سؤال وردني مؤخرا عن علاقة الكاتب بنصوصه المنجزة، هل هي علاقة حميمة بمعنى أن الكاتب يصادق تلك النصوص، ويقضي معها بعض الوقت؟ أم علاقة سطحية غالبا تنتهي عن حد الإنجاز، حيث تشق النصوص طريقها نحو القراءة أو الإهمال، ويعود الكاتب إلى أفكاره بحثا عن فكرة جديدة؟
تقول القارئة التي طرحت هذا السؤال، وهي أيضا كاتبة في بداية الطريق، إن الأمر مهم، خاصة انها تعيش وسط شخصيات تكتبها الآن، ولا تعرف إلى متى سيظل هذا التواصل؟
حقيقة ليس كل الكتاب يحملون الجينات نفسها، ويملكون الطقوس الكتابية نفسها، وتعرفنا على كتاب تستفزهم أفكار صغيرة جدا، ويكتبون باستفزازها روائع، بينما آخرون لا يكتبون إلا لو غرقوا في بحر أفكار عظيم، ولموا تفاصيل كثيرة من هنا وهناك. أيضا أوقات الكتابة إن كانت يومية أو متقطعة؟ ليلية أو نهارية، وعدد الساعات إن كان قليلا أو كثيرا، والإضافات المصاحبة للكتابة من قهوة وشاي أو تدخين وهكذا، ودائما ثمة فضول ما من قراء تعجبهم رواية ما، فيسرعون إلى الكاتب سائلين عن كيفية كتابتها وزمن الكتابة وما استخدم من طقوس لإنجاز النص.
العلاقة بين الكاتب ونصوصه بناء على ذلك، تدخل في مسألة الطقوس، وتصبح جزءا من نسيجها، هي تختلف من شخص الى آخر، فبينما نجد من يلتصق بالفعل بنصوصه المنشورة يتلذذ بمصاحبة شخصياتها ومحاورتهم وربما استخلاص أفكار جديدة ينجز بها أجزاء أخرى، نجد من يركل تلك النصوص، يبعدها تماما عن ذهنه ويسعى لحوار مع شخصيات جديدة يبتكرها، ويحاول أن يصنع بها نصا.
هذا في ما يختص بالنصوص المنشورة، لكن في المقابل توجد نصوص منجزة لم تنشر لسبب أو لآخر، ولعل إحساس الكاتب تجاهها لم يكن جيدا أو هي نفسها لم تكن شغوفة لتمنح الكاتب طعما، أو لونا يحسه جديرا بالاحتفاء، فتركها هكذا مبهمة، ونسمع كثيرا عن أدباء ماتوا وفي خزائنهم أو حواسيبهم نصوص تركوها مغطاة، على أمل أن تظل كذلك، لكن غالبا يسعى الورثة لنشرها، دون احترام لرغبة كاتبها الراحل، وقد أشرت مرات عدة إلى فداحة هذا السلوك، وأنها قد تخل باحترام القراء لكاتب رحل شامخا وترك ما يظنه أقل من مستوى كتابته، ولا بأس بالطبع أن يتم نشر الأعمال التي يرسلها الكاتب لدور النشر بنفسه، ويموت قبل أن يبت الناشرون في أمرها، هذه تدخل من ضمن الأعمال التي رضي عنها كاتبها.
ليس كل الكتاب يحملون الجينات نفسها، ويملكون الطقوس الكتابية نفسها، وتعرفنا على كتاب تستفزهم أفكار صغيرة جدا، ويكتبون باستفزازها روائع، بينما آخرون لا يكتبون إلا لو غرقوا في بحر أفكار عظيم، ولموا تفاصيل كثيرة من هنا وهناك.
هذه النصوص التي تركت عمدا، كما قلت هي نصوص مهملة ومن المحتمل أن يعود اليها الكاتب من حين لآخر، محاولا إيقاظ بعض الشغف تجاهها، وهذا قد يحدث لكن في الغالب لا يحدث أبدا. ولدي روايتان من هذا الصنف، تركت الأولى لأن لغتها بدت أكثر تعقيدا من اللغة التي تعودتها في كتابتي، والشخصيات كانت تقاوم محاولات جعلها شخصيات رزينة، قد يحبها القراء مثل شخصية صاحب مطعم لم يتنازل عن غروره حتى وهو يحتضر، وولد من الريف، فرّ إلى العاصمة بلا أي خبرة، ولم يتطور فنيا في النص.، والثانية كتبتها في بداياتي أيام كنت أكتب بلغة الشعر وأوشكت على نشرها مرات كثيرة، لكنني خفت من عدم التفاعل معها من قراء أعرفهم ويعرفوني، إضافة الى الحوادث أو الحكايات المتعددة في النص شديدة التعقيد بالنسبة لقصة تحكي عن الانقلابات العسكرية، وكيف تضيع الشعوب بوهم تصديق ما يسمى بالوطنية والمبادئ..
هذان النصان وغيرهما من المقاطع التي كتبتها عبر سنوات طويلة، ولم أكملها، أعتبر علاقتي بها الآن سطحية للغاية، ومنذ سنوات لم أقترب منها، أو أفكر بشأنها
بالنسبة للأعمال المنشورة،، أعتقد أنني قوي العلاقة ببعضها، تلك التي أحس بقوة أنها لم تنته، وأن في أحشائها تتمات، أنا لن أكتبها لكن أتخيلها فقط أثناء الاسترخاء، غالبا أعدل شيئا أو أضيف أو أحذف، لكن فقط في الخيال، ولم أقم بالتدخل الفعلي، وإعادة الكتابة، إلا في نصين فقط هما «اشتهاء» التي تتحدث عن امرأة ريفية، محبة للرجال، و»منتجع الساحرات» قصة اللاجئة الإريترية أببا تسفاي، واللص عبد القيوم دليل، والاثنان من نصوصي المفضلة التي أْعرف أبطالها في الواقع، وتعاملت معهم وشهدت كبواتهم أيضا. وربما يفسر هذا اهتمامي بهما وإعادة قراءتهما مرارا واستخلاص أفكار جديدة بشأنهما. ولأن الفكرة، أي فكرة إعادة كتابة نصوص مكتوبة أصلا تبدو غبية عند البعض، فقد لامني كثيرون على ذلك، لكن لم أهتم كثيرا ولو طرأ على بالي أن أعيد الكرة مرة أخرى سأعيدها.
سؤال يكمل السؤال الأول، وهو من قارئ أيضا:
هل توجد لدى الروائي شخصيات معينة هو اخترعها، يتمنى أن يكتبها دائما؟
نعم بالتأكيد والشخصيات تتراوح بين متقنة التفاصيل، إلى تلك المكتوبة بسرعة ولديّ شخصيات عدة، تمنيت أن أعود إليها، مثل شخصية الرزينة في «مهر الصياح» وعلي جرجار في «العطر الفرنسي» وحورية الحضرمية في «اشتهاء» وكنت دائما معجبا بشخصية أورسولا في «مئة عام من العزلة» لماركيز، وتمنيت لو امتد إشعاعها في روايات أخرى للكاتب.
ومنذ أيام التقيت مصادفة بطبيبة بيطرية من كولومبيا، كانت تعشق الأدب والفنون، وتقرأ بالإسبانية والإنكليزية، تحدثنا عن الإبداع وتذكرنا كثيرا من المبدعين، وكان لا بد من ذكر ماركيز بوصفه من شخصيات كولومبيا المشعة، قلت لها ما أقرب شخصية إليك من شخصياته، ردت: أورسولا.
روائي سوداني