لم يبدع أصحاب التمييز العنصري والهويات الصافية والعرقية المقيتة، الشيء الكثير منذ القرن السادس عشر، أو ما يسمى أوروبياً بالقرون الوسطى. كل شيء بدأ عندما خيّرت الملكة إيزابيلا في سنة 1492، مباشرة بعد سقوط غرناطة، المواطنين الأندلسيين، الموريسكيين (مسلمي الأندلس) والمارانيين (يهود الأندلس) بين المطرقة والسندان: التمسُّح القسري والبقاء، أو الطرد في حالة الاستمرار في الدين الأصلي (الإسلامي أو اليهودية) ومغادرة جزيرة أيبيريا بعد الانتصار في حروب الاسترجاع. وبدأت الملكة الكاثوليكية في مطاردة كل من لم يكن على دينها، وسخرت آلاف السفن لعمليات الطرد نحو أراض لا علاقة لهم بها سوى أنها أرض الإسلام لا أكثر. قبل أن يأتي الملك الإسباني فيليب الثاني في سنة 1609ويرغم حتى البقية التي اعتنقت الدين المسيحي على الخروج والرحيل، بعد أن أصدر فرماناً يتم بموجبه طرد كل من له في سلالته العائلية مسلم أو يهودي. وكانت واحدة من أكبر عمليات التهجير العرقي والديني للتخلص من كل من ليس إسبانياً صافياً. وكانت هذه واحدة من أكبر العمليات الإجرامية في حق الإنسان بوصفه إنساناً أولاً وأخيراً.
كانوا عمالاً في الحقول وحرفيين كباراً، ولم يكونوا عساكر؛ لأن المقاومين اختفوا في جبال البشرات زمناً طويلاً. لم تشفع لأندلسيي الجزيرة لا الحضارة التي بنوها ولا تاريخهم، ولم يكلف المنتصر نفسه حتى التفكير في العمل على بناء مجتمع جديد مبني على التعددية في ظل إسبانيا الجديدة التي كانت مختلطة ثقافياً وعرقياً، بعد أكثر من ثمانية قرون من الوجود الإسلامي. الأنانية والأحقاد التاريخية الدينية والهوياتية الضيقة هي التي انتصرت، خوفاً من استرجاع القوى والوحدة الغائبة، والاستيلاء من جديد على إسبانيا. الخوف من الآخر مبطن دائماً، إذ ينتظر الضعيف فرصته لا من أجل التفكير في مجتمع جديد، لكن من أجل إعادة إنتاج ما كان هو ضحية له. ويظهر ذلك واضحاً أكثر في الحروب والأزمات الحضارية والاقتصادية والثقافية وفي الحروب الأهلية، حيث يعلق كل شيء على مشجب الآخر، إذ يصبح هو السبب الأساسي في كل ما يحدث من مشاكل. ويتحول فجأة إلى أجنبي مهما فعل، ولا ينفع كونه يملك جنسية البلد، أو ولد على تلك الأرض أو من الجيل الثاني أو الثالث، أي أن ملامح البلاد الأصلية بدأت تمحى. للعنصريات الكبيرة تاريخ ينبض بالألم والجرائم في حق الإنسان، وما حدث في الماضي ليس إلا صورة مستمرة لم تتغير فيها العلاقة مع الآخر، أو المفترض كذلك. حتى لافتة حقوق الإنسان التي ترفع هنا وهناك، تحولت إلى سلاح أيديولوجي فتاك، يغرق من أسقطت حقوقه وأصبح أباتريد (بلا أرض) Apatride.
فأنت مثلاً أمريكي أو أوروبي، حتى إشعار آخر؟ بالخصوص إذا كنتَ مسلماً أو عربياً. أي أنك لو ولدتَ في تلك الأرض، بقيت قروناً عليها عبر تعاقب السلالات.
في الأرض الأمريكية مثلاً، أرض الديمقراطية والحريات النموذجية، ستظل مهدداً بوطنك الأصلي. بعد قصف بيرل هاربور وتدمير اليابانيين لجزء كبير من البحرية الأمريكية، لم يجد الإستابلشمنت الأمريكي من حل سوى مطاردة واعتقال الأمريكيين من أصول يابانية في حملة هستيرية قام بها الجيش الأمريكي ضد أمريكيين ذنبهم الوحيد أنهم من أصول غير أوروبية. جريمة عنصرية لا يعرفها الكثيرون، لأنها ظلت زمناً طويلاً غير معلنة. فقد تم تجميع هؤلاء الأمريكيين-اليابانيين «الأعداء» وسحبهم نحو معسكرات الاعتقال، في المناطق الداخلية الغربية من البلاد. العدد الرسمي المقدم هو 120 ألف شخص من أصل ياباني، بينما الدراسات الرسمية تقدم أكثر من ذلك بأضعاف. كان معظمهم يعيشون على ساحل المحيط الهادئ. بين يوم وليلة، حولتهم هويتهم الأصلية إلى مجرمين. لم يكن الفعل الذي أقدمت عليه المؤسسة السلطوية الأمريكية مجرد ردة فعل من ضربة بيرل هاربور، لكنه كان عملاً عنصرياً مقنناً. فقد شمل القرار اثنين وستين بالمئة من الساكنة الأمريكية اليابانية في البداية، قبل أن يمتد إلى كل من شموا فيه شيئاً من رائحة اليابان حتى ولو كان أمريكياً منذ عقود سابقة وسنوات طويلة وولد على تلك الأرض. الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت وافق على هذه الإجراءات العنصرية في أكبر الديمقراطيات العالمية، مباشرة بعد هجوم الإمبراطورية اليابانية على بيرل هاربور، وأصدر القانون التنفيذي رقم 9066، في 19 فبراير 1942، والذي سمح للقادة العسكريين الإقليميين بتحديد المناطق العسكرية (في الظاهر) التي قد يُستبعد منها أي شخص أو كل الأشخاص. على الرغم من أن الأمر التنفيذي لم يذكر الأمريكيين اليابانيين، استُخدم هذا التفويض للإعلان عن مطالبة جميع الأشخاص من أصل ياباني بمغادرة ألاسكا. ومناطق الحظر العسكري من جميع أنحاء كاليفورنيا، وأجزاء من أوريغون، وواشنطن وأريزونا. فقد اعتبر ببساطة كل أمريكي من أصول يابانية قريبة أو بعيدة، عدوًا يجب التخلص منه. المخاطر العرقية بلغت أوجها، اتجهت اتجاهات خطيرة إذ اعتمدت على قياسات عنصرية بحتة. في كاليفورنيا مثلاً، أي شخص يملك نسبة 1/16 أو أكثر من العنصر الوراثي الياباني، يعتبر عدواً ويجب أن يسجن. وقد ذهب العقيد كارل بينديتسين، مصمم البرنامج، إلى حد القول «إن أي شخص لديه قطرة دم يابانية واحدة، مؤهل للاعتقال والمراقبة الأمنية». وكان أغلب اليابانيين الأمريكيين من الجيل الثاني المولودين بأمريكا، لا يعرفون الشيء الكثير عن بلد آبائهم وأجدادهم الأصلي.
حتى الجيل الثالث الذي ولد وتربى في الحاضنة الأمريكية ثقافياً وحضارياً، لم ينج من عمليات الاقتياد نحو المحتشدات.
اعتبر بموجب ذلك القانون التنفيذي وامتداداته غير المعلنة، أي ياباني أو من أصول يابانية، عدواً يجب التخلص منه. لهذا تم وضعهم في البداية في معسكرات الاعتقال بناءً على توزيعات السكان المحليين والسياسة الإقليمية. وبدأت عمليات ترحيل الآلاف ممن كانوا يعيشون على الساحل الغربي الأمريكي، نحو معسكرات داخلية لا تتوفر فيها أي شروط للحياة. لم تنج هاواي الخاضعة للأحكام العرفية من هذه الحملة الشرسة التي مست أكثر من 150 أمريكياً من أصول يابانية. وبدا كأن الأمر لا يخضع لأي منطق، إذ إن أغلبية السجناء كانوا يعيشون ويعملون في أمريكا بوصفهم مواطنين أمريكيين، ولم يمر بأذهانهم أنهم سيُرحّلون باتجاه محتشدات لا تختلف كثيراً عن محتشدات النازية. عرقية وعنصرية غير مسبوقة في أمريكا حقوق الإنسان. وظلت هذه اللحظة التاريخية لطخة في التاريخ الأمريكي الكبير، قبل أن يعترف الكونغرس بها أخيراً، بعد أكثر من أربعين سنة، في سنة 1983، واعتبر الاعتقال والاستبعاد عنصرية مقيتة لا يبررها اعتداء بيرل هاربور، وأن فكرة الخطر الداهم لا وجود لما يبررها. ذلك كله جاء بفضل نضالات كبيرة. ففي عام 1980، وتحت ضغط «رابطة المواطنين الأمريكيين اليابانيين» ومنظمات الإنصاف، فتح الرئيس جيمي كارتر تحقيقاً لتحديد ما إذا كان قرار وضع الأمريكيين اليابانيين في معسكرات الاعتقال قد شُرع من قبل الحكومة… وجد تقرير اللجنة، الذي يحمل عنوان إنكار العدالة الشخصية، القليل من الأدلة على عدم ولاء اليابانيين في ذلك الوقت، وخلص إلى أن السجن كان نتاجاً للعنصرية. وأوصى الحكومة بدفع تعويضات للمعتقلين. وفي عام 1988، وقع الرئيس رونالد ريغان على قانون الحريات المدنية لعام 1988 الذي اعتذر عن الاعتقال نيابة عن حكومة الولايات المتحدة وأذن بدفع 20 ألف دولار (ما يعادل 43000 دولار في عام 2019) لكل معتقل سابق كان ما يزال على قيد الحياة عند وقوع الاعتقال».
لا يوجد قاع للعنصرية والعرقية، وجرائم الهويات الصافية. الأزمات التي أنتجت الطرد الجماعي في الأندلس، والنازية والعرقيات المختلفة التي دمرت الداخل الإنساني ووضعته في دائرة الخوف والريبة، قادرة على إنتاج الأفظع. ليس ما نراه اليوم من عنصرية وصفاء عرقي، وإحلال، إلا الأشكال الظاهرة للإيزبرغ. الزمن القادم، إذا بقي على مظهره الحالي، سيقود حتماً نحو قاع مظلم آخر.
معلومات مفيدة و مقال ممتع،شكرا
العنصرية تسحب الفكر الى القاع وإلى تدمير الانسانية
شكرا لهذا الوعي واشعار العالم بالهاوية التي يقعد فيها العالم ، العنصرية تسحب الفكر الى القاع حقا .
الغريب في الأمر أن “الأمريكيين” ، الذين تصرفوا ، بعنصرية وعنجهية ، أثناء الحرب العالمية الثانية ، في حق “الأمريكيين” الوافدين الآخرين ، مثل اليابانيين ، واعتبروهم ليسوا من “الأمريكيين” الأصليين ، هم أيضا من أصول وافدة على أمريكا ، وليسوا من “الهنود الحمر” . هذا المرض المعدي لم يحتكره “الأمريكيون” فقط ، من أصول وافدة ، وإنما أصاب أيضا ، مع الأسف ، في السنوات الأخيرة ، العنصريين ، من الجيل الثاني ، ممن هم من الأصول الوافدة على فرنسا ، أكان من أوروبا الشرقية ، مثل المجر ، أو كان من شمال إفريقيا ، مثل الجزائر … .
مقال آخر دقيق و مؤسس لكاتبنا واسيني.
يقيني أن الغربي الاروبي حينما آمن بحق الانسان في السعادة و الوجود ، لم يؤمن بهما إلا لنفسه. وتاريخه كله مع المختلف لونا أو دينا أو عرقا تاريخ أسود.
أذكر لروائي عراقي تعليقا، ادلى به لمراسل قناة بريطانية بعيد احتلال بغداد، قال فيه و بنبرة متأسفة : ” ليست هذه أمريكا التي أحببناها من خلال الافلام و الروايات”. المغزى؛ توقعاتنا و أحكامنا كانت و لا زالت على أسس و انطباعات خاطئة!!
الانسان ذئب الانسان .. لم تخطر لانسان آخر!!
يعني الآن وضمن هذه المعطيات علينا استيعاب اليهود في فلسطين المحررة لاحقا على أساس أنهم جزء من البناء التاريخي للمكان