عقاب كوني يطارد مرتكبي الجريمة

شعب كامل من الشهداء. هذا هو المشهد المعلن أمام السماوات السبع، وأمام ما ينتشر تحتها من قارات مصعوقة بهول ما تسمعه وتراه. هذا هو المشهد. الباب موصد تماما من الخارج فيما الجسد الفلسطيني، يبدو محشورا في الزاوية، ونازفا تحت خناجر القتلة، فيما هم يدمنون سعار فتكهم، مخافة أن يبعث من دمائه حيا يرزق، بما يمتلكه من عناد ومن إصرار.
شعب كامل من الشهداء. هذا هو المشهد الذي ليس لبشر أو حجر في هذا الكون المتعامي الأطراف، أن يتنكر لفداحة الجرائم الدائرة فيه. وتلك هي المأساة الفعلية التي يعاني الضحايا من شراستها. هي مأساة جحود وإنكار مبيت لجريمة قتل أمسى ـ ويا للغرابة ـ من المتعذر إقناع المؤسسات الدولية بحقيقتها، رغم القرائن الدامغة التي لا تحتاج بالضرورة لدليل إثبات أو نفي، يؤشر تلقائيا لإمكانية تصنيفها، ضمن خانة الجريمة.
في ظل هذا الجحود، سيكون من الطبيعي قراءة بنود حقوق الإنسان – الموظفة من قبل المنتديات الدولية، في تأطير الصراعات الدائرة رحاها في بقاع المعمورة ـ على ضوء قيم مشبوهة، منزهة تماما عن تلك المتعارف عليها بهذا الصدد.
الأمر هنا، يتعلق بالطمس المبيت والصريح، لكل القرائن البصرية والسمعية الدالة على حدوث الجرائم المرتكبة من قبل أنذل ما تمخضت عنه حداثة التقتيل الهمجي على هذه الأرض. طمس، لم تعد معه هذه القرائن، مخولة بحال من الأحوال، لفتح باب الاعتراف الضمني، بما هو متاح للرؤية العينية من شراسة الإبادة وأهوالها.
وفي اعتقادنا، أن إصرار الإعلام المنحاز، على تجاهل مبدأ توجيه تهمة الإجرام الحربي إلى عساكر الاحتلال الإسرائيلي، ومن يصطف خلفه من طوابير الأنظمة المصابة بطاعون الإسلاموفوبيا، مرده التداعيات المهولة لاستراتيجيات القتل الإسرائيلية غير المسبوقة، والمستقاة من أشد مرجعيات الإفناء بطشا وترويعا، ذلك أن ما يحدث حاليا في غزة من فتك، كما جاء على لسان الخبراء، لم يسبق له مثيل في تاريخ جميع أنماط الإبادات، التي عانت البشرية من جحيمها، حيث فاقت تداعياته كل التكهنات التي يمكن أن تراود أعتى أباطرة القتل تطرفا، ما يدعونا لتوصيفه، ولو على سبيل السخرية المرة، كونه أمسى نتيجة ذلك، فتكا بعيدا عن متناول كل المعايير الدولية، المعتمدة عادة في متابعة قضايا التجريم. كما أنه أمسى بقوة عدوانيته، منتميا إلى ما يمكن تسميته بالمخيال الحربي، الذي تتجاوز محكياته كل الحدود المتوقعة، خاصة من جهة إمطاره لبقعة أرضية ضيقة اسمها غزة، من سموم الإبادة ما يكفي للإجهاز على قارة بكاملها. وهي وضعية بلغت من المأساوية، ما يتجاوز صلاحية السلط الإجرائية التي تتميز بها القوانين المتخصصة في متابعة مرتكبي جرائم الحرب، حيث تظل أيدي القتلة سائبة وطليقة، وفي منجى عن أي عقاب أممي محتمل، خاصة حينما تكون معززة بنقض /فيتو أمريكي، غير معني إطلاقا ببذل أدنى جهد أخلاقي، يمكن أن يتبين بموجبه ما تنوء به الصورة والصوت، من مجازر ومن حرائق. ثم ماذا بوسع منطق القوانين الدولية أن يقول؟ ما دامت الأشرطة الموثقة للإبادة الجماعية، والمنتزعة من أتون الغارات، غير كافية لإقناع المنتظم الدولي بارتكاب دولة الاحتلال لجرائمها المكشوفة، والعارية من أي اعتبار إنساني يذكر. مع العلم أن الأمر يتعلق هنا بأشرطة ملتقطة من لدن إعلام موضوعي، تمت تصفية نسبة كبيرة من طواقمه خلال تصويرها – وبإباء- مسلسل الغارات المتتالية، على كل ساكن ومتحرك يقع تحت طائلة النار.

أشرطة سمعية بصرية، لم تعد تجدي سلطتها التوثيقية نفعا، في تحريك الحد الأدنى من مسطرة العقاب الدولي، رغم ما تطفح به من حقائق عصية على كل طعن محتمل، ينتفي معه أي تشكيك في ما يحدث على مستوى الواقع المميت، وليس على مستوى الظن. وهو ما يدعو للجزم، بأن الأصل/المسكوت عنه في تفعيل قوانين جرائم الحرب، يخضع أساسا لحسابات مؤطرة سلفا، من قبل اللوبيات الإقصائية والعنصرية، حيث العبرة تكمن بالنسبة لها في ضرورة توافر شروط مشبوهة، غير معلنة وغير مصرح بها. بمعنى الشروط الكفيلة باختيار ضحية معينة دون غيرها، من قلب دوار الصراعات غير المتكافئة. ضحية، قد تكون ذات هوية فردية، كما قد تكون ذات هوية مقترنة بشعب أو نظام.

لكن بموازاة ذلك، ينبغي تأويل هذه الجرائم البشعة والعشوائية، التي تفجر بها عساكر الاحتلال أحقادها الدفينة أوصال جسد غزة، بحمى السعار المستبد بها. سعار ناتج عن تبخر كل ما خطته نواياها التدميرية من أوهام مسبقة، والتي يمكن اختزالها في وهم طيها لصفحة الغضب الفلسطيني بين يوم وليلة، بما تعنيه كلمة الطي هنا، من وأد همجي، لكل ما يمكن أن يلهج به المكان الفلسطيني من سخط ومن مقاومة.
هو سعار هستيري، يحكم قبضته على أوداج الكيان الصهيوني، ويمسك بخناق كل مكوناته الحكومية، والعسكرية، والإعلامية، فضلا عن أغلب مكونات المراكز المصطفة في ركابه. سعار، يتصاعد من تنامي إحساسهم الدفين بالعجز عن تحقيق الحد الأدنى من أهدافهم، التي ما فتئوا يمنون دواخلهم الظلامية بتحقيقها، فور استيقاظهم من كابوس هجمة طوفان الأقصى. سعار إحباط، ناتج عن فشل العثور عن جسد المقاومة /الشبح، التي لا تني تباغتهم من اللامكان. سعار الهزيمة النكراء، التي تطاردهم يوميا، رغم التحشيدات العسكرية التي يزجون بها في جميع المحاور التي تطالها آلياتهم. سعار هزيمة، تكشف تباعا عن عري حقيقتهم للرأي العام العالمي، كي يظهروا تحت أنظاره وهم مجردون من كل المساحيق الشعاراتية التي دأبوا على تمويه عاهاتهم بها.

سعار يدفعهم إلى تفريغ مخزونهم التدميري في كل المربعات السكنية، التي تقع تحت طائلة غارات مسكونة بهوس تطهيري، لا يغمض له جفن، ولا يقر له قرار، إلا بعد إجهازه المفتوح على المزيد من الضحايا. سعار خذلان، يفضي بالكيان اللقيط إلى فقدان البوصلة، ويستحثه لانتهاك كل المواثيق الأخلاقية والقانونية، بالسعي لقطع دابر مستقبل المقاومة، عبر مسلسل تسليط أحزمته النارية على الأطفال والنساء، وبوتيرة متصاعدة، مستهدفا بذلك مراكز الإيواء، ومخيمات النزوح، بالهستيريا نفسها التي يستهدف بها المستشفيات، والمدارس والمساجد، و»المناطق الآمنة» كافة، التي ليست في الواقع سوى كمائن لمدافن، لا تتوقف عن استقبال المزيد من الجثامين.
لكن، ومع ذلك، وضدا على استحالة توافر الشروط القانونية التي من شأنها استكمال إجراءات الإقرار بارتكابه لجرائم حرب، سوف تتيسر إمكانية استكمال شروط إدانته، عبر قنوات الرأي العام الدولي، الذي شرع تدريجيا، وأمام بشاعة الجرائم المروعة، في التخلص من سلطة المغالطات اللاتاريخية، التي دأبت الأيديولوجية الصهيونية على ترويجها، وتكريسها. ذلك أن الحرب الوحشية التي تورطت فيها دولة الاحتلال، كانت كافية للكشف عن هويتها الحقيقية، تحت أنظار شعوب العالم قاطبة، و هي بامتياز هوية قتلة محترفين، تجاوزت مجازرهم أقصى ما يمكن أن يخطر على بال المدونات المختصة في تقفي أثر الجريمة. ولعل هذا الكشف، هو أثمن هدية قدمها المنجز التاريخي لطوفان الأقصى إلى العالم، التي سيظل الكيان الصهيوني بموجبها، مطاردا بطوفان عارم من الكراهية على امتداد أزمنته القذرة. كراهية مستدامة، لن ينفع مع عدواها وانتشارها انحياز أي فيتو ذيلي للأكاذيب الصهيونية، مهما علا شأنه العسكري، السياسي، أو الإعلامي.

شاعر وكاتب من المغرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية