لعل أكثر التناقضات بروزاً في التفكير العربي والإسلامي عموماً أنه يعيش في أغلب الأحيان في الماضي، ويستلهم معظم أفكاره وتوجهاته من الماضي، فلا قيمة عنده للحاضر ولا للمستقبل، لأن الماضي بالنسبة له كان مثالياً، وإذا أردنا أن نتقدم، حسب المفهوم العربي، فعلاً فلا بد من العودة إلى الماضي وإعادة إحيائه. لكن المضحك في الآن ذاته، أن نفس العقل العربي والإسلامي الماضوي سرعان ما ينسى الماضي ويتعلق بأهداب المستقبل عندما يتعرض لنكسات وهزائم كبرى، فيبدأ بالحديث عن الأجيال القادمة التي برأيه لن تنسى ما فعله بنا الأعداء، وستأخذ لنا بثأرنا منهم في قادم السنين. ويعود العقل العربي هنا فوراً إلى كلمات الثائر الليبي الشهير (أسد الصحراء) عمر المختار الذي قال وهو يواجه حبل المشنقة: «إن موتي ليس النهاية؛ سيكون عليكم مواجهة الجيل القادم والأجيال التي تليه، أما أنا فإن عمري سيكون أطول من عمر شانقي». طبعاً لا يمكن أن نختلف مع المختار عندما قال إن عمره سيكون أطول من عمر شانقه، لكن بالتأكيد سنختلف معه في تفاؤله المفرط بالأجيال القادمة، فما هي نوعية الأجيال التي أتت من بعده، ولماذا ما زال كثيرون من العرب والمسلمين يأملون بها خيراً بعد كل هزيمة وكارثة؟
اليوم مثلاً نسمع كثيرين وهم يهربون من ألم الخراب والدمار الذي ألحقته بهم إسرائيل هنا وهناك إلى التعويل على الجيل القادم الذي لن ينسى ما فعله الصهاينة بأهله وأجداده. لا شك أننا نأمل ألا تنسى الأجيال القادمة تاريخ الجرائم بحق شعوبها وأوطانها، لكن التجارب التاريخية لبعض الشعوب تجعلنا نقتصد كثيراً في التفاؤل إذا ما علمنا أن العدو ينجح في كثير من الأحيان في مشاريعه الشيطانية، لا بل يقضي على شعوب بأكملها، بحيث لا يبقى هناك من يتذكرها أو ينتقم لها. ومن أكثر المغالطات التي نسمعها هذه الأيام أن شعوبنا ولّادة، وأنها لن تنقرض مهما تعرضت لعمليات إبادة وتهجير وتشريد، وهذا أمل جميل لا شك، لكن قد لا يكون حقيقياً دائماً.
إذا أردتم من الأجيال القادمة أن تنتقم لكم من الأعداء في قادم الأيام، فانصحوها أن تنتقم على الطريقة اليابانية والألمانية والهندية والصينية
هل تعلمون أن المستوطنين الغربيين أبادوا في أمريكا الشمالية أكثر من مئة وثمانية ملايين هندي أحمر، وبنوا على أنقاض وطنهم ونسلهم بلداً كبيراً يحكم العالم اليوم ألا وهو الولايات المتحدة الأمريكية. من بقي اليوم من العرق الهندي الأحمر الذي استخدم ضده الغربيون أبشع وسائل القتل والإبادة؟ لم يبق منه سوى جماعات صغيرة لا حول ولا قوة لها، وهي مغلوبة على أمرها، وحسبها اليوم أن تعيش مسالمة تحت نير الذين ذبحوا أجدادها وطردوها من أرضها، تماماً كسكان أستراليا الأصليين الذين قضى عليهم المستوطنون الغربيون. ومن المؤلم جداً أن نرى بعض العرب اليوم يستنجدون بالأمريكي الذي أباد أكثر من مئة مليون هندي أحمر بأن يضع حداً للإبادة الإسرائيلية بحق الفلسطينيين في غزة وغيرها. «نرجو الخلاص بغاشم من غاشم، لا ينقذ النخاس من نخاس» كما يقول إيليا أبو ماضي. أرجو ألا يعتبر البعض هذا التذكير بالهنود الحمر على أنه نوع من التحبيط وتهبيط العزائم والمعنويات، لا أبداً، بل هو تحذير من ألا يقع البعض في وهم الأجيال القادمة، التي حتى وإن كانت قادمة، فقد لا تفعل ما يعلقه عليها البعض من آمال ثأراً لدماء أهلها الذين أبادهم هذا العدو أو ذاك.
يجب ألا ننسى أيضاً أن التاريخ لا يقوم دائماً على الانتقام والثأر، وأن ما يسمى بالأجيال القادمة قد تكون مختلفة تماماً عن أسلافها طبقاً للزمن الذي تولد وتترعرع فيه. ولا ننسى ما فعله نظام التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا (الأبارتايد) بالسود لعقود وعقود، ولا ننسى ما فعله الاستعمار بالعديد من الشعوب كالبريطاني بالهند والفرنسي بالجزائر وغيرهما الكثير. هل انتقم السود في جنوب أفريقيا أم تصالحوا؟ هل انتقم الهنود من البريطانيين بالطريقة التي يحلم بها بعض العرب اليوم، أم أنهم فعلوا العكس تماماً؟ هل تريد بعض الشعوب العربية أن تنتقم من القوى الاستعمارية القديمة كالفرنسيين مثلاً، أم أنها تحلم بعودتهم أو العيش في بلادهم؟ وقد شاهدنا كيف تجمهر الآلاف ذات يوم عندما زارهم الرئيس الفرنسي في بلدهم ليناشدوه بأن يسمح لهم بالسفر إلى فرنسا للعيش في بلاد المستعمر القديم هرباً من أوطانهم. ولو سألت العديد من الشعوب العربية التي كانت مستعمرة في يوم من الأيام لربما صدمتك وهي تشتم الذين حرروها من الاستعمار، وتلعن الساعة التي خرج فيها المستعمر من بلادها رغم كل ما فعله بها وبأوطانها من ويلات وكوارث، لأن الأنظمة الوطنية المزعومة التي تركها المستعمر وراءه أثبتت بأنها أسوأ من المستعمر بعشرات المرات.
إذا أردتم من الأجيال القادمة أن تنتقم لكم من الأعداء في قادم الأيام، فانصحوها أن تنتقم على الطريقة اليابانية والألمانية والهندية والصينية، فاليابانيون مثلاً لم ينتقموا من الأمريكيين بضربهم بالقنابل النووية كما فعل الأمريكيون بهيروشيما وناغازاكي اليابانيتين، بل استفادوا من الأمريكيين كثيراً، فأخذوا منهم التكنولوجيا والقوانين الزراعية والصناعية ليصبحوا من أعظم شعوب العالم وأرقاها. وكذلك فعل الصينيون الذين أجبرتهم بريطانيا ذات يوم على تعاطي الأفيون، فاستعادوا منها هونكونغ بهدوء بفضل قوتهم الاقتصادية والعلمية والمالية والتكنولوجية، لا بل أصبحوا اليوم يسخرون من البريطانيين الذين صاروا أقل شأناً من الصينيين بكثير. ولا ننسى أيضاً أن الشركات الهندية استحوذت على كثير من الشركات البريطانية. وحدث ولا حرج عن ألمانيا التي تعرضت فيها أكثر من مليوني امرأة ألمانية للاغتصاب أثناء الحرب العالمية الثانية، ناهيك عن الدمار الذي أوقعه بها الحلفاء، لكنها نهضت من تحت الرماد لتضع أوروبا كلها تحت جناحيها بالعلم والتكنولوجيا والصناعة وليس بالانتقام. حتى إسرائيل نفسها انتقمت من الغرب الذي اضطهد اليهود، بذكائها وسيطرتها على أهم وسائل النفوذ والتأثير في الغرب.
صدق الإنكليز عندما قالوا: الانتقام أكلة تؤكل باردة.
كاتب واعلامي سوري
[email protected]