نصادف الأعمال الأدبية الجيدة من وقت لآخر، تجدنا أو نجدها حسب ضربات الحظ، وحينها نشعر بجدوى الأدب وأهميته، ليس بسبب المتعة التي تمنحها لنا الحكاية، بل لشيء أهم من ذلك، يتوغل في أنفسنا ويرمم ما تهدم منّا، وما انكسر، فبعض تلك الأعمال تدق أجراس الإنذار وتنبهنا إلى مخاطر هذه الحياة وفخاخها، قبل حتى أن تحدث وهذا من الأمور المدهشة في الأدب، وبعضها الآخر مختصر غريب لسنوات من التجارب، يصلنا كمرسال يعبر الأزمنة.
في روايتها الاستقصائية «في أثر عنايات الزيّات» نجد النوعين معا، ولا نكتفي بقراءة نتائج رحلة المؤلّفة الاستقصائية بحثا عن حقيقة كاتبة مغمورة، بل نذهب في رحلة موازية لاكتشاف الجزء اللامرئي من شخصية هذه المؤلفة نفسها. فقبل هذا الكتاب كان المنجز الشعري هو ما يقدمها لنخبة القراء والمترجمين، وهو منجز قد يُخرج الشاعرة للضوء بعد عمر طويل من العطاء الأدبي، فقد تساءل كثيرون من هي إيمان مرسال، بمجرد نيلها لجائزة الشيخ زايد للكتاب. البعض استنكر هذا الفوز رغم عدم قراءته للكتاب، والبعض الآخر قرأه ولم يستسغ هذا اللون من الكتابة، فيما فئة كبيرة من القراء اكتشفوا كاتبة من طراز آخر، ولونا أدبيا جديدا لا نعرفه في العالم العربي.
وقبل الحديث عن هذا اللون من الكتابة الأدبية التي تقوم على الاستقصاء، علينا أن نتوقف عند مرسال نفسها، حين التقت بكتاب عنايات الزيّات. وأثبتت أن اللقاء بكتاب إنّما هو لقاء بحياة بأكملها، حتى إن كان ذلك الكتاب مجرّد محاولة أولى لإثبات الذات، أو مسودّة غير مكتملة، أو مخطوطا لكاتب فاشل. كل كلمة يدوّنها الشخص تتحوّل لرسالة مهمّة، قد تصل للمرسل إليه ولو بعد سنوات طويلة.
نُشرت رواية عنايات الزيات «الحب والصمت» بعد وفاتها بأربع سنوات، ولا ندري إن عبثت بعض الأيدي بما ورد فيها، لكن الأكيد أن حكايتها وتاريخها وصلنا دون أي عبث، بعد أن قرّرت إيمان مرسال تجميعه وإعادة تركيبه، وتقديمه للقارئ واضحا وصريحا في شكل كتاب.
صدرت الطبعة الأولى من هذه الرواية عام 1967، وقعت إحدى النسخ القديمة منها عام 2014 في يد إيمان مرسال، حين كانت تتجوّل في سوق الأزبكية للكتب، اشترتها بجنيه واحد فقط لا غير، لكن هل كانت تعلم حينها أن ذلك الجنيه سيكون أغرب استثمار مربح لكاتبة عربية عرفها التاريخ؟ من المؤكّد أن مرسال عادت إلى بيتها وهي بعد لا تعرف ماذا سينتظرها بعد قراءة ذلك الكتاب، لم تخطّط لشيء بعد، إلاّ بعد أن وجدت «المشترك» بينها وبين الزيّات، ليس في محتوى الكتاب في حدّ ذاته، بل في التغييب الذي تعرّضت له الزيات من أنطولوجيات الأدب والرواية المصرية، إقصاء الأقلام النسائية من المنجز الأدبي وإهمالها، وفي الارتطام بكهنة الأدب الذين يجرمون في حق الأقلام الشابة كلها، رفضا لأي تجديد، إضافة لأسباب عديدة منها ما هو متعلّق بالسيطرة على القطاع الثقافي، ومنها ما هو سياسي محض، يحجب كل مختلف في الرأي عن البروز.
عرفت مرسال أن عنايات حاربت، وأن حرب النساء في زمنها كانت خاسرة لأغلبهن، وقد عرفت كيف تنقل لنا نضالها الطويل والمرير، وانسحابها مثل مقاتل ساموراي فشل في حماية سيده، حين فشلت في حماية طفلها، والدليل أنها تركت رسالتها الأخيرة له وحده.
الأسئلة هي التي شكّلت الرؤيا الروائية لمرسال، أسئلة الفضول وشغف المعرفة، والرغبة في إيجاد أجوبة حقيقية شافية هي التي دفعتها نحو رحلة استقصائية شاقّة. لم يقنعها ما توزع هنا وهناك من معلومات شحيحة ومزيفة وملفقة عن عنايات، قادتها حاستها السادسة إلى رأس الخيط في الكومة الكبيرة، وإلاّ كيف تمكنت من الانطلاق من «صفر معلومة» إلى بناء حياة عنايات بأكملها؟ تذكّروا ذلك الجنيه الواحد الذي دفعته ثمنا للكتاب، والذي كان بمثابة ثمن المغامرة التي انتهت بجائزة مرموقة غير متوقعة. علينا أن نتخيّل هنا بؤس المؤسسات الإدارية، وأقسام الأرشيف، والمدن التي تغيّرت سحنتها. وسط هذا اللفيف الذي يشبه متاهة معقّدة بدأت مرسال عملية استقصائها، ثم تواصلت مع الممثلة المشهورة ناديا لطفي صديقة طفولة عنايات وصباها، وزميلتها في المدرسة الألمانية، ورفيقة رحلات الصيف والشتاء، إلى أن انتحرت بعد يومين من عيد ميلاد ناديا السادس والعشرين. والتي يمكن اعتبارها الصندوق الأسود الذي حوى معظم أسرار عنايات، إذ لطالما كان الأصدقاء أكثر قربا من بعضهم بعضا من الأخوة. ومع هذا لم تهمل مرسال أي شخص احتك بعنايات، اجتمعت بأختها الصغرى عظيمة، ومن بقي من جيرانها، ومعارفها، وأفردت فصلا كاملا للمستشرق الألماني كايمر المختص في المصريات لأن عنايات كانت تنوي كتابة رواية عنه، بعد أن تعرّفت على آثاره لما كانت مسؤولة عن الأرشيف في المعهد الألماني للآثار الذي عملت فيه.
كما ناقشت فرضية أنها انتحرت، لأنّ الدار القومية رفضت نشر روايتها وأثبتت أنّه سبب غير مقنع، لأنها اكتشفت أن عنايات كانت تعاني من اكتئاب قوي، وكانت تزور طبيبا نفسيا، وتأخذ أدوية مضادة للاكتئاب، وأنها قاطعت الدراسة عدة مرات، رغم كونها من الأوائل بسبب نوبات الاكتئاب التي عانت منها.
الأكيد أن زواجها لم يزد الطين إلاّ بلّة، وأنّه كان مهربا عاطفيا خاطئا أوقعها في فخ إضافي من فخاخ المرض، وبدل أن يكون هذا الزوج الحبيب المخلّص والملاذ الحنون لها، كان صاحب الطعنة القاتلة، حين هدّدها بانتزاع حضانة ابنها الوحيد منها بعد الطلاق.
يخرج قارئ الكتاب بانطباع أن أي خبر مهما كان صغير، أو أي كتاب مهما قلل البعض من أهميته ليس سوى ما يظهر من جبل الجليد، وتتبعها قد يكشف قصة كبيرة مشوقة. غير ذلك وصلت مرسال بعد بحثها الميداني إلى حقائق مذهلة مثل تدخل أحدهم لتعديل نهاية رواية عنايات الزيات لتتماشى مع المدّ الناصري، وهذه حقيقة تحيلنا إلى العبث الذي يطال الموروث الثقافي بكل أنواعه، كلما تغيرت الأنظمة، ومنه ما يندثر بشكل نهائي ويختفي. أمّا أقسى أوجه العبث فهي كسر شاهدة قبرها من طرف حارس المدفن لأنه كان يريد أن يحوّل المكان إلى غرفة يسكنها، أمّا أهلها فقد أتلفوا أوراقها بعد وفاتها حفاظا على صورة العائلة البورجوازية الجميلة.
أدرك أن كلّ قراءة تختلف عن أخرى، لكني على يقين أن هذا العمل الذي يستحق الكثير من الاحترام، كان مجموعة من الأحاجي، التي لم يكن ممكنا مقاومة سحرها والتوقف عن البحث أمام إحداها. كل أحجية تفتح على أخرى، إلى أن تخطّت حواجز الغموض كلها، وتوضّحت ملامح الحقيقة كاملة.
عمل جبّار، قدمته مرسال كعمل جاد ونموذج يحتذى به للحفر في خبايا الواقع، بحثا عن القصص المدهشة. غذّته باجتهادها وإصرارها، لأنّها عدة مرات كادت أن تستسلم أمام العقبات التي صادفتها وأن تتخلّى عنه، لولا هذا الحس العميق بالمسؤولية تجاه الأدب النسائي وتاريخه، وتجاه شخصية أدبية لحقها الكثير من الظلم، وكان من المجحف أن تظلمها هي الأخرى وقد استنجدت بها من العالم الآخر. من المؤكّد أن رابطا عاطفيا نما بين مرسال ابنة هذا الزمن، والزيات ابنة ستينيات القرن الماضي، وهذا الرّابط وحدها مرسال تشعر به، ونشعر به من خلال مقاطع كثيرة في الكتاب/ الرواية. نقرأ مثلا: «حاربت عنايات من أجل فرديتها وانتظرت مكافأة النّصر، من الدّار القومية للنشر، من المجتمع نفسه الذي حاربت ضدّه. كان الطلاق مكافأة، وكتابة الرواية مكافأة، والعمل في المركز الألماني مكافأة، لكن خسران قضية الحضانة هزيمة، ورفض الرواية هزيمة، وانشغال صديقتها عنها هزيمة، والتضحية بالحب من أجل الأمومة هزيمة، لا يكون أمام الفرد الحر أمام كل هذه الهزائم إلاّ أن يقفز مرة أخيرة في الفراغ».
عرفت مرسال أن عنايات حاربت، وأن حرب النساء في زمنها كانت خاسرة لأغلبهن، وقد عرفت كيف تنقل لنا نضالها الطويل والمرير، وانسحابها مثل مقاتل ساموراي فشل في حماية سيده، حين فشلت في حماية طفلها، والدليل أنها تركت رسالتها الأخيرة له وحده.
يقع الكتاب في 255 صفحة من القطع الوسط موزّعة على خمسة وعشرين فصلا، مزينة بصور بالأبيض والأسود. نخرج منه مثقلين بالحزن والإعجاب معا.
شاعرة وإعلامية من البحرين
مقالة رائعة شكرا بروين الجميلة. لا ينضب قلمك أدبا وتكتبين بحبر الروح