قد لا يعرف أكثرنا أنّ كلمة “عنصريّة” حديثة الميلاد، فعمرها إذا نحن استظهرنا بغاية الاستظهار قرن ونيّف؛ إذ ظهرت الكلمة عام 1902 في فرنسا والمملكة المتّحدة. ثمّ شاعت وتداولتها الألسن في العشرينات في ألمانيا؛ لتدلّ على غلاة جماعات من اليمين، وعلى أنشطتهم ومذاهبهم. وإذا كانت الكلمة تحوي في سياقاتها التاريخيّة العبوديّة وازدهار القوميّات والنازيّة والفاشيّة والتمييز والتفرقة وما إليها، فإنّها لا تزال مسألة خلافيّة ومصدر تأويلات شتّى؛ وبخاصّة كلّما تعلّق الأمر بتشخيصها أو تقديرها انطلاقا من أعراضها وظواهرها، على مستوى دولة ما، أو بنعت التصرّفات السيّئة لفرد ما؛ على نحو ما نلاحظ في سلوك الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. وتتجلّى العنصريّة في جملة من المظاهر والمواقف مثل التصريحات والشتائم والوعيد والتهديد. وهي مبنيّة على قوالب ورواسم وأفكار ومعتقدات وأحكام سبَقيّة لا سند لها من استلال صريح. ونتبيّنها في سلوك فرد أو جماعة وفي تصرّفاتهم ومجموع استجاباتهم لما يحيط بهم من ظروف؛ من تجنّب أفراد بعينهم على أساس من هويّتهم أو عرقهم وجنسهم ولونهم ومعتقداتهم، ومحاشاتهم واحتقارهم وازدرائهم، إلى مضايقتهم وتهديدهم؛ كما جاء في تعريف العنصريّة في قانون بلفين في فرنسا في تموز (يوليو) 1972. وسواء أكان ذلك طبقا لأوضاع وقواعد منظّمة (اضطهاد الدولة، والأبيرتايد…) أم من دونها؛ فالعنصريّة ظاهرة لا تنتج من مجرّد جمع خصائصها، وإنّما من مجموع العلاقات بين هذه العناصر مثل الطرد والحرمان والعزل والتمييز، وما يحكمها من خطاب إيديولوجي ونظريّات عرقيّة. ويمكن القول إنّها بيولوجيّة مثلما هي ثقافيّة، إذ تقوم عل مفهوم العرق، ويزعم القائلون بها أنّ لكلّ المنتمين إلى جنس خصائص تكوينيّة وراثيّة تحدّد استعداداتهم واستجاباتهم الثقافيّة وخصالهم وقيمهم الأخلاقيّة.
إنّ إعادة بناء الأصل الاجتماعي للكلمة ضرورة لا فكاك منها، لأسباب ودواع من أظهرِها أنّ اللّغة تتطوّر وأنّ العلامة أو الكلمة لا تمضي على ثبات وديمومة واطّراد. بل إنّ تطوّر العلامة يمكن أن يفضي عبر تحوّلات وتناسخات لغويّة كثيرة لا إلى تغيّرها فحسب، وإنّما إلى زوالها أيضا.
وربّما تغيّر الكلمة ما بها من المعنى أكثر ممّا هي تضمحلّ أو تتلاشى فيتوسّع المدلول الذي يتولّد منه توسيع في المعنى. وقد تتّسع الكلمة في حقبة لجملة من المعاني، ثمّ تقصر في أخرى على معنى واحد، وقد تمرّ الكلمة بالطّورين معا: انتشار يعقبه انحسار. ومهما يكن فثمّة دائما علامات إراديّة اصطلاحيّة تواصليّة، وأخرى غير إراديّة ولكنّها تعبيريّة إذ توحي بحالة من حالات الفكر أو تبين عنه؛ وتشهد لتنظيم ما للكون أشياء وقيما وأحاسيس.
والنظام اللغويّ لا يمكن إلاّ أن يحوي تحليلا للعالم الخارجي يخصّه، ولكنّه يختلف عن نظام لغات أخرى مثلما يختلف من حقبة إلى أخرى، في حيّز اللغة الواحدة. وكلمة “عنصريّة” لا تنفكّ عن هذا السياق. كيف تولد اليوم وأيّ معنى تتّخذه في خطاب عنصريّ مثل خطاب ترامب؟ وفي خدمة من؟ وضدّ من؟ وفي أيّ مهاد تنمو؟ وعلى أيّة وتيرة تجري؟
عام 1992 طالب برنار هرزبرغ، باسم جمعيّة، بحذف كلمة “عرق” من الدستور. وحجّته لذلك أنّ في القول بأنّ الفرنسيّين معتبرون مواطنين “دون تمييز في العرق والجنس [ذكر وأنثى] أو الدين” إشارة ضمنيّة أو مباشرة إلى حالات أو ظواهر معترف بوجودها، ما عدا العرق، وأنّ استعمال هذه الكلمة في الدستور، يمكن أن يرسّمها أي يجعلها رسميّة. وردّ عليه مخالفوه بالقول إنّ البشر هم حقيقة مصنّفون على مقتضى ما يسمّيه البعض “عرقا”. وغنيّ عن القول إنّ حذف الكلمة لا يسوق إلى حذف هذا الواقع الاجتماعي. وهو ما يفسّر السجال حول العنصريّة والعرقيّة من حيث هي اعتقاد بأنّ العرق هو العامل الحاسم في تقرير سمات البشر ومواهبهم. على أنّ كلمة عرق صارت اليوم “مفخّخة” أشبه بكمين، ويتحاشاها كثيرون ما عدا الذين يحبّون الصيد بالفخّ. لنقل إنّ الكلمات لا تحمل حدّا أو تعريفا في ذاتها، والاستئناس بالمعجم لا يقدّم حلّا. والتعريفات تتغيّر حسب المعجم وتاريخه. والمعجم ليس محايدا، وهو إمّا أن يرضى بالأوهام والصور المهتزّة؛ فيفضّل الغموض التعريفي، أو أن يقدّم سلسلة من التعريفات غير المترابطة عادة. وكلّ المعاجم والموسوعات الكبرى تجري على هذه الوتيرة. ومثال ذلك كلمة “فاشية” فقد ظهرت في المعاجم عام 1930 وأضفى عليها معجم “لاروس الشهري” بعدا مؤيّدا أي تعريفا مناصرا واصفا الحراك “الثوري” الإيطالي من حيث هو حامل رسالة تتمثّل في توطيد دعائم الأمّة، وتغيير البلد باستبعاد قوى “التخريب” وخاصّة الشيوعيّين. وقس على ذلك كلمة “شيوعي” فقد كانت تعني كلّ من ينادي بشيوع كلّ شيء، وليس إلغاء الملكيّة الخاصّة وإحلال الملكيّة الجماعيّة محلّها أو انتقال السلطة إلى العمّال والمزارعين. أو كلمة “فوضوي” [أنارشيست] فقد كانت تُضفى عليها قيمة محقّرة؛ بالرغم من أنّها عند برودون، وقد وصف بها نفسه، من معدن كريم؛ أو تأخذ بـ”شرافة اللفظ” كما يقول أسلافنا. أو كلمة “أصفر” فقد كانت تعني قبل الحرب العالميّة الثانية كاسر الإضراب، وكانت هناك “نقابات صُفر” في مواجهة “النقابات الحمر”.
وقس على ذلك كلمة الإسلاموفوبيا، فهي تعني بالرغم من أنّ أصلها يعتريه نقص ما، أو هو غير ناجز؛ عنصريّة نوعيّة تجاه المسلمين عامّة، انفكّت تتنامى. وعقب اعتداءات زيلاندا الجديدة، كانت أبرز ردود الفعل التي يمكن رصدها هي الحرب الكلاميّة التي دارت بين المُناظِرة كارولين فورست ومجادليها. وهي نشيطة نسوانيّة معروفة بدعوتها إلى توسيع حقوق المرأة ومدّ سلطاتها، فقد وقفت ضدّ مفهوم الإسلاموفوبيا المتداول، وتصدّت له منذ سنوات. وحجّتها أنّ قلق التسمية ليس إلاّ انتقاصا من قيمة الظاهرة وتصغيرا لها؛ وهي تعتبر أنّ الإسلاموفوبيا أو رهاب الإسلام، يعني “الخوف من الإسلام” وليس إلقاء التبعة على المسلمين أو رفضهم من حيث هم بشر، أو بسبب انتمائهم الديني. ولذا هي تفضّل اصطلاح “العنصريّة المناهضة للمسلمين” وتدعو إلى مقاومتها. والخلط بين هذين النعتين يمكن أن يترك الباب مفتوحا إزاء استحالة نقد الإسلام من حيث هو ديانة أو نظام إيديولوجي. وكان كوفي أنان الأمين الأسبق للأمم المتّحدة قد صرّح عام 2004: “إذا كان العالم مرغما على ابتكار مصطلح جديد، لإثبات تعصّب ما انفكّ يتنامى، فهذا تطوّر مؤسف مزعج. وتلك هي الحال مع الإسلاموفوبيا”. إنّ الكلمات تتكلّم من نفسها، والإسلاموفوبيا، وإن كان الاصطلاح يعاني من قلق العبارة ومن اشتقاقها، تعني الخوف أو الرهاب، وتدلّ على ظاهرة علّم عليها الأمين العامّ الأسبق، أي العنصريّة النوعيّة إزاء المسلمين أو كما هم في منظور مناهضيهم؛ وما يترتّب عن ذلك من تمييز ورفض وعنف. ولا يخفى أنّ هذه النوعيّة هي أيضا حال مناهضة السامية، وهذا اصطلاح لا يحوي كما يفترض أن يدلّ عليه أصل الكلمة، عداوة الساميّين كلّهم؛ وإنّما اليهود وحدهم: الضحيّة التي لا شريك لها.
وهذا لا يسوق إلى صرف النظر عن تاريخ الكلمة “فوبيا الإسلام”، وما إذا كانت تعود إلى بدايات القرن العشرين أو إلى 1979 مع تأسيس جمهوريّة إيران الإسلاميّة. فلا بدّ من الـتأريخ للمصطلح الذي قد يضيق عن معنى، ويتّسع لآخر، من أجل استيعاب مجمله وتحليل عناصره. تنخرط إذن كارولين فورست في هذا السجال الإيديولوجي، وهو حقّها الذي لا أحد يصادره؛ وإن كانت لا تتنبّه إلى أنّ الإسلام واحد ومتعدّد في الآن ذاته، فهو بشهادة المستشرقين مثل هاملتون جب يتمثّل في عدد من الكيانات السياسيّة والاجتماعيّة والدينيّة المترابطة المتباينة، في منطقة مترامية الأطراف مكانا وزمانا. ولكن ينبغي أن لا يخفى أنّ معركة الإسلاموفوبيا تضعنا في مواجهة النضال ضدّ العنصريّة، دون لفّ أو دوران. والإسلاموفوبيا أصبحت اليوم مفهوما شعبيّا لا يمكن حذفه بجرّة قلم، وهي لا تحظر نقد الإسلام أو رفضه أو حتّى التشهير به وببعض شعائره ومعتقداته على نحو ما يفعل كثير أو قليل؛ والأديان كلّها كانت منذ ظهورها ولا تزال عرضة للنقد والمساءلة. فهذا ليس مشكلا في حدّ ذاته، ما لم ننتقل من المختلف إلى المشابه وهو العنصريّة في السياق الذي نحن به؛ أو مماثلة هذا بذاك، فيُستهدف المسلم باعتباره مسلما لا غير.
إنّ الكلمة وصورتها المفهوميّة تتشابهان، فهما تتمثّلان حلول الإنسان في الكون وتكّونان نظام استدلاله وسط ما يحيط به. لكن هذا التشابه لا يحجب عن الفرق بينهما، وتصوّر الأشياء إنّما يبدأ على أساس من تقسيم العالم إلى مجموعتين متعارضتين: مجموعة الأشياء ومجموعة الذوات. وإذا كانت الأولى واضحة لأنّها تنضوي إلى عالم المحسوسات الماثلة للعيان، فإنّ الثانية ملتبسة أو هي غير واضحة.
* كاتب تونسي
الحقيقة ان العنصرية ولدت مع الرجل الأبيض و ستموت بموته ، نحن ما عرفنا العنصرية بتاتا و طول عمرنا علاقتنا بالسود و الشعوب التي فتحناها كانت نموذجا يدرس في عدم العنصرية اما السبي و الغنائم و الموالي فهي لم تفسد للود قضية و الدليل انه فيه إسلاموفوبيا لكن ما فيه أكراد فوبيا أو أمازيغ فوبيا أو اقباط فوبيا لانهم عايشين بيننا كانهم يعيشون في بلادهم تماما أفضل بكثير مما قد يعيشون أو نعيش نحن ضحايا الاسلاموفوبيا في بلاد الرجل الأبيض ، صحيح ان السيارات و المكيفات و اللابتوبات ما كانت ممكنة من دون الرجل الأبيض و ربما قصص حقوق الإنسان بالفهم الغربي الأعوج و احتمال كبير تختفي باختفاء هذا الشيء لكن أيضا ستختفي العنصرية و سنعيش مع السود و الصفر و الخضر و بقية البشر و الأديان و الطوائف بسلام احرارا و كراما و هم يدفعون الج….
/قد لا يعرف أكثرنا أنّ كلمة “عنصريّة” حديثة الميلاد، فعمرها إذا نحن استظهرنا بغاية الاستظهار قرن ونيّف؛ إذ ظهرت الكلمة عام 1902 في فرنسا وإنكلترا. ثمّ شاعت وتداولتها الألسن في العشرينات في ألمانيا/..
العنصرية وجدت منذ بدء التاريخ البشري ولكن بمفردات مختلفة على مر العصور.. فعلى سبيل المثال، في العصر الوسيط، أشار إليها الجاحظ بمفردة “الشعوبية” في كتابه الشهير “البيان والتبيين” ليشير إلى تلك المواقف العنصرية ضد العرب بالذات.. !!
/وتصوّر الأشياء إنّما يبدأ على أساس من تقسيم العالم إلى مجموعتين متعارضتين: مجموعة الأشياء ومجموعة الذوات. وإذا كانت الأولى واضحة لأنّها تنضوي إلى عالم المحسوسات الماثلة للعيان، فإنّ الثانية ملتبسة أو هي غير واضحة./..
قصدك هنا مجموعة الأشياء أو الذوات ومجموعة اللاأشياء أو المعاني.. !!