يبدو أننا نعيش حالة جديدة يصعب تقبلها في ذهنية من نشأ في النصف الثاني من القرن العشرين، ذلك القرن الذي هيمن فيه العقل على الخطابات المعرفية، وتم فيه تفكيك الخطابات الفلسفية، وإقصاؤها إلى دون عودة. إننا اليوم أبناء تلك القطيعة الأبستمولوجية مع كل ما يعيش خارج نطاق التفسير العقلاني والعلمي، إذ تم إقناعنا بصعوبة تقبل تفسيرات للطبيعة والوجود الإنساني خارج نطاق العقل، فعقلنا البشري أحكَـم ـ هناك في مختبرات الغرب- قبضته على كل الظواهر الطبيعية، وأشبع الجسد الإنساني تفكيكا وتحليلا وتشريحا، ليستخلص لهذا الجسد الدواء والترياق تجاه أي عطب قد يصيبه خلال مسيرة حياته، فحياته مهمة لأنها تخدم أولئك الذين يتربعون على رأس الهرم، زعماء الاقتصاد في عالمنا، فالاقتصاد اليوم سيّد الخطاب، وكما يقول ليوتار في كتابه «في معنى ما بعد الحداثة»: «فقدت المعرفة طابعها الفلسفي والكوني، واليوم كل معرفة لا تُنتج إلا بغرض بيعها». لقد طالت النفعية معظم الخطابات حتى وصلت حقول الدراسات النقدية، فنجد في نظرية الأدب توجها نحو مناهج أكثر قربا من الواقع، كالمنهج الأيكولوجي (النقد البيئي) Ecocriticism 1990 الذي يربط الأدب بمفاهيم نفعية تتعلق بالطبيعة والبيئة، ويحثّ الكتّاب على تعزيز علاقة الأدب بالواقع المادي المحيط بالإنسان.
ثمة إذن علاقة نفعية تحكم عالمنا طالت أكثر النتاجات تجريدا، وكان من أهم مظاهرها إقصاء النزعة الإنسانية والإعلان عن ولادة إنسان جديد يتحكم بجسده ورغباته، بعيدا عن أي سلطة أو أيديولوجيا، إنه إنسان يعيش من أجل بناء عالم جميل، يزهر فيه كزهرة تنضج ثم تذبل فتموت، ولا حاجة لنا بإيجاد أي تبرير أو غاية لهذه الوردة، يكفينا أن نستمتع بجمالها. وفي ظلّ انشغال العالم باستهلاك هذه الوردة الجميلة، واستخلاص آخر قطرة نافعة تدرّ الأرباح من رحيقها، تكشّف لنا هذا الفيروس الذي سمي في بداية الأمر بـ (كورونا) ثم انتقى له العقل البشري اسما يميزه فبات يعرف بكوفيد 19. بدأ بعيدا في الصين، تلك الصين البعيدة التي لم يخطط معظمنا لزيارتها ولا تعلم لغتها، فهي غريبة وبعيدة عن طموحات الكثيرين. بدأ الخطاب الإعلامي يفكك المنظومة الثقافية والشعبية للصين، بدءا من المطبخ، مرورا بأسلوب الحياة، ولم يغفل عن انتقاد القبضة الحديدية للسلطة، تلاه تلميحات عن تبعات اقتصادية لفيروس (الخفافيش) اللعين، هيمن خطاب ساخر من النمط الغذائي للصينيين، وحرص نمط آخر على تفكيك المقولات المتوارثة، التي تحث على أكل الحيوانات البرية، وتفتيتها من أجل منحها طابعا أبستمولوجيا، يمتد حتى تراث الأجداد.
إننا نعيش لحظة خلخلة اليقين، فإيماننا بالعقل الإنساني ينهار شيئا فشيئا، نراهم يتصارعون على شحنات من الكمامات الطبية، وملابس الوقاية الطبية، بل إن بعضهم يرفض الحجر ويتهم السلطات باتباع أساليب العصور الوسطى.
غطى التندر والسخرية معظم الملصقات سريعة الانتشار على مواقع التواصل الاجتماعي، ثم لاحقا تحدثت التقارير عن العنصرية التي يتعرض لها الصينيون، وظهرت تسجيلات تكشف عن بعض المواقف العنيفة تجاههم في الشارع أو وسائل النقل. فهذا فيروسهم (هم) ولا يعنينا.
تهدأ السخرية عندما يتدخل الخطاب الاقتصادي ليتنبأ عن حال عالمنا غدا، وتتردد العبارة الجديدة: «العالم قبل كورونا ليس كالعالم بعده». ننصت أكثر، فعندما يطال الأمر العمل والمال، تهدأ كل الخطابات.
خطابات تهيمن علينا ونحن في منازلنا نستهلكها ونعيد توجيهها في رسائل للأصدقاء، أو قد نعيد نقاشها معهم. لا نمتلك حتى هذه اللحظة أي تفسير علمي دقيق لما يحصل، إنها فقط اللغة التي تكوّن خيالنا وتحفّز توقعاتنا، كما حفّزت المتكلمين على الشاشات. إن تسارع الخطوات وإغلاق المدارس والمطارات، وإيقاف الناس عن أعمالهم اليومية، فتح الباب أمام الخيال الإنساني لينتج خطابين متناقضين، خطاب الهلع، وخطاب السخرية والتهكم، وكلاهما انعكاس لحالة سيكولوجية تشفّ عن اختلال التوازن الإنساني. يخرج السياسيون من بيوتهم ليصرحوا أمام شاشات التلفاز، تخاتل المقولات، تعلو الاتهامات، يتفقون جميعا على أمر واحد: «إغسل يديك بالماء والصابون، واجلس في بيتك!» هذا الأمر البسيط لا يقنعنا، فمنذ الإعلان عن هذا المرض، مرّ كلّ منا باللحظة المعرفية الفريدة التي طرحت سؤالا بسيطا: «أيعقل أن أولئك المتقدمين، الذين وصلوا إلى القمر، وشيّدوا محطات هناك، غير قادرين على تقديم حلّ لنا، ألم يعلنوا أنهم سيطروا على الطبيعة منذ عقود طويلة؟».
إننا نعيش لحظة خلخلة اليقين، فإيماننا بالعقل الإنساني ينهار شيئا فشيئا، نراهم يتصارعون على شحنات من الكمامات الطبية، وملابس الوقاية الطبية، بل إن بعضهم يرفض الحجر ويتهم السلطات باتباع أساليب العصور الوسطى، نعم إن هذا (المعقول) الفريد الذي نواجهه، يخيفنا أكثر من الفيروس عينه، إننا محجورون في المنازل، نقف أمام أسئلتنا الكبرى، نعيد ما تعلمناه عن تاريخ النهضة الأوروبية، وتطور العلوم مرورا بالثورة الصناعية، نرميها جانبا، ونذهب إلى المطبخ لنعد كعكة لذيذة، فمقاديرها لن تخذلنا كما خذلتنا مقادير العالم الذي وثقنا به. إن صناعة الكعكة وفق مقادير محددة وطريقة واحدة يذكرنا بالأمان الذي كنا نعيشه في الماضي، عندما تخيلنا أنّ مقادير هذا العالم مضمونة ومحسوبة.
-كاتبة سوريا
أحسنتم النشر يا دكتورة أماني.. بارك الله بكم