منذ (جمهورية) أفلاطون و(بوطيقيا) أرسطو والمدونات النقدية والفلسفية تَتناول المحاكاة كنظرية تفسر الأدب تحديدا، والإبداع الفني عموما، بوصفه انعكاسا للطبيعة، وتقليدا أو تمثيلا للواقع، واستنساخا وإعادة إنتاج للحياة. وقد اتسع نطاق المحاكاة الأرسطية في العصر الحديث، حتى صارت واحدة من أهم النظريات الأدبية. وعلى الرغم مما طرأ على النظرية السردية من تطور على يد الشكلانيين الروس والبنيويين، وما بعد البنيويين؛ فإن نظرية المحاكاة ظلت راسخة بأساسات قوية، ليس سهلا خلخلة بعض ثوابتها.
ومن أهم تلك الثوابت الرؤية الواقعية للحياة، التي آمن بها الكتّاب، وانعكست على ما يكتبون من فنون الأدب وأجناسه. وقد حذر جورج لوكاش من سلبية المذهب الطبيعي على الرؤية الواقعية للحياة، كونه يخلخل ـ حسب رأيه ـ هيمنة الوعي الاشتراكي على عقول الكتّاب، فتتعدد من ثم أشكال الواقعية. وذهب ر. م. البيريس إلى أن الرواية عرفت النهج الواقعي منذ عام 1890 مهتمة بالواقع مستخرجة منه مادة أو لوحة، وأن هذا النهج استمر حتى مع التحليل السايكولوجي للوعي الباطني.
وعلى الرغم من ظهور الرواية الجديدة ما بعد الواقعية؛ فإن التقاليد الروائية ظلت تدور في إطار محاكاتي، وفيه سيطرت الحكاية الساخرة ووظف العجيب والوهمي والخيال العلمي المحض، كما تصدع السرد كأزمنة وضمائر وشخصيات. وهو ما فسره البيريس بأنه استعادة للأدب الوهمي الذي فيه لا يفصل بين ما هو قابل للتصديق وما هو قابل للتصديق بشكل استثنائي، مما ساد في القرن الثامن عشر وكانت فيه البطولة للجنيات والخرافات والأطفال والشياطين «تاريخ الرواية الحديثة».
وعملت نظرية هايدن وايت حول تسريد التاريخ على تمييع بعض ثوابت المحاكاة الأرسطية لا بقصد تفنيدها وإنما تطويعها لتخدم توجهات وايت في التعامل مع التاريخ بوصفه سرداً. وهو ما تلقفه بواز شوشان مفيدا منه في دراسة تاريخ الطبري، مفككا إياه تفكيكا شعريا بطرفين يؤثران في إنتاج التاريخ هما: المحاكاة واللامحاكاة، مدللا على وجود مكونات خيالية وحتى مختلقة في التاريخ الإسلامي «شعرية التاريخ الإسلامي»، وأن الخبر التاريخي هو إما حقيقة واقعة، أو هو فرضية تحتمل التشكيك، لكنها تحقق الإقناع بالوسائل الآتية: الوصف المفصل للأشياء وللأمكنة وللوجوه وللإيماءات، مع ذكر التفاصيل الصغيرة جدا، بوجود شاهد العيان. وما تفعله هذه الوسائل هو أنها تعزز فعل المحاكاة، وتجعل المعرفة بالتاريخ تبدو كأنها تامة براوٍ كلي العلم، يمازج الواقع بالخيال، صانعا واقعا متخيلا، فيه مرونة في التسلسل الزماني والاقتباس للأخبار التاريخية، متصرفا فيه بمنطقية ومعقولية مقبولتين.
واليوم تواجه نظرية المحاكاة خلخلة من نوع جديد، على يد براين ريتشاردسون، وهو أحد نقاد المدرسة الأمريكية، ومن الداعين إلى علم السرد ما بعد الكلاسيكي مجترحا ما سماه ( السرد المضاد antimimetic narrative ) في دراسته الموسومة «نظرية السرد المضادة واللاطبيعية، وما بعد الحداثة» والمنشورة ضمن الكتاب المشترك (Theory and interpretation of narrative: Narrative Theory Core Concepts and Critical Debates ) وهدف ريتشاردسون من السرد المضاد، ردم فجوة في مناحي النظرية السردية، محاولا مناقضة الفرضية الأرسطية حول المحاكاة، إذ ما عاد مهما القول إن الأدب مرآة للطبيعة؛ بل الأهم هو عدم إهمال الأعمال الأدبية المضادة للطبيعة وغير المعقولة.
وعلى الرغم من ظهور الرواية الجديدة ما بعد الواقعية؛ فإن التقاليد الروائية ظلت تدور في إطار محاكاتي، وفيه سيطرت الحكاية الساخرة ووظف العجيب والوهمي والخيال العلمي المحض، كما تصدع السرد كأزمنة وضمائر وشخصيات.
وقد ميز ريتشاردسون بين التمثيل الخيالي والانعكاس الواقعي، معتمدا رؤية جديدة فيها تلعب النماذج المضادة للواقعية دورا مضخما في التمثيل السردي للأحداث، التي هي غير قابلة للتصديق في العالم الحقيقي. وبحسب ريتشاردسون فإن هناك أسبابا كثيرة تدلل على الحاجة الماسة إلى إدراج (السرد غير المعقول antimimetic narrative ) ضمن النظرية السردية، ومن تلك الأسباب:
ـ إن العالم الحقيقي ليس الذي فيه نجد البشر؛ وإنما الذي فيه الخيال يعرض الحيوانات والجثث والآلات بقصد توسيع، أو إعادة تشكيل سرديات تتحايل وفق تسلسلات زمنية مستحيلة في العالم الحقيقي وبتكوينات مكانية متناقضة.
بإمكان الشخصيات الخيالية تجسيد الأفكار وقد تكون أكثر حميمية من الشخصيات الواقعية، والحياة يوجد فيها أكثر من موت واحد، كأن تتوسل الشخصية بمؤلفها من أجل إنقاذ حياتها، أو أن يعود الموتى إلى الحياة، أو يمكن أن يموت شخص عدة مرات في الخيال، وأن يكون حيا بأعجوبة مرة أخرى، أو أن يقوم المؤلف بقتل أي شخصية حتى الشخصية التاريخية، وفي أي وقت معيدا تشكيل الأحداث التاريخية، على نحو متعمد في إطار عمل خيالي ليس مجرد لعبة. وهو ما وجده براين ريتشاردسون مجسدا في رواية («أطفال منتصف الليل» لسلمان رشدي من خلال الراوي سليم سيناي ـ وهو أحد أطفال منتصف الليل ـ الذي اكتشف أنه ارتكب خطأً كبيرا: «بعد أن راجعت عملي اكتشفت خطأً في التسلسل الزمني للأحداث. إن اغتيال المهاتما غاندي يحدث في هذه الصفحات في التاريخ الخطأ» وبدلا من أن يصحح (سليم) النص فإنه أشار إلى أن في الهند سيستمر غاندي في الموت، في الوقت الخطأ كترميز للتزوير في الحقائق التاريخية التي لم تكن صادقة ولا ممكنة.
ـ لكل سرد في الواقع جانبان، أحدهما مستنسخ يتعلق بما يمثله، والآخر وقائعي يتعلق بكيفية تمثيله. وإذا كان السرد الواقعي يمثل جزءا من العالم الذي نعيش فيه بطريقة أو بأخرى؛ فإن هذه الطريقة في التمثيل قد تكون تقليدية أو غير تقليدية.
ـ ليس في عدم التقيد بإطار المحاكاة خيانة للقراء، وقد ضرب ريتشاردسون مثلا على ذلك بهنري جيمس، الذي اعترض على ممارسة غير طبيعية تتمثل في اعتراف أنتوني ترولوب لقرائه، بأن الأحداث في الرواية لم تحدث حقاً، مقترحا عليهم إعطاء القصة أي منعطف يختارونه؛ وقد عد جيمس بأن في هذا الاعتراف «جريمة خطيرة» ارتكبها الروائي. بينما يرى ريتشاردسون أن لكاتب العمل الخيالي أن يعطي الأحداث أي دور يفضله كأن يضاد الواقعي بالوهمي أو يناهض الخيال بالخيال.
وقد أوصلت هذه الأسباب وغيرها براين ريتشاردسون إلى ما سماه (علم السرد اللاطبيعي) الذي يتعامل مع السرد غير المنطقي كاستراتيجية مضادة للنصوص الواقعية، التي ظلت لفترة طويلة تُرفَض أو تُهمَل أو تهمش، أو تستثني الشخصيات الوهمية. وما يرفضه ريتشاردسون هو عقلنة السرد التي تريد الابتعاد بالسرد عن التشكيك والايهام والاستحالة، مبينا أن سرد القصص الخيالية والخرافية وما فيها من حيوانات أو جنيات ينبغي أن يتحرر من الهزل، وأن ينافس أو يتحدى المحاكاة في الطرق التي بها يمثل الخيالي والواقعي.
وقد وجد ريتشاردسون في ألان روب غرييه مثالا للسرد المضاد، كونه رفض إعادة إنتاج واقع قائم من قبل، واختار صنع واقع ليس له وجود قط، ونقل ريتشاردسون عنه قوله: «أنا لا أنسخ، بل أبني». واجدا في هذا القول تحقيقا لطموح فلوبير، الذي كان يريد أن نخرج بشيء ما من اللاشيء، أو شيء قد يقف بمفرده من دون الاضطرار إلى الاعتماد على أي شيء خارج نطاق العمل. وغرييه وأمثاله من الكتّاب الذين لا يرغبون في إعادة إنتاج العالم من تجربتنا؛ إنما يريدون إنشاء مشاهد وأرقام ومسارات تقدمية وعوالم أصلية أو غير مسبوقة (والواقع أن أعمالهم تشكل جزءاً من تقليد بديل، لم يتم حتى الآن حسابها على النحو اللائق من خلال نظرية السرد). وقد توهم بعضهم أن ما يهدف اليه ريتشاردسون من وراء السرد المضاد هو الصوت السردي، وسبب الوهم ناجم من استبعادهم الثلاثية التي وضعها جينيت للخطاب، وهي الصوت والرؤية والصيغة. ولأن ريتشاردسون اهتم بفكرة من يتحدث كإنسان بأصوات غير متسقة، أو غير إنسانية مشوشة، أو متناقضة إلى حد يبعث على اليأس ضمن عالم لا يمكن التعرف عليه. وما سعى إليه ريتشاردسون بنظرية السرد المضادة، هو بناء إطار مفاهيمي للعمل يرفض اتباع الاصطلاحات المعتادة في (السرد الطبيعي) ويطعن بالأشكال المقلدة والمستنسخة للواقع بتمثيلات تشتمل على متحدث إنسان ومجموعة من الأحداث المرتبطة بدرجة معينة من المعقولية عبر قصة واضحة يمكن التعرف عليها.
وإذا كان النهج البنيوي يتجنب مسائل التمثيل، وليس له ولاء خاص لتقليد نماذج المحاكاة، فإنه يظل ـ في نظر ريتشاردسون ـ خاضعا لمفهوم المحاكاة من باب أن الرواية تظل موصوفة بأنها «نظام»، أو طريقة بها يتم ترتيب القصة في حبكة. وهذا المفهوم مناسب تماماً لجميع الأعمال غير الخيالية ولمعظم الأعمال الخيالية فقد يأتي أحد الأحداث في وقت سابق أو في وقت لاحق في القصة؛ ويتم تعميمه مسبقاً في النص أو في وقت لاحق. ومن ثم يمكن أن نقول إن الحرب العالمية سبقت الحرب العالمية الثانية، أو أن نقول إن الحرب العالمية الثانية سبقتها الحرب العالمية الأولى. وما يفترضه (علم السرد اللاطبيعي) هو السرد المضاد الذي فيه ما هو خيالي لا يعكس ما هو غير خيالي، مع الحاجة إلى إعادة صياغة مفهوم الطبيعة في تمثيل التسلسل الزمني غير الطبيعي والمستحيل، الذي لا يوجد إلا في الخيال، مما كان شــائعاً في العصور الوسطى وعصر النهضة. إن ما يطرحه ريتشاردسون يظل مثيرا، لا لأنه يفتح الباب نحو إعادة النظر لشريحة واسعة من تاريخ الأدب، وفئات من النماذج الأدبية المغمورة والمطمورة وغير المهمة؛ بل أيضا في ما تتيحه السرديات اللاطبيعية من مصادر إلهام للكتّاب فيها يجدون وسائل جديدة في التفنن بالإبهار والإيهام.
٭ كاتبة عراقية
اتابع كتابات الدكتورة العراقية
السرد العراقي محظوظ بمثل هذه الاقلام هل لدى الكاتبة مايل او صفحة الكترونية ؟