في أثر المجهول
آرثور رامبو Arthur Rimbaud (1854- 1891) أحد وجوه الحداثة الشعرية البارزين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. شكّل مشروعه الشعري الذي تَميّز بكثافته وحساسيته الأسلوبية المذهلة، مصدر إلهام لا ينفد بالنسبة إلى الاتجاهات الشعرية، التي سادت خلال القرن العشرين؛ الرمزية، والتعبيرية، والدادائية، والسريالية، وما بعد الحداثية. كتب الشعر في سنّ باكرة، واستوعب أساليب معاصريه المؤثرين (فيكتور هوغو، ثيودور دي بانفيل، شارل بودلير) وابتكر جذريّاً أسلوبه الخاص الذي انتقل به من جهة البيت الشعري الحر نحو قصيدة النثر ذات الإيقاع اللامتساوق. ففي سنّ الخامسة عشرة كتب بعض نصوصه الكبرى؛ مثل «المركب الثمل» ذي المئتي بيت، حيث دفع مُخيّلته إلى أقصاها، بل في غضون ستة أعوام، كتب ديوانيه الشعريين «فصل في الجحيم» و»إشراقات» (1873- 1874) مأخوذاً بنداء ربّة شعره المجهولة في سعي حثيث «لتغيير الحياة» و»امتلاك الحقيقة في الروح والجسد» أو «يجب أن يكون المرء حديثاً على الإطلاق» ومؤكداً أن على الشاعر أن يكون «رائيّاً» حتى يكون في إمكانه أن يبحث ويصف المجهول خارج ما استقرّ من التصورات الإنسانية.
وإلى جانب أستاذه في الشعر والبلاغة جورج إيزامبارد الذي حفزه وفتح له مكتبته الشخصية، كان للشاعر وقطب البرناسية الفرنسية بول فرلين فضل كبير في اكتشافه، إذ استضافه في منزله في باريس وصادقه وقدّمه للوسط الأدبي الباريسي، قبل واقعة الخصومة وإطلاق النار الشهير. يقول فرلين: «كان شحيحاً في الحديث عن أبياته الشعرية السابقة، لأُقلْ بأنه كان يزدريها مُحدّثاً إياي عما يريد صنعه في المستقبل، وما كان يُدلي به لي لم يكن ليخلو من نبرة رسولية» بل لولا فرلين لما انتهى إلينا تراثه الشعري الذي اعتنى به وصانه من الاندثار، إذ في عام 1895 ظهرت أولى «الأشعار الكاملة» التي سيتولّى كتابة مقدمتها. فمن المعروف أنه في سنّ العشرين، قرّر رامبو؛ «العابر الهائل» كما ينعته ستيفان مالارميه، أن يتخلى عن الشعر ويلوذ بالصمت؛ حيث اختار أن يسلك طريق المغامرة والاستكشاف، مُودّعاً حياة الفاقة والتشرد والمخدرات والشذوذ (لاسيما علاقته الشاذة الصاخبة مع بول فرلين) ومُيمّماً شطر الشرق وافريقيا. مرّ بالقاهرة، ووصل إلى عدن التي اشتغل بها مراقباً في ورشة وكالة فرنسية للتجارة في البُنّ، وزار الصومال وجيبوتي وزيمبابوي، لكن الفترة الأطول من مغامرته الافريقية قضاها بين ميناء تاجورا ومدينة هرار الحبشية؛ كأنما هو يبحث عن «المجهول» الذي افتتن به ولم يكلّ عن ملاحقته في شعره، ويُمنّي النفس بملاقاته خارج «رهبة الصفحة واختناقها».
وفي عام 1891 يعود إلى مسقط رأسه شارلفيل خائر القوى، وقد داهم السرطان ساقه، وبحوزته ثروة كبيرة جمعها من عمله وتجارته؛ بما في ذلك الاتجار في السلاح والبشر، إلا أنه سرعان ما عزم على العودة إلى فردوسه الافريقي، لكن سيلقى حتفه في ميناء مارسيليا أثناء اشتداد المرض عليه عن سنّ السابعة والثلاثين، مُتعجّلاً لقيا «مجهوله المتعذر» وتاركاً لأسطورته التي انتسجت من جماع شعره وسيرته ومغامرته أن تعمل في غيابه، وأن يتأوّلها الناس في كل الثقافات إلى اليوم.
حياة الأسطورة
في كتابه «آرثور رامبو: مقاربات.. شهادات.. إضاءات» (منشورات بيت الشعر في المغرب، الرباط 2022) وهو آخر كتبه قبل رحيله في مطلع هذا العام، يتناول الناقد والمترجم المغربي بنعيسى بوحمالة شعر آرثور رامبو، الذي يستضيء – في نظره- بموضوعات مختبره الأثيرة (الزمن، المكان، الأبدية، الإنسان، الطبيعة، الكنيسة، الوثنية، الكمال، الحرية، الحب، الوحدة، التعاسة، القداسة، الدنس، اللعنة، الموت) فيما هي «تؤول، في المحصلة، إلى ذلك المجهول الذي سيبتدع، فداء معانقته، جحيماً رمزيّاً، على الغرار مِمّا تنذر به الأساطير والمعتقدات الدينية، مُبْدلاً ضميره المفرد بضمير جمعي (لا ننسى انضواءه إلى كومونة باريس) لينوب مناب الآدميين كافّةً في عيش جهنم باطنية أو احتراق شخصي». وكان ذلك يحدث جنباً إلى جنب أسطورته الشخصية التي ذاعت مع تلك الصورة – الأيقونة التي يجلل تقاطيعها محياه الصبوح وعيناه الزرقاوان وشعره الأصهب المشعث، التي وضّبها له الرسام إيتيين كارجا في أكتوبر/تشرين الأول 1871، حين كان في سن السابعة عشرة.
يفرد الكتاب بين دفتيه ثلاث دراسات نقدية أساسية تكشف خصائص شعر آرثور رامبو في تقاطع مع حدوساته النظرية، التي بثّها في رسالتيه الرائيتين، لكلّ من جان- بيير ريشار، وهوغو فريدريش ودانييل لوريس. ففي دراسته المطوّلة المعنونة بـ»رامبو أو شعر أن تصبح على غير ما أنت عليه» يركز الناقد وأحد أقطاب المنهج الموضوعاتي جان- بيير ريشار ما يمكن احتسابه النواة الصلبة في المشروع الشعري الرامبوي الذي تميز باكراً برغبته في تجديد شامل: تفجير الأدب والمجتمع القديمين، كما تحقيق الطفرة نحو «المجهول» و»الخارق» والتمرس بالرؤيا، من خلال مقاربة مدوّنته الثيماتية، بما فيها معجم الإزهار، داخل بنياتها الصياغية والرمزية والتخييلية، على نحوٍ يقود إلى سبر أغوار ذات الشاعر وهي تغالب نفسها والعالم الذي حولها، بقدر ما تسعى إلى معانقة المجهول المرادف للعنفوان الوجودي في امتلائه وانطلاقه. فالشاعر كان يعمد إلى «استدخال النسقي والمعقلن تشويشاً على كلّ المعاني» ويسعى إلى إخراج «الأنا» من مثواها والأشياء من عاديّتها حتى يسنح للكينونة، من داخل الفوضى وبواسطتها، أن تتزحزح عن مركزها، وبالتالي يسنح لها فرصة التحرر، ولا يمكن التفكير في الأنا بمعزل عن الآخر: «فحيث إن كان «أنا» هو «آخر» فمعناه أنّ الأنا هو من صنع هذا الآخر، بل الأحرى أن نقول إنه لم يقتدر على صنعه ما دام هذا الآخر يبقى «آخر» تماماً، كائناً جديداً على نحو جذري، غريباً بشكل يتجاوز الأفهام» أو مثلما قال رامبو نفسه بنبرة ساخرة تعجيزية: «ما الذي بودّهم التفكير فيه» وفي مكان آخر: «فمن الخطل القول: أفكّر، بل يستوجب القول: هم يفكّرون من خلالي وعذراً على التلاعب بالكلمات». ويرى جان – بيير ريشار في ديوان «إشراقات» تشخيصاً وإجراءً يستهدفان الخلق: خلق داخلي للآخر.
ويذهب الناقد الألماني هوغو فريدريش في دراسة خصّها عن الشاعر داخل كتابه ذائع الصيت «بنية الشعر الحديث» إلى أنّ النزوع التجديدي في شعر رامبو ظهر باكراً منذ بداياته الخالصة، فيما هو يقوده إلى «تفجير» كامل التقليد الأدبي السائد في تلك السنين بلوغاً إلى لغة ما فتئت، وإلى يومنا هذا، بمثابة الكتابة الجذرية للشعر الحديث، ويعاين في شعره مدى تحقّق مساعيه النظرية، ولو أنّ هذا الشعر يُمثّل على درجة من المغايرة، إلى درجة أنّ آثاره مبلبلة ومربكة تعاكس رغبة القارئ من فرط تشويشها، كما لو «كانت رسالته تقوم على إفقادنا الوجهة» مثلما قال جاك ريفيير عام 1920.
ففي رسالتيه اللتين كتبهما في عام 1871، وتتمحوران حول فكرة «الرائي» كان رامبو يخطط لبرنامج شعري آتٍ سيغطي الطور الثاني من شعره الخالص. فقد انتهى إلى أن غائية الشعر هي «اللحاق بالمجهول من خلال تشوّش سائر الحواس» أو بالأحرى بلوغ ما هو أبعد: «اختبار اللامرئي واستنصات الخارق». وهذا ما تُلحّ عليه قصائد رامبو، بحيث إن انفجاراتها وحيويّاتها بمنأى عما هو واقعي، تندرج مبدئيّاً في حلبة التعبير عن احتقانات غريزية قيد الانطلاق، ثم تحويل الواقع إلى صور موسومة باللاواقعية. وفي هذا التأويل، ستحلّ قوى أخرى قادمة من تحت محلّ الأنا الفردية أو التجريبية للشخصية، لأنها وحدها المؤهلة للتكيّف مع رؤيا المجهول، وبالتالي سيجري انتهاك «الأنا» وتسخيرها من طرف القوى الجمعية، أو «الروح الكونية» بتعبيره، حيث تقتادها صوب الأعماق. ولقد مثّل ذلك تدشيناً لخبرات جديدة في الشعر الحديث، وكان السرياليون أول من تَلقّفها، واعتبروا صاحبها واحداً من مُبشريها الكبار. وينعت فريدريش مثل هذه الجهود لبلوغ اللاعادي أو اللاواقعي بـ»التسامي الخاوي» الذي قاد إلى لغة جديدة، وإلى شكل يلتقي فيه «المشوّش، المتعذر سبر أغواره، الكريه، الفاتن» وتهيمن للتعبير عنه قيمتا الانفعال والموسيقى. وهو ما يفسر كيف أنّ رامبو في سائر عمله الشعري، يتحدث عن الموسيقى، بل يدعوها «موسيقى مجهولة».
يوزع هوغو فريدريش دراسته إلى جملة فرضيات أو محاور تبرز طبيعة المشروع الرامبوي وخطورته في آن؛ مثل: القطيعة مع التقليد، الحداثة وشعر المدينة، وتفجيريّة «المركب الثمل» والثورة على الإرغامات المتحدرة عن المسيحية، كما في ديوانه «فصل الجحيم» وتفجير الحدود وهدم الواقع، وكثافة القبح، واستبداد المتخيل في ديوانه «إشراقات» الذي تطبعه تقنيات الطباعة الفوقية والتوضيب، عدا المراوحة بين التجريد والمونولوغ ودينامية الحركة وسحر الكلمة. وفي كل الأحوال، فإنّه «لا رجاء في التملّص من ظاهرة رامبو التي تطفو ثم تنطمر مثل نيزك يسحب شعلته التي تظلُّ مثابرةً في علياء الشعر».
ويركز الناقد الفرنسي دانييل لويريس على «جذرية» رامبو في تحرير الشعر من نظام السكونية والتقليد عبر ثورة متعددة الأشكال. فلم تكن هذه الثورة فقط ثورة موضوعاتية تلجأ إلى تصفية حسابات الشاعر مع الموضوعات البرناسية، بل مسّ أوارُها اللغة التي تجلت في نزوعها الخيميائي وتحققها الطازج وبلبلتها لسائر المعاني وصولاً إلى «لبّ المجهول» إذ لم يعد الشاعر معنيّاً البتة بالتعبير عن ذاتيته الصميمة، بل إنّ «أنا»ه يلزمها الاقتران بـ«الآخر» والاندماج فيه. كما لو يعد من الوارد أن يتحرك الشعر بالمدلول، بحيث يستطيع الاكتفاء بالدال («حرفيّاً وبكل المعاني» كما يقول). فقد كان طموح رامبو أن يكون رائيّاً قادماً من غد العالم، من المجهول: «أريد أن أكون شاعراً، وأعمل على أن أصير رائيّاً».
إلى جانب هذه الدراسات، يدرج بنعيسى بوحمالة في كتابه شهادات لكل من بول فرلين، وتريستان تزارا، وسيرج بي، وحوارات وإضاءات متعددة لغيرهم، نقاداً وإعلاميين، تكشف جوانب أخرى في شعره وسيرته وأسطورته، وأساساً ما يتعلق برحلته إلى اليمن والحبشة.
رامبو في المجال العربي
دخل آرثور رامبو إلى العربية وإلى مخدع قرائها عبر وسيط الترجمة، بعد أن تولى مترجمون وشعراء عرب نقل شذرات ونصوص من شعره؛ مثل: رمسيس يونان، وخليل خوري، وصدقي إسماعيل، وشوقي أبي شقرا، ومحسن حميدة. وثمة من ترجم أعماله الكاملة؛ مثل: كاظم جهاد، ورفعت سلام وهالة النابلسي. ولا حاجة إلى الذكر بما يضيع من الشعر أثناء «نقل وتهجير مفردات ومجازات وأخيلة من لغة إلى لغة» لكن الأمر ـ كما قال بوحمالة – يزداد صعوبة حين يتعلق الأمر بترجمة شعر مختلف وشاقّ و»نسيج وحده» مثل شعر رامبو، الذي وجد الفرنسيون قبل غيرهم عنتاً في فهمه بسبب «تقعر لغته الشعرية المخصوصة ورؤياه المذهلة» فكيف إذا تُرجم إلى لغة أخرى، بل تَوسّل بعضهم بنسخ إنكليزية وألمانية وإسبانية لنقله، أو تمحله بعضهم الآخر بسبب «نقص الدراية باللغة الفرنسية». ولهذا، كان يلمع إلى «المجازفات المحايثة» التي كانت تتصل بترجمة شعر رامبو، وإن كان ذلك لا يعدم التنصيص على دور الترجمة ـ إن قلّت درجة خيانتها – للاقتراب من هذا الشعر وغيره، والحوار معه من داخل الاختلاف.
إن هذا الكتاب الترجمي للراحل بنعيسى بوحمالة يأتي، إذن، ليسدّ النقص الذريع الذي تعرفه الدراسات والمقاربات التي تناولت في الصميم شعر آرثور رامبو، التي تكاد تحجبه أسطورته الشخصية وتغلب عليه، وأحياناً تسيئ إليه الاستشهادات الكثيرة به عنوةً وبلا سابق علم وقراءة.
كاتب مغربي