عندما تبدو الثورة امتدادا طبيعيا للبؤس: مرايا حلب

حجم الخط
0

زرت المناطق المحررة في مدينة حلب زيارة قصيرة، استمرت خمسة أيام من أيار الجاري. كنتُ أود أن أفهم، من خلال وجودي على الأرض، ما الذي يجري هناك. ولكن يبدو أن محاولة الإحاطة بالوضع في حلب تتطلّب العيش فيها. ربما كانت محاولة فهم ما يجري بصورة كاملة، حتى بالنسبة لمن يعيش هناك، مستحيلة. كنتُ أتمنى أن أفهم ما فهمه أبو غالب. ما يلي مرايا لواقع حلب.
فكرة ‘المرايا’ مستعارة من إحدى روايات نجيب محفوظ التي تحمل هذا العنوان. لا ناظم للصور في المرايا، سوى أنها تعكس جوانب من الواقع. قد لا تشكّل الصور لوحة كاملة. ولكن، من قال أننا نريد لوحة كاملة، أو أننا قادرون على رسم لوحة كاملة؟
بعد المرور بجانب مدرسة المشاة بحوالى عشر دقائق، بدأت السيارة دخول حلب. أسأل نفسي، هل هذا الخراب والبؤس نتيجة القصف العشوائي من قوات النظام، أم نتيجة سياسة إفقار استمرت أربعين عاماً؟ يختلط هنا البؤس الموروث من حقبة الاستبداد، وما قبلها، ببؤس مضاعف يجرّه عنف النظام وغياب للخدمات الرئيسية. يبقى السؤال معلّقاً كلما توغلنا أكثر. لا فاصل بين أبنية مدمرة من حقد الطائرات وأبنية شبه مهدّمة بالأصل. لا يصدمك عند دخول حلب الدمار الناتج عن القصف، بل بؤس مقيم، يجعل الدمار الجديد يؤاخي دماراً سابقاً مديداً. هكذا تبدو الثورة امتداداً طبيعياً لما قبلها.
متى عاد المدنيون؟ عادوا بالتدريج. لا مكان يذهبون إليه. لم يحتملوا ذل المخيمات، في الداخل السوري أو في تركيا. الحياة هنا أفضل. ماذا عن القصف؟ يدفنون موتاهم، ثم يكملون حياتهم. والماء؟ يحفرون ‘الجبب’ (الآبار). والكهرباء؟ يشترون المولدات. والمازوت؟ انظر حولك. لدينا كازية كل 15 متر. بعد أن استولت الكتائب الإسلامية على بعض آبار النفط، يقوم الناس بتكرير النفط بأيديهم. رأينا بعض هذه الورش في ريف حلب. ساعدت هذه الورش الناس على البقاء على قيد الحياة، وكسرت احتكار النظام للمازوت والبنزين. ولكن بأي ثمن؟
خط الجبهة داخل المدينة يكاد لا يفصل المدنيين عن العسكر. قال أحدهم: يخشى المدنيون من السكود. أن تحيا بجانب العسكر على خط الجبهة أكثر أمناً. لا سكود هنا، فقط قذائف عادية. قال آخر: في عزاز، ينام الناس في البرية، ويعودون إلى بيوتهم صباحاً. هكذا يتفادون السكود. تعج المدينة بالناس. سوق الفردوس مكتظ عن آخره. القاطرجي لا جيش فيها، لا حر ولا نظامي ولا إسلامي. عادت الحياة إلى بعض المناطق المحررة. لا خوف هنا إلا من قذائف النظام، وتشبيح بعض عناصر الحر والكتائب الإسلامية. عدا ذلك، حلب تنبض. يعيش الناس هنا كما يعيشون في أي مكان آخر. كل ما في الأمر أن الموت أكثر تواتراً.
دخلنا بيوت المدنيين المهجورة على خطوط الجبهة، في كرم الجبل والعامرية والشيخ مقصود. طلقات متفرّقة تسمع أحياناً. في البداية، كنت أخشى العبث بمحتويات البيوت. أردد لنفسي، للبيوت حرمة. كلما كان حجم الدمار أكبر، خف شعوري بالذنب. مع مرور الوقت، اعتادت عيناي مشهد الخراب. تنسى للحظات أن هذا الخراب كان يوماً بيوتاً مسكونة. نتجوّل في داخلها، ونبتعد عن النوافذ المشرّعة لقنّاصين يطلقون بعض العيارات للتسلية ولقتل الوقت. أصوات التكبير ترتفع، ويردّ عليها جنود النظام بطلقات متفرقة وشتائم ضجرة. تعرّضت البيوت لعمليات تخريب وسرقة من طرفي القتال. يحاول الجيش الحر الحد من عمليات السرقة. من قمصان تنتظر أصحابها، إلى فساتين لا تكشف الكثير، وعشرات الملخّصات لطلاب لم يتقدّموا لامتحاناتهم، ومطابخ لا تتشابه إلا بنفاد الطعام (لا طعام فاسدا على الجبهات، جنودنا الجوعى على طرفي القتال استهلكوا كل الطعام)، وحمامات غير قابلة للاستخدام، تشعر بروح البيت كخيط غير مرئي، يسخر منك كلما حاولت لمسه، لكنه هنا، كروح لا تغادر، إلا إذا دمر البيت عن بكرة أبيه. في الأبنية المهدمة، لا أرواح تعيش.
صرتُ أعبث بمحتويات البيوت شارداً. لا تستطيع هنا أن لا تشك بالثورة. لماذا كل هذا الخراب؟ بعض البيوت مقفل بحبل مربوط بين دفتي الباب، بيت آخر بسلسلة معدنية. مطبخ أحمر داكن، وغرفة نوم الأطفال زرقاء وصفراء. شعرت برجل في بداية الثلاثينات، وزوجته في آخر العشرينات، يتناولون العشاء بهدوء. انسحبت بهدوء، وأغلقت الباب. لم أدخل بيتاً آخر بعده. في الشارع، بين المسلحين الملتحين ، بابتساماتهم الصافية، يطالعنا ‘كشك الغرام’. على الجانب الآخر من الطريق، لافتة ‘سنعود بعد قليل’. شجرة توت صغيرة وسط الخراب، تدعوك للابتسام. صوت رصاص عادي يرافق اكتشافي لها. أطفال يلعبون في بركة مياه آسنة على بعد أمتار قليلة. عاد بعض المدنيين.
حلب، حقد الطائرات وقذائف النظام والسكود (السكود، ليس سلاحاً فقط)، وفشل الثوار المسلحين في إدارة شؤونها، يجعلها أشبه بهذه البيوت. لا الروح تغادر، ولا البشر يدركون روح المدينة. سقط النظام هنا، ولم تستعد المدينة روحها.
الكنيسة الأرمنية في الشيخ مقصود مهجورة. بين عشرات المسلحين الملتحين، المبتسمين، القساة كأطفال يلهون بأسلحتهم، منتظرين الموت القادم من الجنوب، تقبع الكنيسة الصغيرة مستسلمة لقدرها. التخريب داخل الكنيسة بسيط، ويبدو أنه لا يتعدى عمليات تفتيش سريعة. لا أثر لتخريب طائفي متعمّد. ألبوم صور لحفلات تعميد، ثوب الكاهن الزاهي الألوان، وكتب باللغة الأرمنية، كلها مبعثرة على الأرض. فقط تماثيل العذراء وصور المسيح على المذبح. شاب في العشرين اخترقت رصاصة قنّاص وجهه، ولكنه ما يزال سليماً. لا يستطيع الكلام أو الابتسام. تعود الحياة تدريجياً هنا، في آخر المناطق المحررة. يحكى أن الشيخ مقصود بأكملها تعرضت لعملية نهب منظمة من بعض فصائل الحر والكتائب الإسلامية. سُرقت بيوت العرب والأكراد والأرمن، لا فرق. تقع المنطقة على تل يشرف على مناطق واسعة من حلب، ما يجعل مشهد الغروب يشي بما لا نريد قوله. طائرات النظام تحوم فوقنا. أين سيصب الطيار حقده؟
في المدينة القديمة، منعتنا الشرطة العسكرية الثورية من استخدام الكاميرا. دخلنا مع سائق تكسي لا تفارقه الابتسامة. ‘أنا ما بطلع من بيتي، وهي الحمد لله عايشين’. الأمور مضبوطة هنا. في الطريق إلى الأموي، ترى المحلات مغلقة بإحكام. يبدو أن الحر والكتائب الإسلامية نجحت في السيطرة على المنطقة، وفي الحد من عمليات السرقة المنتشرة. بالنسبة لي، كان وضع المدينة القديمة أفضل بكثير مما تصورت. بعض الأسواق سليمة تماماً، ولا أثر للحرائق. الخراب محدود. أشار المقاتلون إلى أن بعض الأسواق تعرّضت لقذائف مباشرة، ولكننا لم نكمل طريقنا إليها. مدخل الأموي مخرّب، والمقاتلون المرابطون هناك مضيافون. دار الحديث حول تحريم الدخان من قبل النصرة وبعض الإسلاميين. شرحوا لنا كيف أنه لا يجوز للأجانب أن يفرضوا رأيهم على السوريين. أحد المقاتلين الذي لم يتجاوز الثانية والعشرين، بلحية غير مكتملة وشوارب محفوفة، مع عصبة ‘القاعدة’ السوداء على الرأس، يتذمر من تدمير المقامات وتعامل النصرة مع الحلبيين. لا تأخذنّك المظاهر، أردد لنفسي. هذا المقاتل أكثر انفتاحاً ممن يلبسون ربطات عنق أنيقة. في الجهة المقابلة، المئذنة المهدّمة. سماحة المقاتلين، والشاي الثقيل، الجو الصافي والعصافير، وشبح حلب القديمة الذي يتلبّسنا جميعاً، يجعلنا ننسى للحظات ما الذي يجري. ‘لا تبعّد، القناص بيجيبك هنيك’. أتذكّر الواقع. يكشف قنّاص القلعة صحن الجامع وقلبه وصولاً إلى المنبر. الجامع تحت سيطرة الحر، ولقنّاص النظام اليد الطولى فيه. صورة مصغّرة لما تعيشه المدينة.
في مخيم أطمة، التقينا أبو غالب. أصيب أبو غالب في معركة الإخلاص في حلب، التي سيطر بعدها الحر على أجزاء من الراموسة. أبو غالب في السابعة والعشرين، وكمعظم من التقيناهم من المقاتلين، له نظرة بريئة كطفل ينتظر والدته لتجهّز العشاء. شربنا الشاي، واستمعنا لقصص الفارين من قصف همجي. كان أبو غالب، الأعزب، عاملاً في لبنان قبل الثورة، ويعيل أسرته كبيرة العدد. عاد ليشارك في الثورة ويحمل السلاح. سألته، ‘أحياناً وقت تكون لحالك، ما بتندم؟ ما بتقول يا ريتني ضليت بشغلي؟’ لا. أبو غالب مطمئن وراض. لا أثر لندم في صوته، أو في ابتسامته، أو في حركاته. لم يتلق أية مساعدة من أي طرف كان. حتى عندما لاح بريق أمل، لم يستطع أبو غالب السفر، لأنه لا يملك جواز سفر. تتكرر القصة مع مئات المصابين. لا جواز سفر للفقراء. أبو غالب مصاب برصاصة في ظهره، ويعاني من شلل نصفي. البارحة فقط، حرّك رجله اليسرى قليلاً. يشير لنا أبو باسل بالرحيل. أبتسم لأبو غالب، ‘آخر سؤال، من بعد اذنك. إزا بدك لا تجاوب. شو بدك تعمل بعد ما يسقط النظام؟ أنت شخصياً شو حابب تعمل؟’ ينظر أبو غالب إلى روحي المنهكة. يبتسم بتعاسة. يدمدم ‘الله كبير. فهمت عليي، ما هيك؟ ‘أجيب’ أيه، فهمت’. أقبّله. أشعر أنه يكاد يبكي. أرتجف كطفل ينتظر أمه التي لا تأتي.
لم أفهم. بعض الأمور ليست قابلة للفهم. عشرات الأطفال يتزاحمون على الماء في السكري. أوامر بعدم تصوير المشافي كي لا يقصفها النظام. كلام متواتر عن ‘غنائم’ يبرر السرقات في وضح النهار. أبو حذيفة يضحك بمرح، ويبدو كإرهابي حين ينظر بعيداً. معابر مفتوحة على المجهول، وعيون منقّبة في سواد كالح تفتنني. ناشطون مدنيون يؤكدون، باقون هنا، لا قصف يخيفنا، ولا نصرة.
لم أفهم ما اعتقد أبو غالب أني فهمته. ولكنها ثورة أبو غالب. له علينا أن لا نيأس، حتى لو لم نفهم. له علينا أن نحاول ما استطعنا، حتى لو لم نملك بصيرته. لا بأس، مرايا حلب لا تعكس الصورة الكاملة. هي مرايا لمن لا يبصر بروحه ما يراه المختارون.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية