر تردت العلاقات بينهما أكثر، خاصة بعد اتفاقيات المغرب مع الكيان الصهيوني، وتصريحات قادته الاستفزازية من على أرض المغرب ومحاولة إقحام إسرائيل في الاتحاد الافريقي. القمة العربية في الرياض في مارس 2023 دعت الرئيس السوري إلى المشاركة دون تطبيع مع النظام، ودعت الرئيس الأوكراني زيلينسكي لإلقاء خطاب. وكان قد تلقى في أكتوبر 2022 معونة مالية من السعودية بقيمة 400 مليون دولار. الجامعة العربية لم تعد لا جامعة ولا عربية. طيران الكيان يمر من فوق السعودية والولايات المتحدة أعلنت عن إنشاء خط تجاري من الهند إلى الإمارات مرورا بالسعودية والأردن إلى إسرائيل. مصر غائبة عن المشهد ودول الخليج لم تتجاوز خلافاتها العميقة والجميع تقريبا ما عدا بلدين أو ثلاثة تخلوا عن فلسطين، ولم تعد أولوية للغالبية الساحقة من البلدان العربية.
الوضع الدولي في محصلته يخدم الموقف الإسرائيلي، فقد غير الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، أثناء سنواته الأربع قواعد الوساطة الأمريكية في العملية السياسية منذ أوسلو إلى آفاق جديدة ممكن أن نسميها الانصياع للشروط الإسرائيلية تماما، فالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل والجولان جزء من إسرائيل، ولا دولة مستقلة للفلسطينيين، والمستوطنات شرعية، والتطبيع العربي يسير نحو اختراقات أخرى، والعالم الإسلامي ينتظر التطبيع السعودي ليدلف من الباب الواسع من إندونيسيا حتى موريتانيا. تحولت أنظار العالم عن القضية الفلسطينية لسببين أساسيين: وباء كوفيد 19 الذي فاجأ العالم كله بالدهشة والخوف والأزمات الإنسانية، والحرب على أوكرانيا، التي هزت كل الدول الغربية واعتبرتها الولايات المتحدة وحلفاؤها امتحانا صعبا للهيمنة الأمريكية، ومحاولة جادة من روسيا بدعم من الصين للإطاحة بتلك الهيمنة. ولولا مواجهات سيف القدس وهبة الكرامة ومواجهات الشيخ جراح عام 2021 لغابت القضية تماما.
في ظل هذه الأوضاع المختلة لصالح العدو الصهيوني، محليا وعربيا ودوليا، جاءت عملية الطوفان فخلقت ديناميات جديدة يصعب حصرها هنا، وسأمر على بعض المحطات:
– ما زالت المواجهات في غزة مستمرة، ولا يمضي يوم واحد دون أن يحمل الكيان قتلاه وجرحاه. وعندما يشعر باليأس من الانتصار يصب غضبه وقهره على المدنيين فيرتكب من المجازر ما لم يشهد له التاريخ الحديث مثيلا.
– ما زالت القوى المساندة تخوض عمليات متواصلة لدعم غزة وتربط وقف إطلاق النار في جبهاتها بوقفه أولا في غزة.
– عادت قضية فلسطين لتحتل صدارة الاهتمام الدولي، فلا يلتئم اجتماع أو تعقد انتخابات إلا كانت غزة أول الحضور. تتصدر القضية جدول أعمال الأمم المتحدة، فقد اعتمد مجلس الأمن أربعة قرارات، واعتمدت الجمعية العامة قرارين حول وقف إطلاق النار، وقرارا حول أهلية فلسطين لتكون دولة كاملة العضوية. ومحكمة العدل الدولية أصدرت ثلاث مجموعات من الإجراءات الاحترازية، التي تتضمن أمراً واضحاً لإسرائيل بوقف إطلاق النار وتوفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية.
– المظاهرات المؤيدة لفلسطين انتشرت في معظم دول العالم. العالم كله ينتصر لفلسطين والمقاومة والصمود والجامعات أطلقت ثورة طلابية تتفوق على ثورة عام 1968.
– الكيان يكاد ينهار اقتصاديا ومعنويا وسياسيا ومجتمعيا. مئات الألوف فروا إلى حيث جنسياتهم الاحتياطية. ثلث السكان لا يرون مستقبلا لهذا الكيان، حسب استطلاعات الرأي الأخيرة. الشروخات المجتمعية تتسع وتكاد تؤدي إلى مواجهات عنيفة.
حرب الإبادة على غزة رسمت الصورة الحقيقية للمرة الألف بأن إسرائيل تريد للفلسطينيين أن يختفوا من التاريخ والجغرافيا. فهل المفاوضات ستفشل هذا الهدف أم المقاومة والصمود والمواجهة. وهل حصل شعب على حريته واستقلاله وسيادته إلا عبر التضحيات؟
كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية