«إنها مثل منطقة حرب هناك».
كانت تلك الطريقة التي وصف بها أوّل ما شاهده صحافي أمريكيّ أيقظته حماته ذات صباح لتنقل إليه أنباء الهجوم بطائرات مدنيّة مخطوفة على برجي التجارة العالمية في مدينة نيويورك، وانتقل إلى هناك في آخر مترو أنفاق نحو الموقع قبل أن توقف السلطات كافة أشكال النقل المشترك عن الحركة.
مراسل تلفزيوني كان وصل للتوّ إلى عين المكان وشرع في نقل الأجواء قال: «إنني أرى الناس يقفزون من النّوافذ».
وفي لحظة ما وسط الفوضى، تصاعدت سحابة سميكة من الأبراج المحترقة قبل أن تنهار تماماً، لتغطي المنطقة برّمتها طبقةٌ كثيفةٌ من الغبار الرّمادي.
لم يدر في بال الناس المروّعين وقتها من سكان نيويورك، أو المتابعين للنشرات الإخباريّة عبر التلفزيونات على امتداد المعمورة بأن الكارثة التي يتابعونها غير مصدقين، لم تكن سوى مخاض ولادة عالم جديد، تغيّرت بعده الولايات المتحدة، والعالم ككل إلى الأسوأ، ومنحت أمراء الظلام من الفريق الحاكم في واشنطن (الشرعيّة) اللازمة لنشر الموت من خلال صلف «الحرب (المزعومة) على الإرهاب».
دفع العالم ثمناً باهظاً لما حدث. لم تقتصر الخسائر على عدة آلاف من الأشخاص الذين فقدوا حياتهم في المباني المستهدفة والطائرات المخطوفة، بل إن هؤلاء تحديداً أصبحوا تبريراً لشن حروب أمريكيّة عبر البحار – من أفغانستان إلى العراق ومن شرق إفريقيا إلى غربها – ضد جهات لا علاقة لها مباشرة بالحادث ودائماً تحت راية محاربة الإرهاب التي تبنتها إدارة جورج دبليو بوش المتطابقة مع أوهام وتوجهات المحافظين الجدد وعتاة الصهاينة.
سقط في تلك الحروب ملايين الأشخاص، ودمّرت دول ومجتمعات وأعيدت حرفياً إلى العصور الحجريّة، وأهدرت ميزانيّات فلكيّة على التسليح والعمليّات كانت تكفي لتعليم كافة طلاب العالم في الجامعات مجاناً ومنح رعاية صحيّة شاملة ومنازل لكل الأمريكيين على الإطلاق.
إرث اليوم المشؤوم بين المقتول والقاتل
التغطيات الإعلاميّة التلفزيونيّة في الذّكرى العشرين لذلك اليوم المشؤوم تركزت معظمها على استذكار النتائج السياسيّة للحرب المزعومة على الإرهاب لا سيّما في ظلّ الانسحاب الأمريكيّ الأخير من أفغانستان ومشاهد مئات الأفغان العاملين مع قوات حلف الناتو وهم يتحلّقون بيأس حول آخر الطائرات المغادرة من البلاد.
لم يفلح الاحتلال الأمريكيّ طوال 20 عاماً لأفغانستان وللعراق – السّاحتين الأساس المستهدفتين في حرب بوش على الإرهاب – سوى في قتل الملايين وتحويل مجتمعات عريقة إلى بؤر للتخلّف، واليأس، والفقر، والهشاشة. لكّن ذلك الإرث انعكس أيضاً على المجتمع الأمريكيّ نفسه في كثير من المجالات: التأسيس القانويّ للتعدي على الحريّات الشخصيّة للأمريكيين، وتشريع التعذيب، وجمع البيانات الشخصيّة بلا رادع، والعلاقة مع أوروبا وأكواد البناء، والمدن الذّكيّة، وأنظمة السفر الجويّ، وقدّمت التلفزيونات والصحف قوائم لمناحٍ متعددة تغيّرت في حياة الأمريكيين بعد هجومات 11 سبتمبر/أيلول من السينما إلى طرائق مكافحة الحريق، ومن أنظمة الملاحة إلى أبجديات التعبير عن الحبّ، ناهيك بالطبع عن الانعكاسات على العمل الإعلامي والتلفزيوني من ولادة شريط الأخبار العاجلة إلى نشوء فضاء هائل على الإنترنت للتّداول بشأن نظريات (مؤامرة) بديلة حول ما جرى ودوافعه تتناقض مع الرّوايات الرسميّة المثخنة بالثقوب والتحجج بسريّة المعلومات.
وعلى الرّغم من كل تلك الارتكاسات والنتائج المخجلة لمجمل التجربة البشريّة في عصرنا الرّاهن، فها هما الرئيسان، السابق جورج دبليو بوش والحالي جوزيف بايدن يحتفلان بالذكرى العشرين للهجمات عبر دعوة الأمريكيين إلى مزيد من الوحدة متناسين بصفاقة – وشاركهم في ذلك إعلاميّو الصف الأوّل – بأنّ تلك الوحدة المزعومة أصبحت كائناً خرافيّاً مستحيلاً نتيجة السياسات التي اتبعتها الإدارات الأمريكيّة المتعاقبة إثر 11 سبتمبر/أيلول ضد قطاعات محددة من السكان وخاصة المسلمين، والتي كرسّت انقساماً وفرقة وكراهيّات متبادلة لا يسهل التخلّص منها بالدعوات المغلفة بالتوظيف السياسي الفاقع لمصطلح الوحدة. وللحقيقة فإن روح تلك السياسات العنصريّة التقسيميّة التي تبنتها السلطات على ظهر 11 سبتمبر/أيلول ما زالت حتى اللحظة مصدر الإلهام لكل الإجراءات المتعلقة بالأقليّات والمهاجرين والمسافرين إلى الولايات المتحدة ومن الدول العربيّة والإسلاميّة بشكل خاص.
التغطية الإخباريّة حليفة لأمراء الظّلام
الجانب الذي غاب – أو غُيّب – عن التّدقيق والاستذكار في التقارير الإعلاميّة التلفزيونيّة حول 11 سبتمبر/أيلول كان دور مؤسسات الإعلام الجماهيري في الترويج الأعمى لاستجابات الإدارة الأمريكيّة في ما يتعلّق بالهجمات الغادرة على برجي التجارة ومواقع أخرى. إذ التقت وقتها وسائل الإعلام الليبراليّة والمحافظة المتعارضة تقليديّاً على دعم بناء إجماع ساحق لصالح غزو أفغانستان والعراق، في حين تم تجاهل الأصوات المناهضة للحرب باعتبارها «غير جادة» ولعب مراسلو الأخبار المتواطئين دوراً محوريّاً في الترويج لأسطورة أسلحة الدّمار الشامل دون أيّ تدقيق، ومن ثم نقل أخبار الحروب بوصفها انتصارات أمريكيّة مبهرة أعادت ثقة افتقدها الجمهور منذ حرب فيتنام. وقادت وسائل الإعلام ككلٍ التحريض على كراهية الإسلام والمسلمين في المجتمع الأمريكي، سواء بشكل مباشر أو من خلال التخلّي عن مهمّة إيصال أصوات المسلمين والاكتفاء بتصويرهم بصورة سلبيّة كل الوقت والمبالغة وتضخيم أخطاء فرديّة إلى مستوى المجموع. كانت هناك استثناءات بالطبع من بعض الصحافيين أو المراسلين هنا أوهناك لكنّها بقيت دائماً في مكان ذلك الاستثناء الذي يؤكّد القاعدة.
ومع الاحتفال بالذكرى العشرين لـ 11 سبتمبر/ايلول، لا يبدو بأن التغطيّة الإخباريّة تجاه السياسات الأمريكيّة الخارجيّة تغيّرت قيد أنملة، فهي ما زالت حليفة لأمراء الظلام في حروبهم العلنيّ منها والخفيّ، وتستمر في نقل الأحداث الجارية معزولة تماماً عن سياقها الثقافيّ ودون ربطها بمسبباتها أو عرضها على ميزان نقديّ، فيما لم تخرج محليّاً عن مربّعها في التغطيّة على التوجهات الرجعيّة والعنصريّة في التعامل مع الأقليّات – وبخاصّة العرب والمسلمين -.
لقد قدّم الإعلام الأمريكيّ خلال عقدين نموذجاً طوطميّاً يمكن لتلامذة الإعلام الجدد تجنّبه بشكل تام إن هم رغبوا في ممارسة عمل صحافيّ أو تلفزيونيّ جاد وبنّاء وغير منخرط في سلك خدمة المهووسين ومصاصي الموت في واشنطن.
الذكرى المهدورة
إن الذكرى السنوية والعشريّة لأزمة كبرى ربما تكون أفضل فرصة للتأمّل والتفكير النقدي بما حدث ومحاولة استخلاص العبر. وفي غياب العقل النقدي عن الإعلام بعد هجومات 11 سبتمبر/ايلول، فإن السلطة الرابعة انتهت إلى خادم مطيع للسلطة التنفيذيّة وفقدت كثيراً من الثقة بها بين الجمهور.
وهذا الأمر ليس سيئاً في الماضي فحسب، بل وتمتد ظلاله الطويلة على اليوم، مما يعرّض المجتمع والحياة المدنيّة ككل إلى مخاطر فادحة. فهذه الولايات المتحدة اليوم تخوض على أرضها معركة صعبة مع الوباء، الذي كان له أكبر تأثير كحدث عالمي منذ 11 أيلول/سبتمبر، وليس من الصعب أن نتصور كيف عجزت معظم وسائل الإعلام الأمريكيّة عن اكتساب ثقة جمهورها بما تطرحه حول كوفيد-19 أو تحميل السلطات مسؤوليتها حول السياسات الخرقاء التي اتبعتها في مواجهة الجائحة.
إن إعلام كوفيد 19 الفاشل هو ذاته إعلام «أسلحة الدّمار الشامل» و»سقوط بغداد» ولم يتغيّر فيه شيء يذكر.
يا لها من ذكرى عشرينيّة مهدورة، تلك إذن رغم آلاف المقالات وساعات الهواء التي لا تنتهي عن محاكمة عقلانيّة هادئة لإرث الهجومات.
إعلامية وكاتبة لبنانية – لندن
مقال يستحق ان يخط بماء الذهب ، المشكلة الوحيدة فيه انه موجه إلى شريحة تمثل شعوباً ، يمكن القول باطمئنان انها متفقة مع معظم ما جاء فيه ان لم يكن جميع ما ورد فيه !
بالتالي لا جديد تحت الشمس سوى فضيلة التذكير و الذكرى التي تنفع المؤمنين.
لذلك اتمنى بقوة ان يترجم هذا المقال الى اكثر من لغة “عالمية” و ينشر في اهم وسائل تمثل هذه اللغات من أجل أن تطلع عليه تلك الشرائح التي لاتزال غارقة و مهووسه و متأثرة بإعلام مصاصي الدماء و أمراء الظلام كما أسماهم المقال …عسى و لعل تتكشف امام معظمهم او بعضهم على الاقل حقيقة الامور كما هي واقعاً ،و تزال عن عيونهم و عقولهم تلك الغشاوات التي صنعها ذلك الاعلام و كهنته !
بالتأكيد مجتمعاتنا الكئيبة ستسير قدما باتجاه التقدم والحضارة عندما تتلاشى كل أشكال الغلو في المديح والإطراء التي ليست في محلها على الإطلاق ، هكذا أشكال ليست سوى أشكال من التزلف والتملق والنفاق – رحم الله الحجاج بن يوسف الثقفي حين قال قولته الشهيرة من هذا الخصوص
اين الغلو في المديح و النفاق و التزلف يا هداكم الله ؟!
انا لا اعرف كاتبة المقال شخصياً حتى ،مع احترامي البالغ لما تكتب و اختلف و اتفق معها في مقالاتها و فيما تكتب كما تدل تعليقات لي سابقة ، ثم ما الذي سأكسبه مثلاً في مديح او تزلف مفترض ،قد يصوره تصور مريض للبعض !
..
شخصنة التعليق نتيجة انزعاج من تعليق اخر مس وتر حساس لدى البعض ، امر يشير الى الحاجة إلى مراجعة طبيب نفسي ربما !
..
رحم الله أبا تمام القائل…انهم يقولون …ماذا يقولون …دعهم يقولون !
بعض التعقيبات تثير الشفقة بدل ان تنفع القراء !
لقد تجاهلت الكاتبة نقطة هامة وهي الارهاب واستهداف المدنيين الذي اصبح للاسف وسيلة مفضلة للكثير من الجماعات المسلمة مما ادى لتشويه الاسلام ولنتائج كارثية على الدول الاسلامية
أتذكر جيداً كيف ان BBC التي يفترض فيها الموضوعيه والحياد كما يقولون كانت ترصف الطريق لشن هذه الحروب اللاخلاقيه.
مثال: كانت في كل نشراتها الرئيسيه على الدوام تستضف مَن يروجون للحرب ولم تستضف مره واحده المعارضين للحرب.
كانت تنشر الخوف والرعب وقال مقدم برنامج “إن صدام حسين سوف يستخدم السلاح الكيمياوي لان ليس لديه ما يخسره فهو ذاهب”.