عندما خسرت القدس «شرقها»

حجم الخط
0

أصدرت سلطات الاحتلال الاسرائيلي في السادس من شهر أغسطس 2001 أمرا بإغلاق عدد من المؤسسات والجمعيات الفلسطينية، التي كانت تعمل في القدس وتخدم القضية الفلسطينية والمجتمع المقدسي في ميادين مختلفة. ولئن اعتبرنا أن «بيت الشرق» كان أهم هذه المؤسسات التي استهدفتها أوامر الإغلاق الإسرائيلية، فستبقى خطورة القرار الإسرائيلي متجسّدة باستهدافه جميع بنى المجتمع المدني المقدسي ومحركاته، الاجتماعية والسياسية، ذات الهوية الفلسطينية المستقلة عن «سرة» مؤسسات الاحتلال، الوزارية والبلدية، وتأثيرها المباشر.
إلى جانب أمر إغلاق «بيت الشرق»، صدرت أوامر بإغلاق عدد من المؤسسات التي كانت تقدّم الخدمات في ميادين الثقافة والعمران والصحة والسياحة والتربية والتعليم والشباب والرياضة، وكذلك ضد الجمعيات التي كانت تعنى بالدراسات الفلسطينية والتأريخ والتوثيق والإحصاء وجغرافيا المدينة والوطن. لم يكن القرار الإسرائيلي مجرد تعبير عن نزق احتلالي عابر، أو مجرد تجسيد نمطي للشر المطبوع في جينات الاحتلال، أو مجرد خطوة قمعية انتقامية أخرى بحق المدينة وأهلها؛ فقرار حكومة إسرائيل كان يعكس عمق التغيير الذي طرأ على رؤيتها حيال سبل حل النزاع مع الفلسطينيين بشكل عام، وحيال موقفها ازاء مصير القدس ومصير مجتمعها الفلسطيني، بشكل خاص. لقد نجحت إسرائيل بتنفيذ قرارها بسهولة نسبية؛ إذ لم تجد من يقاومه أو يتحدّاه، لا محليّا ولا فلسطينيا ولا عربيا ولا إسلاميا ولا عالميا. لقد مهّد نجاحها في إغلاق تلك المؤسسات إلى ولادة واقع اجتماعي وسياسي جديد في المدينة، وظّفه قادة التيارات الصهيونية اليمينية القومية المتطرفة، والدينية المتزمتة في خدمة مشروعهم لبناء إسرائيلهم الجديدة، حيث القدس قلبها، وهيكلها سدرة المنتهى.

حاصرت إسرائيل القدس وأحاطتها بالحواجز العسكرية من جميع جهات الريح.. كان هدف حصارها إبعادها عن عمقها الفلسطيني وقطع تواصل الفلسطينيين الذين كانوا يؤمّونها

تذكّرت هذه التفاصيل عندما دعتني إحدى مؤسسات البحث والدراسات الإسرائيلية القائمة في القدس الغربية للقاء مجموعة من الشباب الفلسطيني المقدسي، الذين انضموا إلى مشروع ترعاه تلك المؤسسة، وتهدف من ورائه لصقل وبناء شخصية القائد الفلسطيني الجديد. أراد المنظمون أن أحدّث المشاركات والمشاركين، وجميعهم شباب في مقتبل العمر، عن تجربتي في القدس، القدس التي جئتها طالبا جامعيا قبل خمسين عاما، ثم عملت فيها محاميا لأكثر من أربعة عقود، وقدس هذه الأيام. قبل اللقاء بأيام كان قد توفي صديقي توفيق أبو رحمة؛ وهو فلسطيني من مدينة شفا عمرو جاء إلى القدس في مطلع سبعينيات القرن، وشارك مع عدد من الشبان الجليليين في تأسيس «مكتب صلاح الدين» للنشر. سألت الحضور إن كانوا قد سمعوا أو قرأوا عن هذه المؤسسة وعن مؤسسيها، وأشهرهم الصحافي والكاتب إلياس نصرالله الذي اصدر قبل بضعة أعوام كتابا سماه «شهادات على القرن الفلسطيني الأول» وضمّنه فصولا عن القدس التي عاش فيها آباء وأجداد المشاركين أمامي. كان واضحا أنهم لا يعرفون كثيرا عن تلك القدس، ولم يسمعوا «بمكتب صلاح الدين» الذي شكّل نشاطه حينها مشهدا لافتا في الحياة الثقافية والسياسية في القدس، وتحوّل إلى عنوان لطباعة ونشر الأدبيات اليسارية التقدمية المحلية والعربية، التي كانت طباعتها محظورة في تلك الأوقات؛ وإلى ملتقى يلمّ وجوها من أنحاء فلسطين المناضلة ذلك الحين. طرحت أمامهم مجموعة من أسماء أعلام المدينة وقيادات فلسطينية محلية، وعناوين لفصول ومحطات في مسيرة نضال أهل المدينة، وأسماء أسرى عذبتهم إسرائيل في سجونها، فتبين أنهم يجهلون معظم من وما ذكرت، وأنهم في الواقع لا يعرفون كيف حافظ ونجح مجتمعها، قيادات وناسا، بإبقاء شرقها مدينة «فلسطينية الوشم» والهم والصقل. لقد كان أكبرهم أصغر من عمر أوامر إعدام مؤسسات المدينة التي صدرت أول مرة في اغسطس لمدة ستة أشهر، ثم جددتها إسرائيل منذ فبراير 2002 جرعة وراء جرعة طيلة ثلاثة وعشرين عاما والمدينة تمارس غفوتها الطويلة.
اخترت، والحال كما وصفت، أن أبدأ معهم بقصتي مع القدس التي بنت، مع عاشقها الأبدي فيصل الحسيني «بيت الشرق» وانبتت قيادات صانوا شرف المدينة؛ فكل شيء في تلك القدس كان فلسطينيا، كما كنا نشتهي ونريد. كانت روائح أسواقها تتبدل من أحلى إلى أحلى؛ بيد انها كانت تحافظ في كل حالاتها على أصالتها وعنفوانها. كان كل شيء فيها بسيطا كالصبح، وكانت وجوه تجّارها باسمة وسمراءَ كالأرض. جرَحها خنجر الاحتلال وأدماها، لكنها لم تسقط تماما، بل وقفت كفرس الأساطير؛ حتى إذا ما وضعْت سبّابتك على رسغها، كنت تشعر بنبض السماء وتعرف أنها كالأم ستحمي أبناءها دوما وسترضعهم الحب والكرامة. كانت قدسا ومعبدا للعشاق وللثوار وللزاهدين، وكانت تتراكض تحت قناطر حاراتها الظلال حتى تصير تناهيد وياسمينا، ويأوي اليمام تحت قبابها كيما ينام. كانت المدينة تكره الغاصبين والمارقين والدجالين، أغرابا كانوا أم من بنيها، وكانت تحبّ «مسيحها» وتغتسل بنور هلالها. كان «المقدسي» صاحبَ هوية وانتماء، وعطرا يمسد جبينها ويسقي حجارة أسوارها. كانت المدينة الوجع والفرح، وكانت الخيمة وكان في وسطها عماد من صخر لا يفل. قامت إسرائيل مباشرة بعد احتلالها بضمها؛ وخططت لكسرها ولتهجير أهلها؛ فقمعت وأغوت وباعت ونفت واشترت وصادرت وانتهكت وأبعدت وهدمت واعتقلت.. لكن المدينة لم تستسلم؛ لأن أهلها نذروا أن تبقى مدينتهم تاجا فلسطينيا على رأس التاريخ وعروسا تراقص الفجر على صهيل «براقها» وتتعطر بدماء من سار على دروب آمالها وآلامها.
حاصرت إسرائيل القدس وأحاطتها بالحواجز العسكرية من جميع جهات الريح.. كان هدف حصارها إبعادها عن عمقها الفلسطيني وقطع تواصل الفلسطينيين الذين كانوا يؤمّونها عاصمة لأمانيهم وعنوانا لحجيجهم السياسي والديني. لم تغِب مآرب حكومات إسرائيل الخبيثة عن ذهن قيادات المدينة، فقاموا، وعلى رأسهم فيصل الحسيني، ببناء وبتفعيل منظومة كاملة من المؤسسات التعليمية والثقافية والاجتماعية والسياسية والقانونية، ووضعوا جميع طاقاتها في خدمة المجتمع المقدسي، هادفين إلى توطيد معالم الهوية الجمعية المقدسية الفلسطينية، وإلى تعزيز اللحمة ومشاعر الانتماء ومقومات البقاء. كان «بيت الشرق» عنوان الصمود والبناء ومقاومة سياسات الاحتلال الإسرائيلي، وتحول، بإصرار وحنكة وحكمة فيصل الحسيني وبدعم القيادة الفلسطينية، وبتلاحم وإسناد أهل المدينة وقيادات جميع الشرائح والنخب الوطنية، إلى رمز وطني معنوي، أقرّت به معظم دول العالم، وإلى عنوان سياسي كبير ومؤثر، وإلى قلعة يجد المواطن الفلسطيني بين جدرانها أمنه ويجدّد لها عهده ويفديها إذا ما استدعت الحاجة إلى ذلك، كما حصل فعلا عندما حاولت حكومة بنيامين نتنياهو عام 1999 إغلاق «بيت الشرق»، فهبّ أهل القدس وتمترسوا مع قائدهم داخل القلعة وحموها بأجسادهم وبعزائمهم، حتى أجبروا الإسرائيلي على التراجع عن قراره.
كانت تلك القدس الصابرة المتكاتفة الهاجسة المتألمة الحالمة النظيفة الجميلة الغزالة النمرة العروس والمقاومة. كانت.. لكنها لم تعد؛ فالقدس ابنة العقد الثالث بعد زمن فيصل ورفاقه صارت تفتش عن قبة تربي تحتها حلما عساه يفيق، ذات يوم، ويصير أملا. في القدس الجديدة صارت الأسواق تبكي أهلها وتهرب الحجارة من غزاتها؛ وفي القدس الضعيفة صار المقدسي المستعدّ «تحفة» قد نجدها تحت قنطرة خائفة وحزينة. وفي القدس المهزومة صار بخور الكنائس، بعد أن حوّلها بعضهم من «بيوت للرب إلى مغائر لصوص»، يحرق في طقوس الباعة والسماسرة والصرافين الذين يملؤون الهياكل والمنابر، وفي القدس التائهة والخائفة صار الدجالون يوقعون صكوك الغفران ويمسكون الرايات ويعلقون نياشين الشرف على صدور (الأسخريوطيين) على صنوفهم. لقد رحل فيصل الحسيني في آخر شهر مايو 2001؛ وبعد أقل من سبعين يوما انقضّت حكومة إسرائيل وأذرعها على «بيت الشرق» وعلى معظم المؤسسات والجمعيات الفلسطينية في القدس وأغلقتها، ثم مضت تنفّذ سياساتها المبرمجة حيال المدينة ومواطنيها. بدأوا فكثفوا زحفهم الاستيطاني وبتقطيع ما تبقى من مدينة عن طريق بناء شبكة شوارع تخدم المستوطنات التي زرعوها في قلبها، وعلى جميع أطرافها. جرى ذلك وقد قررت إسرائيل، بعد هدم المؤسسات واتساع فوهة الفراغ القيادي واختمار عوامل أخرى، «ابتلاع» المجتمع المقدسي وافتراس أفراده. نجحت إسرائيل بتنفيذ مخططها وسجلت تقدما على معظم جبهات المدينة فسقطت المفاصل، وسطت إسرائيل بالكامل تقريبا على قطاعات الصحة والتعليم والسياحة والخدمات والرفاه والبناء، حتى بات المواطن المقدسي عاريا لا سقف وطنيا يحميه، ومهزوما أمام منن الاحتلال وبراثن مؤسساته. هكذا وصلنا إلى القدس الملتبسة، التي خسرت «شرقها» وخواصرها، وخلّت شبابها «يحجّون»، بشكل عادي وطبيعي، إلى «غَربها» كي يتعلموا الرماية في الجامعات العبرية، وفنون القيادة في معاهد الدولة المحتلة، ويعودون إلى مجتمع ما زال يغط في غفوته ولا يعنيه كيف رحل الشرق عن مدينتهم وتاه شبابها.
حدثتهم لأكثر من ساعتين، فاستزادوا، كانوا حزينين ومتحفزين؛ والخلاصة أنهم استوعبوا أن قصة سقوط «البيت» تختزل كل الحكاية، وأنه عندما يموت» الفارس العاشق» سيقصّ الغريب ضفائر عروسته، وعندما يغفو الناطور ستسقط القلعة.

كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية