الشعب الجزائري في اتجاه أن يحقق ذاته. لأول مرة في حياته يخوض مقاومة سلمية، يستلم فيها السلطة ويقرر بها مصيره ومصير النظام القائم الذي استغله لعهود طويلة من الاستقلال الوطني. في ظل النظام السلطوي كان الشعب مجرد كتلة بشرية دهماء، تُوَقِّع عبر الانتخابات المُوَاَفقة على مرشَّح السلطة والموالين لها. فقد كان الشعب مفهوما يراد به تسويغ وجود الدولة، كما تقتضيها الشرعية الدولية. أما في ظل الحراك الشعبي السلمي والمسالم فإن مفهوم السلطة يتغَّير تماما ليصبح معبرا فعلا عن إرادة الشعب في أرقى مستوياته، أي الهيئة الاجتماعية التي تملك زمام نفسها وتقرر مصيرها بنفسها.
عندما يكون الوعي السياسي في أرقى حالاته، أي كحالة لجماعة مكتملة التكوين، بخاصية جوهرية كونها مصدر السلطة، بإمكانها أن تصنع الواقعة في الآن، وتقرر مصيرها في المآل. فالوعي المحكم للشعب هو ما بدأ يظهر في حراك الجزائريين في الميادين والساحات العامة، فلأول مرة تتجلى فكرة العمومية، ليس في تعبيرها عن مجال الدولة ومؤسساتها، بل في ما هو أرقى وأوضح: الشعب مرجع أخير للسلطة. فالقوة السياسة الأولى هي الشعب الذي حقق ذاته ويأمل أن يحقق مؤسساته بشكل مباشر، ويصبح هو المسؤول عنها مسؤولية كاملة وبالقدر الذي يجب فيه أن لا يتخلّى عنها. وعليه، فالحقيقة التي يوفرها مشهد الحراك الشعبي في الجزائر هي أن الشعب مصدر السلطة، فهو يمتلك السلطة السياسية المطلقة، التي بها يقرر طريقة المرور إلى المجال القانوني والمؤسساتي. فسلطته السياسية زمن السلم تختلف اختلافا جوهريا عن السلطة السياسة زمن الحرب. فقد كان الغالب في أنظمة الحكم التي جاءت في أعقاب الحروب والمعارك أن عمدت إلى التصفيات الجسدية والإعدامات، والعقوبات الزجرية والاغتيالات السرية، والإقصاءات السياسية، والأمر يختلف تماما في سياق المقاومة السلمية والحركات السياسية، التي لا تدعو إطلاقا إلى أي عنف، وتقتصر على المعقولية والسلمية ومسايرة الوضع بشكل عادي، وبالقدر الذي لا يحدث الخلل في بنية المجتمع ولا يربك سيرورة التوجه نحو بناء الدولة الديمقراطية.
في ظل أنظمة الحكم السلطوية، ونموذجها الواضح في العالم العربي ما بعد الاستقلالات، بقي النظام السياسي يشتغل بالعقلية الحربية، واستقرت تجربته التاريخية على خلق وصناعة مبررات استخدام القوة، حتى في مواجهة فصيل من شعبه، على اعتبارات جهوية، طائفية، سياسية ودينية… ليس لصيانة الدولة ومؤسساتها، بل لإدامة نظام الحكم السلطوي، القائم على الشخص والعائلة والحزب والمذهب، لكن الأمر يختلف تماما في ظل حراك ماهيته النزعة السلمية منذ البداية، وفي السياق إلى النهاية، يتمكن الحراك بما يملك من قوة سياسية مطلقة أن يسوي الأوضاع القائمة بالقدر المعقول، بعيداً عن روح الانتقام وإنزال العقوبات المادية، ليس لأن هذا مناف لطبيعته السلمية فحسب، بل لأن إرادته السياسية لم تتطور بعد إلى حالة قانونية. فالقانون وحده الذي يفرض صفات الجريمة ونوعية العقوبة المناسبة، كل ذلك في ظل مؤسسات دولة الحق والشرعية، التي تتطلب المعاينة والتحقيق، مخافة وقوع المظالم والأخطاء التي لا يمكن أن تغتفر، لأنه كثيرا ما يرتد التاريخ على أولئك الذين أخطأوا في حق شعوبهم ومناضليهم، كما حدث في الجزائر وغيرها من الدول غير الديمقراطية.
النظام السلطوي في الجزائر، وفي العالم العربي، لم يسعف نفسه بالآليات التي تمكنه من تلافي المنزلقات الخطيرة المهلكة له ولشعبه، فلا يستطيع أن ينزل العقوبة بنفسه، معصوب العينين لا يرى خارج الحكم ومعصوما من الخطأ، على الرغم من أنه قائم على خطيئة أصلية، وهي امتلاكه للحكم بصورة غير شرعية. فقد استولى على الحكم بطريقة ضَرْب الدولة، واستحوذ عليها كمالك شخصي، وبقي كذلك ينتظر من يستولي على الحكم بالطريقة نفسها أي الانقلاب، لأنه تمادى في عدم تسليم السيادة إلى الشعب يمارسها عبر مؤسساته التي يختارها.
المقاومة السلمية والسياسية تلتمس دائما النزعة الإصلاحية لا الثورية، أي احترام المرافق القائمة وتحويلها إلى فائدة الشعب
وهكذا إمعان السياسة في الحكم في غير عصرها، أفضى إلى ما يعرف بالثورات العربية، التي لا تزال تعاني من غياب المخارج للوصول إلى الخلاص والنجاة النهائي. لعلّ الحراك الشعبي الذي يجري في الجزائر يمثل المخرج السليم والصحيح من المعضلة الكبرى، التي عنوانها البارز مشكلة الحكم العربي الحديث.
إن الشعب في حراكه السلمي، وليس الحربي أو الثوري، يؤدي وظيفة سياسية بامتياز في لحظة زمنية مكثفة بعِبَر التاريخ ودُرُوسه، فوظيفته أعلى من السلطات التقليدية المعروفة التشريعية والقضائية والتنفيذية، فإرادة الشعب أوسع من أن تضيق بها السلطات الثلاث، بل هو الذي يقرر ما سوف تكون عليه مؤسسات الدولة بعد عصر الحراك.
إرادة الشعب لحظة تتسع للعفو وسعة الصدر والسماحة والمغفرة وتسوية الأزمة بمفردات من قاموس السلم والمسالمة، وهنا بالضبط تجد مقولة «العفوعند المقدرة» التي لا توفرها أي لحظة إلا لحظة، وجود ممارسة الشعب لسلطته فعلا. ويجب أن لا يغرب عن البال أن سِلْمِية الحراك ترمي في المنطلق والسياق والغاية إلى تجاوز السياسة في عهدها القديم بوسائل ومفاهيم سياسية في عهدها الجديد، بالقدر الذي تحمي مؤسسات الدولة من أي سطو واستيلاء من خارج سلطة الحراك.
المقاومة السلمية التي يُجَسّدها الحراك لا تقتصر على الشعب فحسب، بقدر ما تتسع إلى نظام الحكم الذي يفقد تباعا كافة صلاحياته وعنفوانها، حيال لحظة الحراك، لأنه لا يملك أي سلطة، وأن ما بقي له من نفوذ وهيبة وحكم هو ما وافق عليه الشعب في الساحات والميادين العامة. فكل المؤسسات، بما في ذلك سلطة الجيش في حالة وقف التنفيذ، إلى أن تمر مرحلة الأزمة بالكامل. فعندما تكون إرادة الشعب مصدر السلطة، فليمارسها في إطلاقيتها، ويُفْتَرض أن ما بقي من مؤسسات، فهي فقط مضطرة إلى مجايلة الحراك إلى آخر مراحله، لتبدأ مرحلة أخرى هي دولة المؤسسات القانونية، وعلى رأسها الدستور.
نوضح أكثر، فنقول إن ما حققه الحراك الشعبي إلى حد الساعة، عظيم ليس بمعنى ما ولكن بكل المعاني، وقد حققه في محايثة لسيرورة التاريخ التي لا تخطف الزمن ولا تحرق المراحل، لأن كل مطالبه تتحقق لتعبر عنه، بأنه المالك الفعلي لإرادة التغيير وتقرير المصير. حقيقة، الحراك لا يكف عن التدفق بالمعاني والدروس والعبر، لعل أسماها وأعظمها، أن الحراك حوّل الجيش إلى آلية لمرافقته في تنفيذ مطالبه وتحقيقها، ضمن المدى المعقول، يحترم الحقب الزمنية ويراعي في الوقت ذاته عدم سقوط المؤسسات، وتفادي الفراغات الدستورية والقانونية والمؤسساتية. المقاومة السلمية والسياسية تلتمس دائما النزعة الإصلاحية وليس الثورية، أي احترام المرافق القائمة وإعادة تدويرها وتحويلها إلى فائدة الشعب، لأنها بنيت أصلا من مال الشعب. ويجب أن لا نطوي هذا المقال قبل الإشارة إلى ضرورة مراعاة احترام المؤسسات في عهد سلطة الشعب وليس سلطة النظام البائد، مخافة ما قد ينجر عن الأزمة من مضاعفات مفاجئة، ولا يجد الشعب ما يسعف به نفسه لتداركها وتجاوزها.
كاتب وأكاديمي جزائري