عمى اليسار

حجم الخط
1

أوري مسغاف هو صحافي لامع، أصيل، يبعث على الالهام. مدونته هي مادة الزامية برأيي لكل من يريد أن يحك فكره قليلا. مسغاف هو أيضا صديق عزيز وشريك في الطريق الرياضية الحمراء. ظهر يوم الاحد رفع الى موقع «هآرتس» مقالا تحت عنوان «اصمتوا فهم يثرثرون: اليسار، الاعلام والجمهور الغفير يستسلمون مرة اخرى لنتنياهو». قرأت، استمتعت، اتفقت تقريبا مع كل ما كُتب. ما كان يمكنني أن اكتب هذا على نحو أفضل. فمسغاف هو حقا كاتب متفوق. وصفه للاستغلال الساخر من جانب رئيس الوزراء للازمة، الاصطفاف التلقائي للجمهور ووسائل الاعلام، الاحابيل التي يطلقها نتنياهو بفنيه، نجاحه في استخدام أزمة الاختطاف/العملية لصرف الانتباه الاعلامي عن قصورات سلوكه الذي لا ينتهي هو وعقيلته، من أثاث الحديقة الذي نقل من القدس الى قيساريا، الى غيره وغيره.
في موقعين اختلفت مع مسغاف. ظاهرا، موقعين صغيرين، في الهامش. في الواقع، هما أكثر جوهرية بكثير مما يخيل. الجملة الاولى التي اثارت عندي العجب كانت التالية: «في توقيت كامل قبيل احياء ثماني سنوات على الحرب النكراء السابقة، التي انطلقت اليها اسرائيل بالطبل والرقص في أعقاب عملية اختطاف وحيدة».
ويقصد مسغاف حرب لبنان الثانية. حرب نكراء، على حد قوله. فكلها «عملية وحيدة»، ماذا حصل؟ من أجل ماذا الحرب؟ نهج مسغاف هذا يتجاهل الحقائق والواقع. فهذه الحرب النكراء هي حرب مع افضل الحروب نتائج لاسرائيل منذ الازل. اكثر من حرب الايام الستة (في نظرة الى الوراء أوقعت علينا مصيبة الاحتلال)، أكثر من السويس، اكثر من حرب لبنان الاولى، أكثر من كل باقي المغامرات. هذه الـ «كلها عملية وحيدة» جاءت بعد سلسلة من عشرات كاملة نكل فيها حزب الله بسكان الشمال، قصفهم حين راق له، نمو أجيال من الاولاد في كريات شمونا اعتادوا على التبول الليلي حتى سن متأخرة والنوم في الملاجيء. هذه «العملية الوحيدة» كانت غزو مخطط جيدا الى اراضي اسرائيل السيادية، التي انسحبت حتى آخر سنتيمتر الى الخط الدولي، قتل جنود، اختطاف جنود، وقصف بلدات مدنية بالكاتيوشا على طول الجبهة. على هذا، حسب مسغاف، كيف كان ينبغي لنا أن نرد؟ ربما مثلما عودنا أناس مثل ايهود باراك واريئيل شارون، الجنرالين ذوي الاوسمة والمجد ممن وعدونا من أنه اذا ما وعندما يتجرأ حزب الله فعندها «سنعرف ما نفعل»، ولم يفعلوا شيئا.
جاء واحد، ايهود اولمرت، خدم في «بمحنيه» بالاجمال، وقرر بان السيادة الاسرائيلية ليست مداسا وأن الردع الاسرائيلي يحتاج الى ترميم عاجل، قال وفعل. دون أن يحسب حسابات ودون أن يتره ترهات، ضرب حزب الله بكل القوة. نصرالله قال بعد ذلك، بصوته، انه لو عرف بان هذا سيكون رد اسرائيل لما كان انطلق لفعل الاختطاف منذ البداية. الان نصرالله بات يعرف. ولهذا السبب، فمنذئذ وحتى اليوم، هدوء تام على الحدود اللبنانية. شيء كهذا لم يسبق أن كان منذ قيام الدولة. منذ ثماني سنوات.
نصرالله لا يزال في الخندق. الجيش اللبناني على الجدار، زائد قوة كبيرة من المراقبين الدوليين. حزب الله فقد معاقله التي سيطرت على الجدار وجعلت جنود الجيش الاسرائيلي قطيعا من الأوز في ميدان اطلاق النار. سكان الشمال لم يعرفوا مثل هذه السكينة منذ ان كان الشمال هنا. والاكواخ السياحية تزدهر. والعقارات تحتفل. كل هذا، يا مسغاف، بفضل «الحرب النكراء» اياها، التي اديرت بشكل سيء وكشفت ضعف الجيش الاسرائيلي وقيادته القتالية، ولكنها كانت عادلة لا مثيل لها وجلبت لاسرائيل ردا لم يكن لها ابدا. احتفال الاختطافات توقف. السيادة الاسرائيلية قالت كلمتها.
الجملة الثانية لمسغاف التي لم اتفق معها كانت التالية: «ذات السلطة الفلسطينية التي توقفت المفاوضات معها»، كتب مسغاف، حول القاء المسؤولية من نتنياهو على ابو مازن في سياق الاختطاف. وبالفعل، هذا صحيح. اسرائيل أوقفت المفاوضات مع السلطة عندما اقيمت حكومة المصالحة. ولكن حصل هنا شيء ما من قبل ايضا. كان هنا واحد يدعى جون كيري، توصل الى ورقة تفاهمات متفق عليها، وفيها مبادىء للتسوية بين الطرفين. عرضت هذه الورقة على نتنياهو، الذي أعرب عن موافقته للتوقيع عليها (مع التحفظ)! ولكن عندها جاء دور ابو مازن، لم يوافق. هذه الحقائق البسيطة لا تنجح في التسلل الى وعي رجال اليسار مثل مسغاف. فهم مقتنعون بانه اذا كان احد ما سيأتي وسيحول كل سكان اسرائيل من مستوطنين ورجال يمين الى مسغافين منشودين مثلهم، ففي الغداة ستوقع التسوية الدائمة. وبالفعل، يؤسفني. هذا لن يحصل. لا تسوية دائمة ولا بطيخ. وبالتأكيد ليس مع حماس، او مع السلفيين، او مع أي احد ينشأ وينبت بينهم.
أنا من اولئك الذين يؤيدون بكل قلبهم وعقلهم اتفاق جنيف، مثلا. القدس مستعد لان اقسمها الى احياء عربية ويهودية. انا حتى مستعد لان اعيد عددا محدودا من اللاجئين (لنفترض 20 الفا) على اساس انساني، كبادرة خاصة. مشكلتي الوحيدة هي أن أمامي لا يوجد احد مستعد لان يوقع على هذا الاتفاق باسم الشعب الفلسطيني. لا يوجد احد قادر على أن يتخلى عن عودة مئات الاف اللاجئين الى بيوتهم. لا يوجد أحد مستعد لان يخاطر بنفسه كي يروج لابناء شعبه بان اليهود ليسوا أبناء كلاب وخنازير وانه يجب الكف عن التحريض ضدهم. لا يوجد احد مستعد لان يشرح لهم بان الرقص وتوزيع الحلوى في الشارع حين يقتل اليهود هو أمر ليس جميلا. او بتعبير آخر، لا يوجد للفلسطينيين اوري مسغافيين. لديهم، كلهم نفتالي بينيتيين (معاكسين بالطبع)، وهذا في افضل الاحوال. الفارق بيني وبين صديقي اوري مسغاف هو أني لا احاول تلوين محيطنا بالوردي. فهو ليس ورديا، محيطنا. هو أحمر من الدم.
هذه القصة حزينة، لان اليسار في معظمه يفكر مثل مسغاف. انظروا الى زهافا غلئون. هي ايضا تفكر بان حرب لبنان الثانية كانت حرب نكراء. ما تفكر به متأكدة منه. هي ايضا مقتنعة باننا فقط لو تنازلنا مزيدا بعض الشيء، لكانت هنا على الفور جنة عدن مزدهرة ورجال الجهاد الاسلامي سيقضون السبت لدى زمبيش في كريات أربع. في طريقه الى هذه المطارح الهاذية، فقد اليسار ليس فقط البوصلة، بل والشعب ايضا. بالضبط في هذه النقطة تحول اليسار من معسكر كبير وعظيم في اسرائيل الى مجموعة صغيرة تتضاءل وتثير العجب. وهذه خسارة فظيعة. إذ في النهاية لا يوجد سبيل آخر للشعبين الحبيسين هنا الواحد داخل الآخر غير التعايش معا.

معاريف 17/6/2014

بن كاسبيت

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ابراهيمي علي:

    ما كل ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
    انتم تحلمون ,قوتكم اعسكرية حاليا اعمت بصيرتكم, وكن الى متى؟ لن يكون هناك سلام بينكم وبين الشع الفلسطيني وبالتالي لن يكون تعايش بين الشعبين, كيف تطلب تعايشا مع مجموعة دخلت منزلك وطردتك منه الى الشارع؟ وكيف يتعايش الشعب الفلسطيني مع مجموعة من يهود شعب الخزر لا علاقة لها بفلسطين تلقت دعما من الدول الاستعمارية واغتصبت فلسطين؟ انظر كتاب القبيلة الثالثة عشر لمؤلفه كوستلر وكتاب تاريخ مملكة الخزر لمؤلفه دنلوب وكتاب يهود اليوم ليسوا يهودا لمؤلفه بنيامين فريدمان . التعايش يمكن ان يتحقق فقط وفقط عندما تعودوا الى من حيث اتيتم ولا تنحدعوا بقوتكم العسكرية

إشترك في قائمتنا البريدية