في عمر الإنسان تبدو العشر سنوات طويلة، لكنها لا تساوي شيئا في عمر الشعوب. الأحداث الكبيرة أو الصغيرة في حياة أي شخص قد تغيرها كلها. قد تصيبه باليأس، وقد تدفعه للأمام، ولا يعرف عنها أحد شيئا. كم منا يهتمون بقصص الحب الفاشلة في العالم، إلا إذا كانت لصديق أو صديقة. كم منا يعرف شيئا عمن وجد عملا جيدا أعانه في الحياة؟ كم منا يعرف شيئا عمن هاجر إلى بلاد الله يبحث عن فرصة أخرى؟ في كل الأحوال يعرف المقربون.
حتى في أحداث مثل الوفاة أو الزواج يجتمع الكثيرون، ثم تأخذهم الحياة بعيدا، ويذهبون إلى مناسبات أخرى تمر عليهم مثل غيرها. سعي الإنسان لنفسه يعرفه القريبون منه، لكنه يظل عاديا في حياة البشر. الأحداث التي تقع لأمة من الأمم تظل في التاريخ غير منسية، مهما حاول الحكام، ومن يسعون سعيهم من الكتّاب أن يشطبوها من التاريخ ويقللوا من حجم آثارها. سيظل العالم يعرف تاريخ الشعوب والغزوات والثورات منذ بداية التاريخ.
ثورتان كبيرتان وقعتا في مصر عبر تسعين سنة. الأولى ثورة 1919 وكُتبت عنها عشرات الكتب، ثم جرت محاولة تشويهها بعد يوليو/تموز 1952 لكنها محاولات لم تنجح. ظلت ثورة 1919 في مكانها صانعة النهضة الحديثة، ومفجرة روح الاستقلال رغم كل الصعوبات التي واجهتها من الإنكليز أو الخديوي أو الملك في ما بعد، أو الأحداث من حول مصر. لم تكن انقلابا قام به مجموعة من العسكريين، بل كانت حركة شعبية اتسعت لتصبح ثورة حقيقية. حدثت في مصر بعدها عشرات الانتفاضات، يذكرها التاريخ في العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات، سواء من الفلاحين أو الطلاب أو من العمال، أو حتى الموظفين، وحفرت هذه الحركات لها مكانا في التاريخ، لكنها كانت بنت الثورة الأولى والأكبر. ثورة 1919.
انتهى هذا كله بعد انقلاب يوليو 1952، وبعد انتفاضة عمال كفر الدوارالسلمية لزيادة رواتبهم في أغسطس/آب من العام نفسه، التي راح ضحيتها أول عاملين صغيرين في التاسعة عشر من عمريهما اشتهرا بلقبيهما خميس والبقري في محاكمة عسكرية، وأعدما في سبتمبر/أيلول من العام نفسه أيضا. تم بعدها تدجين النقابات والعمل الأهلي وتمت الإغارة على بعضه وإنهائه، وتأخير مجلس النواب وإلغاء الأحزاب، وصارت الدولة المركزية هي التي تمتلك الحقيقة حتى وقعت هزيمة 1967، فكشفت ما كان يبدو مستورا من اعتقالات، وما جرى في السجون، لكن الأهم أن الهزيمة كانت مثل صرخة الفضاء ضد المركزية والشمولية والديكتاتورية، أو ما تشاء من اصطلاحات، رغم يقيني بالمؤامرة الأمريكية الإسرائيلية، فالمؤامرات لا تنجح إلا في الأرض الممهَدة لذلك.
لم تتوقف الانتفاضات منذ عام 1968. وأنا أتحدث هنا عن الانتفاضات السلمية التي شهدتها الجامعات والمصانع، لا عن المجاهدين والمسلحين في السبعينيات والثمانينيات، الذين صاروا الشماعة التي يعلق عليها النظام قمعه للحريات، ونشره للفساد، بينما هي أصلا من صنعه منذ أيام السادات، وبالصمت بعد ذلك. المهم أن هذه الانتفاضات زادت ليس حبا فيها، ولا حبا في ثورة، لكن لرواج الفساد. لقد كان السؤال عن كيف أن ثورة مثل يناير/كانون الثاني ليس لها قائد، لكن هذا الذي رآه البعض عيبا في الثورة، كان دليلا على أن أكبر محركات الثورة هي أفعال النظام، وليس تخطيطا سريا أو علنيا.
أتخيل أحيانا أن أصوات الشباب لا تزال معلقة يسمعها من يذهب إلى الميدان ليلا تقول نحن هنا. تخيلات أديب حقا لكنها الحقيقة التاريخية، فالأرض تحتفظ بما مرّ عليها من جَمال.
بعد يوليو 1952 كان القضاء على الروح الليبرالية التي كانت تتسع، وتحويل الدولة إلى دولة شمولية، انتهي بها إلى ضياع ما أنجزته ثورة 1919 حقا من معنى الحرية، لكنه انتهى بها أيضا إلى القضاء على ما أنجزه انقلاب يوليو 1952 بعد أن حمل لقب ثورة في الصناعة والزراعة والتعليم والصحة والثقافة، مما كانت تفخر به الدولة. كان حقا يدعو إلى الفخر، وقد أجهز عليه رجال من صناع حركة يوليو أولهم طبعا أنور السادات، ثم من جاء وراءه يمشي على خطاه. ما جرى يؤكد الحقيقة التاريخية، أنه لا تقدم بلا حرية. أخطاء الحرية يمكن علاجها لكن أخطاء الشمولية في الحكم تصبح خطايا معلقة في الفضاء، تأتي باللعنات على البلاد من السماء مهما تأخرت اللعنات من الأرض.
الثورة الثانية كانت ثور يناير عام 2011 بدأت بتونس في السابع عشر من ديسمبر/كانون الأول بعد أن أحرق الشاب البائع الجوال محمد البوعزيزي نفسه بعد أن أهانته الشرطية التونسية، والتهبت مصر وكثير من العالم العربي. أخفق الجميع إلا تونس نجحت وإن رأى البعض نجاحها بنسبة خمسين في المئة. نجحت لأنها انتصرت للديمقراطية، التي تفتح الأبواب لحل كل القضايا الاجتماعية والاقتصادية والثقافية مهما تأخرت. لماذا لم تنجح الثورات الأخرى نجاح تونس؟ حديث صار معروفا لكل من شاهد الأحداث والدخول فيه يحتاج إلى كتاب. لقد انتهت الثورة في مصر إلى الفشل أو الإفشال، لكن هل هذا يلغي أنها كانت ثورة، وأنها ستظل في التاريخ وفي الفضاء. لقد شاهدت أحداثها يوما بيوم، وكنت متفائلا من كم الحشود التي رأيتها، والشعارات التي ارتفعت قريبة من شعارت الثورة التونسية عن العيش والحرية، وموازية تماما لشعار «إرحل». رأيت الرصاص أمامي يصيب الشباب ورأيت مستشفيات الميدان ورأيت السيارات تمر في الأيام الثلاثة بعد الثامن والعشرين من يناير بالليل تقذف بالرصاص المتأخرين في الشوارع الجانبية لميدان التحرير، كما رأيت في اليوم الثامن والعشرين من يناير ومع آخر النهار جنود الأمن المركزي، وهم يفرون تاركين أماكنهم بعد يوم لم يتكرر من الإرادة من ناحية، رغم قنابل الدخان ثم الرصاص من ناحية أخرى. لن أحكي تفاصيل تلك الأيام فهي زاخرة على الميديا، أو عما جرى بعد ذلك من مؤامرات على الثورة، أو من أخطاء للثوار أنفسهم، الذين كانوا لا يتصورون أن هناك من يكذب عليهم، أو أن هناك من سيتأخر عنهم، ولم يدركوا الحقيقة الوحيدة وهي، أن ثورة بلا سلطة للثوار لا أمل فيها. تظل أيام ميدان التحرير علامة على الطهارة في فضاء التاريخ لن يمحوها أي نقد أو انتقاد. كل التفاصيل التالية لا تهمني، لكن يهمني أن من يتصور أن هذه الثورة لم تحفظ مكانها في الفضاء واهم. أتخيل أحيانا أن أصوات الشباب لا تزال معلقة يسمعها من يذهب إلى الميدان ليلا تقول نحن هنا. تخيلات أديب حقا لكنها الحقيقة التاريخية، فالأرض تحتفظ بما مرّ عليها من جَمال.
طريق الثورات طويل. هل عرفت شعوب صمتا مثل شعوب الاتحاد السوفييتي؟ من أين إذن جاءت الثورة على الشيوعية والدولة المركزية؟ هي الحريات فقط ضامن المستقبل، وضامن الاستقرار ومُبعد الثورات وجعلها ذكرى، بل كما قلت ونسيانها فلا تزيد عن صور جميلة على الميديا.
لقد عشت الثورة المصرية ايضا يوما بيوم في ميدان التحرير. انها ثورة عظيمة لشعب عظيم. هذا الشعب الذي ضحى تضحيات جسام لنصرة فلسطين وخانوه الحكام. وخانوه حكام الردة الذين أتوا بديكتاتور جديد يعيد سيرة اسلافه. لكني مطمئن لهذا الشعب العظيم لانه سيقوم مرة اخرى للدفاع عن جريته وكرامته. أمة اولدت حضارة الفراعنة لن تموت
ياسيدي حضارة الفراعنة هي اساسا حضارة للموتى والجنائز والتوابيت.