تخطئ أمريكا وإسرائيل من جديد خدمة لمصالح ضيّقة. وكلتاهما انطلقت من رؤية عمياء مصدرها الهيمنة والرغبة في التوسّع، ليتمّ عزل الظواهر السياسية عن أسبابها التّاريخية. مع ذلك يظلّ الفلسطيني يُقاوم ويواجه كلّ أشكال الترهيب والعنصرية ومحاولات كسر الإرادة الجمعية، وتقويض الرغبة في العيش من قبل الكيان الصهيوني، الذي يسعى لشرعنة الاحتلال وتثبيت أقدامه في أرض ليست له.
ما يسمّى «دولة إسرائيل» ليس لها دستور ولا تعترف بالحدود، وتُقيم فوارق راديكالية بين اليهود وغيرهم في استجابة لقوانين بدائية تُديرها في المقام الأوّل سلطة دينية تخضع لوصايا الأحبار المحافظين والمتزمّتين. لقد توّج تحالف المال والسياسة العسكرية بإعلان قيام الكيان الاسرائيلي سنة 1948، وهو الهدف الذي عملت عليه الماسونية اليهودية التاريخية وتشكّلاتها الصهيونية. وقد جسّد المبشّرون التوراتيون أغرب أشكال الدّجل السياسي الديني في العقود الأخيرة وما زالوا، خاصّة مع تطوّر الماسونية إلى حركة الصهيونية العالمية، التي ضمّت كبار السّاسة الغربيين المسيحيين واليهود.
نسج الصهاينة السياسيون تلك الأكذوبة التاريخية التي تقول إنّه لم يكن هناك فلسطينيون يعيشون في أرض فلسطين. وإلى الآن، يعمل اللوبي الصهيوني داخل الأوساط اليمينية المسيحية الجديدة، على أن يوافق الكونغرس بشكل دائم على أهداف إسرائيل السياسية والتوسعية، وأن يغضّ الطّرف عن مشاريع الاستيطان، ويضخّ المال، ويشحن السلاح نحو تلّ أبيب، إضافة إلى الغطاء الدبلوماسي في المنظمات الدولية الذي يضمن تبرير أي عمل عسكريّ إجرامي تقوم به إسرائيل، ولا يهمّ إذا ما ارتقى إلى جرائم ضدّ الإنسانية، أو جرائم حرب، أو إبادة جماعية وتطهير عرقي، كما يحصل الآن. في الأثناء، أصوات الاحتجاج ضدّ الإرهاب الصهيوني، تُدان بشكل صارخ ضمن خطّ الدفاع والجوقة التي تكيل بمكيالين. وبات واضحا أنّ الذين يشجبون الإرهاب الدولي، ولا يذكرون إسرائيل هم منافقون بالمعنى الأوفى للكلمة. فمثل هذا الكيان الاستيطاني جنبا إلى جنب مع الولايات المتحدة الأمريكية، عطّلا الإجماع الدولي الواسع لإجراء مفاوضات تؤدّي إلى الاعتراف المتبادل على أساس حلّ الدولتين، هذا التنازل الكبير الذي تختلف بشأنه الآراء وتتباين المواقف سدّت أمريكا وإسرائيل طريقه في كلّ منعطف، على مدى سنين من التّاريخ السياسي المعاصر، في جلسات الهيئات الأممية، خاصة ما يسمى مجلس الأمن الدولي. الدول الاستعمارية استخدمت مصطلح الإرهاب لتبرير قمعها للشعوب المستعمَرة بعد كلّ فعْل مقاوم يُواجه الاستعمار والغطرسة، حدث ذلك مع المستعمرين الفرنسيين أثناء المقاومة الجزائرية، وكذلك استخدم البريطانيون المصطلح ذاته مع بورما وماليزيا وفلسطين. وبرعت أمريكا بطبيعة الحال في استخدام الإرهاب كأداة لإدامة هيمنتها في كلّ مكان، وليس مستغربا حينها أن يتمّ وصْمُ حركات المقاومة الوطنية لصدّ أشكال الهيمنة وسلب الأرض والموارد بالإرهاب. دأبت أمريكا راعية كيان الاحتلال على تصنيف من يرفض عنفها ووحشيتها إلى جانب كيانها الغاصب، وما تأتيه من إجرام يتنافى ومعايير حقوق الإنسان ويُناقض جميع الأعراف الإنسانية ولا يأبه للقانون على أنّه من أطراف محور الشرّ.
ما زال الشرق الأوسط ينطوي على أكثر المشاكل تعقيدا، وهو المُبتلى بعدم الاستقرار المزمن نظرا لكونه موقع تقاطع المصالح الاستراتيجية
مفارقة في النظر إلى الشعوب وتصنيف البشر سبق وادّعى في سياقها شيمون بيريس، وغيره من القادة الصهاينة أنّ بحثهم عن جنودهم المخطوفين يعبّر عن سلوك تجاه قيمة الحياة الإنسانية وكرامتها. في الوقت الذي يتمّ فيه القتل والتدمير والاعتقال وممارسة التّعذيب على النساء والرجال من الفلسطينيين، هل الدعم الأمريكي اللاّمشروط لإسرائيل مصلحة قومية أمريكية؟ يبدو أنّ هذا التساؤل أصبح محل طرح في الداخل الأمريكي يعكسه زخم الاحتجاجات والغضب المواطني. فقد دأب الإعلام الأمريكي على عدم كشف حقيقة تأثير الحروب الخارجية والإنفاق العسكري على حياة المواطن الأمريكي، وبالتّالي تغييب وعي الجماهير، بشكل حوّل هذا الإعلام إلى أداة لتفريغ المواطن الأمريكي من الداخل وإعادة صياغة تطلّعاته، وفق أجندات يُتّفق عليها مسبقا، وجعله لا يُميّز صدق الأخبار من كذبها، ولا أيّ شكل من التحيّز المفرط والاستخدام المقصود لمصطلحات بعينها من قبيل الارهاب الإسلامي، ونعت حركات المقاومة بالإرهاب وتشويه القضية الفلسطينية، وقلب المعادلات التي تجعل المحتلّ بريئا والمدافع عن أرضه إرهابيا. يبدو أن شيئا ما تغير في سياق حرب الإبادة الهمجية التي ترعاها واشنطن، وتطلق يد كيانها الإرهابي للقتل والتشريد. فالجماهير في كثير من الولايات الأمريكية تتظاهر بشكل متواصل ضد الحرب والدعم الأمريكي المفرط، مع ذلك يتمسك السياسيون الأمريكيون بدعم إسرائيل باعتبارها كيانا مواليا وعميلا مفيدا جدّا للولايات المتحدة، تُستخدم كذخر استراتيجي في الشرق الأوسط. هذا في كثير منه نتيجة لما يمتلكه اللوبي الإسرائيلي في أمريكا من نفوذ استثنائي وقدرة على توظيف النظام السياسي الأمريكي. وهو ما يفسّر العلاقة الحميمة بين إسرائيل والولايات المتحدة ودرجة الموالاة لإسرائيل من قبل الإدارة الأمريكية المتعاقبة. كما يجري تصوير إسرائيل على أنها دولة ضحية تدافع عن نفسها، ديمقراطية، متعاطفة ومتسامحة. وقد عمل التيار الليبرالي في الغرب على تصدير مثل هذه السردية وتناسى العالم جرائم إسرائيل ومجاهرة قادتها بالغزو والهيمنة. الجميع يشاهد الفلسطينيين وهم يقاومون دفاعا عن أرضهم وعرضهم وكرامة وطنهم وعزّة مقدّساتهم. والعالم لم يلتفت إليهم، بل ترك آلة القتل الإسرائيلية تُبيد الكثير منهم وتُقيم المجازر وتهدم البيوت وتفتكّ المزارع والأراضي والقرى أكثر من ذلك، فوجهة النظر الغربية لا ترى إلى الآن في ما تفعله إسرائيل إرهابا. فالقتل والتنكيل وتعذيب الأسرى في السجون ومصادرة الأراضي وهدم البيوت، ورفض تنفيذ قرارات الأمم المتحدة وتوصيات المحكمة الدولية، وعدم الالتزام بأي من المواثيق الدولية، كلّ ذلك ليس تعبيرا عمليا عن الإرهاب من وجهة النظر الأمريكية الغربية، بل تصبح مقاومة الاحتلال إرهابا، هكذا ينكشف زيف مبادئ السياسة الدولية التي تتنكّر للأعراف الإنسانية وتكيل بمكيالين وتتلاعب بالقوانين الدولية كما تشاء. ما زال الشرق الأوسط ينطوي على أكثر المشاكل تعقيدا، وهو المُبتلى بعدم الاستقرار المزمن نظرا لكونه موقع تقاطع المصالح الاستراتيجية، فيه لم تهتمّ الولايات المتّحدة يوما بفلسطين ولا بكل شعوب المنطقة، بل حرصت على دعم الحكومات الديكتاتورية، وضمان بقائها في السلطة ضدّ تطلّعات شعوبها. ركيزتان أساسيتان للسّياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط، أوّلها ضمان أمن اسرائيل وتفوّقها العسكري، وهو ما يبرّر كلّ ما تقوم به الولايات المتحدة سياسيا وعسكريا ودبلوماسيا منذ عقود، وقد ازداد اتّضاحا ضمن معركة طوفان الأقصى، وثانيها أن تضمن واشنطن لنفسها تدفّق النفط من منطقة الخليج، وتحديدا من المملكة العربية السعودية التي تُرتب لها تطبيعا مؤجلا مع كيان الاحتلال. متى يدركون أن المنطقة لن تهدأ ما بقيت المأساة الفلسطينية أزمة تُدار لتبرير القوّة والعسكرة والإخضاع في غياب تامّ للعدالة الأخلاقية وتجاهل لحقّ الشّعوب في تقرير مصيرها واسترجاع أوطانها.
كاتب تونسي