على تخوم الشّعر !

حجم الخط
0

ربما كان بول فاليري الاكثر شغفا بما سمّاه الشعر الصافي، وانقطع عشرين عاما عن كتابة الشعر كي يتوصل الى تنقية الشعر مما يتصور انه من الشوائب، وبذلك كان اشبه بمن يسخّن الرمل كما يقول جاك برتلمي بحيث يفقد رمليته ويتحول الى زجاج شفيف، والحقيقة ان الصفاء المطلق هو درجة قصوى يقاس عليها كالعافية مثلا، وان شئنا استعارة مثال من الفيزياء فإن مقياس ريختر للزلازل في درجته القصوى او ما بعدها لا يجد من يشهد على الدمار الذي يحدثه الزلزال لأنه يذهب حتى بريختر ومقياسه .
ان السّعي نحو المطلق هو بالضرورة توغل في التجريد، وكل تجريد هو انقطاع عن المحسوس والقابل للمسّ والمعاينة، ولأن الشعر قماشته الكلام كما يقول احد نقّاده فهو الأكثر عرضة للالتباس بين الفنون، لهذا نجت فنون اخرى كالموسيقى والرسم من هذا الالتباس، لأن لغتها وبالتالي ادوات التعبير فيها ليست اللغة التي نستخدمها جميعا لتلبية ضرورات التواصل، او حتى المونولوج الذي هو في نهاية المطاف لغة ايضا، ورغم ان سيموندس قال في وقت مبكر من طفولة الانسانية ان الرسم شعر صامت كما ان الشعر رسم ناطق الا ان هذه المزاوجة الدامجة للفنون تبقى مجازية، وحين طلب من عازف ان يشرح معزوفته بكلمات او يشرحها لم يجد امامه الا ان يعيد عزفها وذلك دفاعا عن اداته التعبيرية وامتيازه الفائق والمتجاوز للغة.
ان الحديث عن الشعر الصافي لا يشبهه في حياتنا الانسانية الا الحديث عن حبّ كامل او كراهية مطلقة، وهذا ما ليس ممكنا في التكوين السايكولوجي البشري، فما من حبّ غير مشوب بعواطف اخرى، لهذا كان تعبير جين اوستن الشهير عن المزيج من الحب والكراهية.
توصيفا دقيقا لتداخل الايثار مع الإثرة، فقد يكتشف العاشق انه نرجس لكن بصورة اخرى وفي عيني انسان آخر وليس على صفحة الماء . وقد يكتشف ايضا كما في الحب العذري انه يحب الحبّ ذاته، فيحول الحرمان الى مطلب، ويصطنع العقبات التي تحول دون الوصال، وهذا ما يقوله على نحو صريح ومباشر قيس بن الملوح الذي يموت الهوى في قلبه عند اللقاء، ويعود ليحيا في الفراق، وهناك دراسة قيّمة للحب العذري كمثال لهذا الالتباس العاطفي لدنيس دورجمون الفرنسي واخرى للطاهر لبيب، فالدراستان على اختلاف المقتربات والمناهج تضعان حدا للمفهوم التقليدي والموروث عن الحب العذري باعتباره من تجليات الطهرانية المحررة من الغرائز.
والشعر الصافي المحرر من شوائب اللاشعر افتراضي، بل هو مثال افلاطوني سماوي ما ان يترجل ليلامس الأرض او يدنو من جاذبية الواقع حتى يفقد بياضه البكر كما يحدث لندف الثلج.
انه شعر مُتَخيّل، كرقم فلكي تقاس عليه ارقام قابلة للتداول، لكن اهميته مفهومة تكمن في انه يجعل من كل شعر ناقصا، ومحذوف منه قوس ولو كان صغيرا، كي تبقى القصائد اشبه بموجات تتعاقب لكنها ما ان تدنو من الوصول الى اليابسة حتى تعود، واليابسة في هذا المثال ليست النثر كما قد يتبادر الى الذهن المحكوم بالثنائيات المتقابلة والمحرومة من الجدلية، لأن النثر اساسا ليس هو نقيض الشعر، كما انه ليس من اقاربه الفقراء كما يقول ميشيل بوتور نقيض الشعر هو شعر آخر يدعيه ويحاول التماهي معه او حتى انتحاله حدّ التقمّص وهو بالتحديد النظم، الذي يذكر بغياب الشعر بدلا من ان يَستدعيه.
* * * * * * *
كان من السهل على النقد الاتباعي والمدرسي ان يرسم تخوما للشعر ما دامت الاقانيم قائمة، وهي الوزن والقافية وقد اضيف اليهما أقنوم ثالث هو نيّة النظم، وكأن هذه النيّة التخوم الفعلية التي تعزل تضاريس اليابسة عن المحيط !
في احدى قصائد الهايكو التي تسعى الى تقطير غابة من الكلمات في صورة واحدة قابلة لتأويلات لا نهائية ومتعددة بتعدد قرائها، تصوير لمزهرية باذخة ومزخرفة لكن ما ان تقع عليها العين حتى ترى ما هو غائب عنها، وهو الزهور التي ذبلت وتم تهجيرها منها، ونقاد الشعر على ما يبدو منهم من تخطف بصره وبصيرته معا الرسوم على جدران الاناء ومنهم من يصرف غياب الزهور انتباهه عن ذلك .
وقد يكون من أسوأ ما افرزه النقد الاتباعي التي يتغذى على النصوص ويفقرها ويستدين منها حتى لغته بدلا من اغنائها بالاضاءة والكشف والتأويل هو تصنيف الشعر الى جيّد ورديء وتصنيف الشعراء الى كبار وصغار ومتوسطي الحجم وكأنهم معاطف او قمصان او حتى ملابس داخلية متفاوتة الحجوم.
اتاح هذا التّعويم للشعرية المجال لادراج ادعياء الشعر في ضواحي القصيدة النائية، وهو بالضبط ما عبّر عنه بوتور بقوله اقارب الشعر الفقراء.
وحين نقرأ عناوين لكتب من طراز اجمل ما قاله العرب في الحب او الرثاء او الفخر، نشعر على الفور بأننا ازاء خديعة مزدوجة، فمن ناحية تم توظيف غرض شعري لما يتخطاه من التقييم والاستقراء الجمالي، ومن ناحية اخرى يفرض فرد واحد ذائقته ومنسوب وعيه على شرائح واسعة من المجتمع، وكأنه ينوب عنهم في الرؤية واللمس وحتى استخدام حاسة الشم لأنه لا يدرك ان ما يقوله العلم وهو ان الأنف المثقف والمعافى يستطيع التمييز بين تريليون رائحة، ولا يدرك ايضا بأنه قد يكون مزكوما بانفلونزا لا تخص الحيوان والطير بقدر ما تخص العقل وهي انفلونزا الامتثال والنسخ واليقين.
ان الابداع بمجمله لا يقبل الكسور العشرية بحيث تكون هناك ربع قصيدة او ثلث رواية او خُمس لوحة، فالعمل الابداعي الجدير بهذا الوصف يحمل في كل عينة منه خصائصه كلها كالدم، فمن يحتاج الى فحص دمه لا ينزفه كله في المختبر، بل يكتفي منه بعينة واحدة، ذلك لأن التفاوت داخل معمار النصّ يكون كميّا وليس كيفيا، فهو مصطبغ باللون ذاته لكن بدرجات مختلفة، وهذا ما عبّر عنه سارتر حين كتب عن رباعية الاسكندرية لداريل، قال ان اي سطر منها يحمل رائحتها تماما كما يحمل حزّ واحد من الليمونة رائحتها وحموضتها وليمونيّتها!
* * * * * *
عرفت ثقافتنا نوعا من التمييز بين الأصول والاشباه، كما فرّقت بين الفجر الحقيقي والفجر الكاذب وبين الحمل الحقيقي الموعود وبين بمخاض وولادة وبين الحمل الكاذب وبين الماء والسراب، ولم يكن ذلك خارج مدار العلم، لأن العلم يثبت الان بأن العين الكليلة تتورط برؤية تضاريس كاذبة، وهذا ايضا ما عبّر عنه ازوالد شبنجلر في كتابه تدهور الغرب، فالجيولوجيا تتمظهر ايضا بتضاريس ومشاهد ليست حقيقية.
لكن المفارقة ان العرب قالوا ان أعذب الشعر أكذبه، وهذه عبارة عندما توضع تحت المجهر تتضح لها دلالات وتداعيات غير تلك التي اقترنت بها شغفا بالخيال، ذلك لأن اكذب الشعر بمقياس آخر هو اصدقه، لأن هناك ايضا كذبا كاذب كالحمل الكاذب وهناك كتابات يظن من يكتبونها انهم يقتربون من تخوم الشعر، لأنهم ينسجون على غرار نموذج في الذاكرة ليجدوا انفسهم اخيرا في المنفى اذا صحّ ان للشعر ملكوتا وأن المزهرية الفارغة تذكّرنا بغياب الزهور !!

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية