عنصرية قيس سعيّد وعنصريتنا جميعا!

حجم الخط
14

كأن كل المصائب السياسية والاجتماعية والأخلاقية التي ابتُليت بها تونس لا تكفي فأضاف لها الرئيس قيس سعيّد العنصرية والحقد تجاه المهاجرين الأفارقة.
سيقول قائل إن سعيّد لم يأتِ بجديد وإنما عبّر عن حالة نفسية واجتماعية تتنامى في تونس. وسيردُّ البعض بالزعم أن ما قاله هو ما يقوله الكثير من مواطنيه على امتداد تونس طولا وعرضا (وملايين العرب والمسلمين في المنطقة).
كل هذا صحيح. مع فرق أن سعيّد رئيس دولة واجبه الأول أن يكون قدوة ونموذجا للرعاع لا أن يجاريهم.
حديث سعيّد عن أن وجود المهاجرين الأفارقة فاقم العنف والجريمة، وذهابه من علياء منصبه إلى حد الجزم بأن هناك مؤامرة تستهدف تغيير هوية تونس العربية الإسلامية إلى إفريقية من خلال جلب المهاجرين من دول إفريقيا السمراء، خطير ومرفوض.
هذا كلام لا يصدر عن رجل يتمتع بحالة ذهنية سويّة ويتحلى بروح المسؤولية لإدارة شؤون بلد، خصوصا إذا كان هذا البلد غارقا في الوحل كما هو حال تونس.
رئيس دولة، وقبل ذلك دكتور محاضر في الحق والقانون، يتلفظ بمثل هذا الكلام، فماذا ترك للسفهاء والدهماء؟
أتساءل ماذا تنتظر الدول الإفريقية لاستدعاء سفرائها من تونس، أو طرد سفراء تونس من أراضيها. وأتساءل إلى ماذا أكثر يحتاج الاتحاد الإفريقي لتلقين سعيّد درسا يمنعه عن عنصريته في المستقبل.
ليس مستغربا أن يقفز اليميني الفرنسي المتطرف إيريك زمور بسرعة ليشيد بخطاب سعيّد ويصنّفه ضمن نظرية «الإحلال (أو التعويض) الكبير» التي شكّلت ديدن سياسة زمور وعتاة العنصريين في الغرب.
من حق سعيّد أن يبحث عن كباش فداء لتخبّطه وإخفاقاته المزمنة. وقد وجدهم هذه المرة في المهاجرين الأفارقة، لكن من المشين أن يلجأ إلى مثل هذا الكلام الفاشي في حق أناس يعيشون عبودية حقيقية على أرض هو راعيها الأول.
لا أستغرب بعد هذا الكلام الأخبار عن مطاردة الأفارقة في شوارع تونس وحرق بيوتهم وأثاثهم. ولا غرابة أن تأتي أخبار عن أن الحرس الوطني التونسي يطاردهم بالذخيرة الحيّة حيثما اشتم رائحتهم.
ولا غرابة أن وسائط التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام التونسية وحتى اللغة السياسية اليومية تفوح حقدا وغلًّا تجاه الأفارقة.
من عجائب هذا الزمن أن تونس بات لديها حزب يسمى «الحزب القومي» مثل الأحزاب القومية في أوروبا، برنامجه الوحيد تغذية كراهية الأفارقة والتحريض عليهم.
إذا كان بضعة آلاف من الأفارقة الموجودون في تونس مؤقتا يشكّلون خطرا على هويتها، فماذا يقول الألمان عن ملايين السوريين الذين تدفقوا على بلادهم في غضون شهور منتصف العقد الماضي؟

لكل مجتمع ضحاياه الذين يمارس عليهم عنصريته تحت عناوين زائفة يسمِّيها ظروفه وخصوصياته

وماذا يجب أن يقول الفرنسيون عن أربعة ملايين جزائري ولا أدري كم مليون مغربي وتونسي؟
وما رأي البريطانيين في ملايين الهنود والباكستانيين (وغيرهم) الذين تدفقوا إلى المملكة المتحدة منذ خمسينيات القرن الماضي ولازالوا؟
هل قال أحدهم لسعيّد إن هؤلاء المساكين قذفتهم الأقدار والمآسي إلى تونس ولا يخططون للاستقرار فيها؟ بلِّغوه أن تونس ممرٌ وليست مستقَّرا، وبأنه لا يوجد أجنبي عاقل يحلم بتونس موطنا له هذه الأيام، وبأن تونس تُصدِّر من المهاجرين للاستقرار في أوروبا أكثر مما تستقبل من أفارقة عابرين، وبأن كل شبان تونس، ذكورا وإناثا، واقفون اليوم في الطابور يترصدون فرصة للهجرة.
في زيارة سياحية مؤخرا إلى البوسنة رأيت في العاصمة سراييفو من الشبان التونسيين أكثر مما كنت أتخيّل، وأكثر من كل الجنسيات الأخرى. وجوههم شاحبة وبطونهم خاوية، يحلمون بلقمة وباللحظة التي ينجحون فيها في مراوغة حرس الحدود الكرواتيين من أجل التسلل إلى أوروبا.
التونسيون ذاتهم، الذين يلعنون المهاجرين الأفارقة في بلادهم، يقيمون الدنيا سخطا واحتجاجا عندما يسمعون أخبارا (غالبا مبتورة من سياقها) عن ظلم تعرّض له مهاجرون تونسيون تقطّعت بهم السبل في المسالك الطويلة التي يقطعونها أملا في الوصول إلى أوروبا، أو عندما تسجنهم سلطات دولة أوروبية تحسبا لترحيلهم.
الأفعال ذاتها التي هيَّجت تونس وبلداننا ضد الأفارقة (وبعضها صحيح لا ريب) تعتبرها ذهنيتنا المريضة بطولة وشطارة عندما يمارسها مواطنونا في أوروبا. مخيالنا الجمعي لا يتوقف عن الابتهاج بفلان الذي خطف حقيبة يد عجوز فرنسية أو سويسرية مسكينة في لمح البصر، أو استولى على بطاقة ائتمان موظف بسيط في بريطانيا أو السويد في غفلة من أمره.
واضح أننا في حفرة أخلاقية سحيقة مظلمة، لا يبررها الوضع الاقتصادي المتدهور ولا الخوف من المستقبل الغامض ولا أي شيء.
لكن الأمانة تقتضي القول إننا في هذه المنطقة جميعا مرضى وعنصريون، بشكل أو بآخر وبدرجات. كل مجتمعاتنا تمارس العنصرية بطريقتها يوميا، بل تتنفسها في كل لحظة.
عنصريتنا أخطر لأنها ليست سياسية، بل خلطة من الاجتماعي والنفسي والديني والثقافي. نمارس عنصريتنا الدينية واللغوية والمناطقية والحضرية (مدن/أرياف) والطبقية والجندرية والصحية (احتقار ذوي الاحتياجات الخاصة ومعايرتهم) بعضنا على بعض قبل أن نمارسها على الغريب.
عنصريتنا الثرية والمنوعة متفشية في فضاء هائل من موريتانيا مرورا بالمغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر ولبنان ودول الخليج العربية وصولا إلى تركيا وإيران. لكل مجتمع ضحاياه الذين يمارس عليهم عنصريته تحت عناوين زائفة يسمِّيها ظروفه وخصوصياته.
عنصريتنا «مُمَأْسَسَة» تمارسها القوانين ومَن وضعَ القوانين والقائمون على تطبيق القوانين. ترد باستمرار في وسائل الإعلام تلميحا وتصريحا. يمارسها الناس يوميا في العائلة والمقاهي والعمل ووسائل النقل العام.
والضحية دائما ذلك المُلوَّن، أو الذي يختلف عنا ثقافة أو دينا. أو نعتقد بحكم تنشئتنا المنحرفة بأننا أفضل منه. هو دائما الإفريقي أو الآسيوي أو غير المسلم، لكن أبدا ليس صاحب الشعر الأشقر والعينين الزرقاوين، فعنصريتنا لا يضاهيها إلا تملّقنا للأوروبيين لأن تنشئتنا المنحرفة (مرة أخرى) علمتنا التقرب منهم والانحناء لهم إذا أمكن.
الحمد لله أن في تونس عقلاء، أفرادا وتنظيمات، انتفضوا ضد هذه العنصرية المقيتة. يستحقون الثناء والتشجيع، وأيضا الحماية، فقد يسجنهم سعيّد جميعا مثلما فعل بكل من اختلفوا معه.

كاتب صحافي جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول تعليق:

    لماذا لا يهتم كل واحد ببلده

  2. يقول تيسير خرما:

    تضاعفت هجرة غير شرعية ولجوء للعالم الحر بشكل لا يستوعبه المجتمع والإقتصاد والأمن وتضاعفت بؤر جريمة وتجارة مخدرات وبشر وغسيل أموال وخلقت بيئة للتطرف المتبادل تناسب أعداء الدولة والنظام والقانون، فاستغلت أحزاب غربية صاعدة ذلك لكسب الإنتخابات بخلط متعمد بين مهاجرين غير شرعيين ولاجئين وبين مهاجرين شرعيين قدامى حصل أجدادهم على الجنسية تدريجياً وشكلوا قيمة مضافة للمجتمع والإقتصاد وبالمقابل استقطبت أحزاب غربية قديمة أحفاد المهاجرين الشرعيين وأوصلتهم للبرلمان والحكم فضمنت تأييد ملايين المهاجرين الشرعيين

  3. يقول طارق بن زياد الطنجاوي:

    استاذ رحباني، اثني دائما على مقالاتك الرائعة المنطقية و الموضوعية. هناك أنظمة تغذي الارهاب الفتن العنصرية و الطائفية…
    انظمة تقوم بغسل الأدمغة لشعوب تفضل تجرع العنتريات الاوهام و الانتصارات الزائفة…(يقول الفيلسوف الالماني نيتشه معظم الناس تفضل الاستمرار في الاوهام عوض الحقائق لانها لاتريد ان ترى اوهامها تكسر ).

  4. يقول اسماعيل:

    كلام رائع وفي الصميم نحن قوم متشنجون نتعالى على الضعفاء نتيجة ضعفنا الاخلاقي و التشنجات النفسية التي تنخر كياننا

  5. يقول عبد الرحيم:

    معك حق في كل ما قلت لكن لا تنسى انها الفوضى العارمة ول الامور تسير بهذه الطريقة وهم هل يحترمون اين هم موجودون الم تسمع ماذا قالوا في تونس قالوا ان هذه ارضنا وليذهب الموجودون في الشمال الافريقي الى حيث اتو لان افريقيا للافارقة هذا دوم ان اضطر لان احكي لك ما حدث لي معهم …………………….

  6. يقول عبد القادر A:

    مقال رائع لخص كل شيء

  7. يقول جزايري:

    العنصرية في مجتمعنا متأصلة ولكننا لا نعي دالك ، نحن نردد في صلاواتنا . المؤمنون إخوة . لكن دالك لا يتجاوز أفواهنا ،ساكن المدينة يحتقر سكن الضاحية، وساكن السهل يحتقر ساكن الجبل و هكدا. … في قريتي فتاة جنت ودمرت حياتها بعد أن رفض أهلها تزويجها بالشخص اللدي تريده لانه من عرش اخر

  8. يقول إبن آكسيل:

    قيل في الأثر ” إن الطيور على أمثالها تقع ” ..

  9. يقول عبد السلام فران:

    عزيزي كاتب هذه السطور…. العنصرية ظهرت من شخص مريض وإن كان قد إنتخب من قسم ليس كبير من الشعب ،وهو الآن لايمثل كل الشعب التونسي

  10. يقول S.S.Abdullah:

    الحل، من وجهة نظري يبدأ من:

    يجب أن يكون هناك فرق في مناهج التعليم لدولة الحداثة بين ثقافة الأنا لآلة النظام في الدولة، وبين ثقافة النحن كأسرة إنسانية،

    حتى نستطيع تمييز ما ورد تحت عنوان (عنصرية قيس سعيّد وعنصريتنا جميعا!) https://www.alquds.co.uk/?p=3148459

    لأن الإغتيال، أول أسلحة أهل أتغدى به، قبل أن يتعشى بي، أهل ثقافة كتاب (كليلة ودمنة)، في (لبنان)،

    الشيخ (أحمد شعيب الرفاعي)، مثال عملي، ولا حول ولا قوة إلا بالله،

    لأن للعلم، أسلوب حكم معمر القذافي في (ليبيا) أو علي عبدالله صالح في (اليمن) أو حافظ وبشار الأسد في (سوريا)، يختلف تماماً، عن أسلوب حكم صدام حسين في (العراق)،

    عملية خلط الحابل بالنابل، لتبرير (الظلم) أو على الأقل خطأ أسلوب الإدارة والحوكمة في (النظام البيروقراطي)، لن تقودك إلى أي حلول، في أي دولة،

    بداية من الكيان الصهيوني أو لبنان أو الجزائر أو موريتانيا، أو الأردن والمغرب وإيران بل وحتى تركيا أو مصر والسودان، يا شاهد الأسترالي، يجب إيقاف (الظلم) لو أردت إلى أي (إرهاب) أن يتوقف،

    أي (مسلم) يرفض (الظلم)، لأن لغة (القرآن وإسلام الشهادتين) ترفض (الظلم) و(التّجسّس).

    لأن حقيقة أين دولة القانون أو النظام، ما رأي من حضر العقبة من مسؤولي الأجهزة الأمنية،

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية