على هامش النسيان

حجم الخط
0

يصعب دوما بالنسبة لي فصل ما هو شخصي عن ما هو عام. يصعب تصور تغير الحياة للأفضل وسط المعاناة، والشعور بالسعادة وسط الألم، والدفء وسط البرد الذي يحيط بالجميع. يصعب الحديث عن جمال الشتاء وسط معاناة الملايين في مخيمات لجوء وقوارب هجرة غير شرعية، يبحث من فيها عن حياة وكرامة لا تتوفر في الأوطان. يصعب التمتع بالسماء الصافية في مكان بدون أن تتذكر البراميل المتفجرة والصواريخ وغيرها من التهديدات، التي تخصم في لحظات من جمال السماء، وتحول الوقت إلى انتظار كارثة جديدة. يصعب كل هذا بدون أن يتعارض كل ما سبق من مشاعر إنسانية، مع ثقة مطلقة في العدل والحق والحرية، وإيمان دائم بأن الظلم قصير مهما طال، واستمرار محاولات الحفاظ على زمزمية الأمل والتمسك بالضوء في كل نفق.
يتقاطع العام والخاص، وتتشابك الأشياء بدون التعميم، لأن هناك العديد من الاختلافات الموضوعية، كما أن التعميم صعب في الحياة. نقطة من المهم التأكيد عليها من البداية، في وقت أؤكد دوما على أهمية التذكر وخطورة النسيان في التعامل مع القضايا العامة، والكثير مما هو خاص، وفي الخلفية يذكرنا نجيب محفوظ دوما أن «آفة حارتنا النسيان»، والسؤال لماذا الحديث عن أهمية النسيان إن كان آفة الحارة؟
في الدول نحتاج إلى التذكر، إلى الكثير من التذكر، وربما نحتاج إلى تذكر السلبيات قبل الإيجابيات، ليس من أجل جلد الذات والبكاء على الأطلال، ولا تحويل الحاضر والمستقبل إلى أسرى في يد الماضي. نحتاج أن نتذكر من أجل أن نتعلم، أن نعرف مخاطر السلطوية والثمن الضخم الذي يتم دفعه من حياة الوطن والبشر، أن ندافع عن الديمقراطية والمحاسبة من أجل اللحظة والمستقبل، وعن الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، بوصفها حقوقا لا تنازل عنها، وأن ندرك الترابط بين الدفاع عن حق شخص، وحق الجميع، وكيف يبدأ التنازل مثل قطع الدومينو، قبل أن يتسع ويسقط في فخه الجميع، من التنازل عن حق قطعة واحدة في الحياة. علينا أن نتذكر أيضا في الحياة الشخصية، ولكن قد نحتاج إلى نسيان بعض التفاصيل من أجل القدرة على الاستمرار. نحتاج إلى تذكر المعنى والدرس، بدون جلد الذات المستمر، الذي يقف بيننا وبين الحياة. نحتاج أن ننسى بالقدر الذي يمكن لنا معه أن نعيش بوصفنا بشرا أكثر من أن نتحول إلى مساحات من الغضب والكراهية والحقد والحسد.. علينا أن نسامح وأن نبدأ من مسامحة الذات، بدون أن نتجاوز المعنى.
تبدو قضية النسيان والتذكر معقدة، وقد يؤكد البعض على أهمية النسيان على المستوى العام، ولكن هل يمكن حقا أن ننسى حق الأسرى والجرحى والموتى؟ هل يمكن أن ننسى من باع وخان وظلم وتنازل عن أرض وحق؟ هل يمكن أن ننسى من قاوم ودافع عن العدل والحرية وانتصر للإنسان؟ وهل تتطور الدول عبر مقابر الذاكرة حقا، رغم كل ما تسمح به من عبودية واستغلال؟ قد لا يختلف الجدل في البعد الخاص، وقد يرى البعض أن النسيان ضرورة من أجل استمرار الحياة، والفرح بعد الحزن، والحياة بعد الفقد، والثقة بعد الخيانة. ولكن تظل القضية مع النسيان في تلك الحالة مثل الملح والطعام، بعض النسيان يصلح والكثير منه يضر. ورغم الألم والوجع والفقد والخيانة، وكل الصور السلبية، أو الذكريات الإيجابية، التي يحاول البعض نسيانها من أجل التعايش مع واقع جديد، يظل من المهم الحفاظ على مساحة من التذكر، حتى لا يغيب الدرس أو المعنى أو العزيز الذي رحل يوما. بالطبع لا يتركز الحديث عن النسيان الشخصي في جانب الإيجابيات والشخصيات، التي نتعامل معها بوصفها خارج دائرة النسيان، أو المحاولة بقدر ما يتركز على السلبيات والصديق أو الحبيب، الذي يصير غريبا كما يتكرر عادة في المقولات والتعليقات المتداولة، وهو ما يستحضر محمود درويش للمشهد، وهو يطالب من يريد الرحيل بالوفاء للرحيل، حتى نستطيع الإخلاص للنسيان، بما يطرح التساؤل عن عودة من رحل، ودرجات النسيان والقدرة على التجاوز، وغيرها من النقاط المرتبطة بمحاولة نسيان من تسبب في جرح ما، وهل يصبح غريبا حقا، أم تختلط الأوراق حين عودته (أو عودتها)؟
يقال إن التحدي أو الانتقام أو التحرر، يتمثل في تحويل القريب إلى غريب، ولكنها مقولة غير مكتملة وتصور غير حقيقي للأشياء. الغريب مثل الورقة البيضاء، أما القريب الذي يتحول إلى غريب فهو صفحة امتلأت وفاضت، وربما تشوهت أو قطعت من دفتر يوميات تفاصيل الحياة. يصعب القول إن قريب أو صديق الأمس يتحول إلى شخص غريب فقط، ولكن إلى الغريب الذي كنا نعرفه أو نتصور أننا كنا نعرفه يوما، بعد أن صار غريبا من نوع مختلف. يصبح النسيان فعلا عمدا والغريب مقصودا ووضعية المعرفة/ البعد محملة بذكريات تقاوم محاولات النسيان على عكس الغريب الذي لا نعرفه. الغريب الحقيقي محمل بالفرص، والغريب الذي تصورناه صديقا يوما محمل بالخيبة. الغريب الأول قد تقابله صدفه وتبتسم تعبيرا عن بدايات، والآخر تتجاوزه، وإن ارتبط بابتسامة، فهي ابتسامة من نوع خاص لا تعبر عن سعادة، بقدر ما تحمل رسائلها الخاصة في ظل طبيعة العلاقة والوجع والغضب ودرجة الشفاء. الغريب الأول قد تتذكره وتذكر نفسك بملامحه من أجل لقاء قريب، والآخر تحاول أن تنساه، وأن تمحو تفاصيله من الذاكرة، فهو الماضي الذي لا تريد أن تحمله في رحلة الحاضر والمستقبل، وتتوقف فقط عند المعنى والدرس من الماضي الذي كان جزءا منه.

يقال إن التحدي أو الانتقام أو التحرر، يتمثل في تحويل القريب إلى غريب، ولكنها مقولة غير مكتملة وتصور غير حقيقي للأشياء. الغريب مثل الورقة البيضاء، أما القريب الذي يتحول إلى غريب فهو صفحة امتلأت وفاضت، وربما تشوهت أو قطعت من دفتر يوميات تفاصيل الحياة.

الغريب الأول مرحب بحضوره، والآخر مرحب بمغادرته بدون عودة. يأتي الأول محملا بحقيبة البدايات، ويغادر الثاني محملا بحقيبة النهايات، وتفاصيل من الوجع والخيبة، قد يخفف منها أحيانا بعض الذكريات السعيدة، أو الإيجابيات، ولكن في إطار نسبي يتوقف على طبيعة العلاقة وتطوراتها، والتجارب المشتركة وشكل النهاية وأسبابها. لا يتحول من كان صديقا إلى غريب كما كان أبدا، ولكن إلى غريب في ساحة رحلة النسيان.
لا أرغب في أن أتذكر.. أغلق هذا الباب وأسير في رحلة النسيان، تعبّر تلك الكلمات عن الحالة المسيطرة عادة في النسيان المرتبط بالوجع والخيانة أو الخيبة. نسيان يضعه البعض في سلة واحدة مع غيره، حيث يتم وصف الدواء نفسه، وهو الوقت أو الزمن القادر – وفقا لهم- على مداواة جروح الجميع، على الرغْم من صعوبة تعميم المرض والدواء. تعميم يجعل الوقت وصفة غير ناجحة للجميع، وتحتاج إلى الكثير من العوامل، من أجل إعادة الثقة ومسامحة النفس والشفاء، ولكن مع غياب تلك العوامل الضرورية، يظل الوقت هامشيا فمن رحل لا يلتزم بشرط الوفاء للغياب، ونحن لا نلتزم بشرط الإخلاص للنسيان. تبدأ مثقلا بالذكريات، محاولا بقوة أن تتخلص منها، ولكن كلما حاولت أن تغلق بابا عادت تدق بقوة أو تدخل بدون استئذان. تجلس الذكريات في مواجهتك، تعود للحضور مع التفاصيل الصغيرة حولك.. رائحه القهوة، صوت حليم (عبد الحليم حافظ)، تلك الألوان والكلمات العابرة، التي أسعدتك يوما. تتذكر كل ما قيل عن اللحظات السعيدة عندما تتحول إلى أسباب للوجع، وكيف أن محاولات النسيان ترتب المزيد من التذكر، وكأننا نردد مع درويش «إن شئت أن أنسي تذكرت». تتمرد على ذاتك، وعلى كلماتك وأحاديثك الداخلية. تشغل نفسك في أشياء أخرى، وتبدأ تلك الضحكات المرة، أو المرارة الضاحكة، لحظات تخلط بين ما كان أسباب سعادة يوما، وما صار من أسباب الوجع.
تدخل مرحلة التعايش، أن تتذكر أجزاء وتعيد بناء التفاصيل. تخرج من جهود النسيان وتدرك الغياب، ليس بوصفه إرجاع الشخص كما كان قبل المعنى، ولكن إخراجه كأنه لم يكن من الحضور. لا يتحول الشخص إلى مجرد غريب كنا نعرفه، ولكن إلى وجود بلا حضور، حيث يتهمش الوجود ويغيب المعنى ومعه التذكر أو النسيان. تخرج من معنى يحزنك إلى معنى يحررك. تتسع الدائرة وتخرج من أسر وضعية الضحية والجلاد، على الأقل تكرر أنك لست ضحية، وأن الجلاد مهما كان فهو في جزء منه صناعة ذاتية يحاصرنا، بقدر ما نقدم له من مساحات داخلنا، يحكمنا بقدر ما نتنازل عنه من حرية، يتحكم فينا بقدر ما نمنحه من حاضرنا ومستقبلنا، نصغر في مواجهته كلما تضخم حضوره وصورته التي نصنعها بأنفسنا، يظلمنا بقدر ما نسمح له، ونتحرر منه بقدر ما نسامح أنفسنا ونسمح لها بالتحليق بعيدا عن الوجع والظلم. تبدأ مرحلة موت حالة الضحية وميلاد حياة الإنساني فينا، الجزء المحمل بكل الوجع والأمل، القادر على رؤية الطريق رغم المعاناة. ينتقل من كان قريبا إلى مكانة ما بين القريب والغريب، القريب المحمل بالوجع، والغريب المحمل بالذكريات، ولا يأتي النسيان من الغياب بالضرورة في تلك المرحلة، ولكن من إدراك تلك المساحة الخاصة والميلاد الجديد، لكل المعاني الإيجابية داخلنا. وعلى قدر الوجع والألم أو الخيبة نضع جزءا من التفاصيل في مقابر الذاكرة الخاصة، بدرجات نجاح متفاوتة، مقابر ذاكرة يصلح بعضها في حالة الفرد، يضر الكثير منها الفرد والمجتمع.

٭ كاتبة مصرية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية