السعيد الورقي الذي شغل منصب الأستاذ في قسم اللغة العربية في كلية الآداب، أحد أصدقاء العمر منذ كنت أعيش في الإسكندرية. كان يجمعنا لقاء أسبوعي كل يوم اثنين، في قصر ثقافة الحرية ـ مركز الإبداع الآن – وكنا شبابا يأخذ بنا طموح كبير. كنا أسماء كثيرة منها مصطفى نصر وسعيد سالم وفتحي محفوظ وسعيد بكر وعبدالله هاشم، رحمهما الله، وغيرهم كثير، وكان السعيد الورقي معنا وبيننا دائما.
طالت الأيام وفرّقت بيننا، بعد أن انتقلت للحياة في القاهرة، لكن مشت معي تلك الأيام الجميلة وحماسنا في النقاش وقراءة قصص بعضنا واستقدام نقاد وكتاب مشاهير من القاهرة مثل، عبد القادر القط وغالي شكري وبهاء طاهر، ومعيدين في كلية آداب الإسكندرية التي كان هو معيدا فيها. انتقالنا بعد الندوة إلى المقهى في محطة الرمل، واستمرار النقاش ولعب الطاولة، وشراء ساندوتشات الفول والفلافل من محل محمد أحمد، وكان الساندوتش بقرش صاغ واحد. ثم صار لنا لقاء آخر في بيت المرحوم عبد الله هاشم كل يوم جمعة.
ابتعدت عن الإسكندرية لكني لم أنسَ تلك الأيام الحلوة وهناك من بين الزملاء من استمر وأخذ مكانا رائعا في الأدب العربي مثل سعيد سالم ومصطفى نصر، رغم أنهما لم يغادرا المدينة التي قلت لهم وأنا أغادرها «أحنا مبسوطين هنا بنتقابل ونتناقش ونسهر في القهوة ناكل فول وفلافل ونروح مبسوطين. أنا رايح للقاهرة حيث الأسباب للفشل والنجاح والسياسة، وأنا لا يمكن أعيش مرتاح على طول كدا». ورحلت إلى القاهرة.. لم تنقطع صلتي بهم فكنا نتقابل، لكن فى المؤتمرات والأحداث الثقافية الكبرى كل عام أو عدة أعوام، وظلت الكتب وإصداراتهم هي ما يحملني إليهم كأنهم معي وحولي.
لقد أصدر السعيد الورقي من قبل أعمالا رائعة ليست مجرد دراسات أكاديمية جافة، فهو أيضا مبدع وله مجموعات قصصية منها «مشاهد من عالم الغربة» ومن كتبه الدراسية «في مصادر التراث العربي» و»في الأدب العربي المعاصر» و»اتجاهات الرواية العربية المعاصرة» و»لغة الشعر العربي الحديث.. مقوماتها الفنية وطاقاتها» و»تطور البناء الفني في أدب المسرح العربي المعاصر».
يقول السعيد الورقي: الأدب كله شعر، والشعر هو فن اللغة، واللغة موسيقى الصوت الدال على المعنى والمصاحب للانفعال به. أنا لا أقول هذا لأني أراها حقائق مطلقة، وإنما أقوله لأنه ما أراه وما أتعامل به. السرد هو الحكي المنسوج. وكل ما في الوجود محكي ويحكي ويُحاكي بلغته، واللغة ليست الكلام فقط؛ فالإنسان يحكي بعديد من اللغات لا يدخل الكلام فيها، حتى إن الصمت والسكوت والسكون هو الآخر لغة تسرد حكاية. واللغة الكلامية سحر العالم وموسيقاه وشعره. فأنت باللغة تستحضر العالم بما فيه من أفكار وأوهام وتخيلات وانفعالات. أنت باللغة توجِد الكون فكرا ووجدانا وانفعالا ومخاوف.
إن الفنون كلها متداخلة، وكلها تسعى إلى تقديم تفسير جمالي للكون عندما تقدم حياة موازية من تصور وإبداع، ومن حدس معرفي يحاكيه الفنان، أو يعبر به عن حدسه بالكون، وهو تعبير يفسر به الفنان العالم، من خلال إعادة تشكيله وصياغته على نحو جديد غير مألوف. السعيد الورقي الذي شغل النقد معظم أعماله يكرّس نفسه فجأة للقصة أكثر من ذي قبل. ربما وقد تقدم العمر أراد أن ينفث نفسة الارتياح، ويبدي مشاعره ورأيه حتى لو كان غامضا في الحياة. وهكذا منذ فترة قريبة أنشأ على فيسبوك صفحة بعنوان «إبيجرومات السعيد الورقي» قام بتعريفها قائلا:
«هي قصة قصيرة جدا تقوم على شاعرية السرد المستند إلى اللغة الإيحائية في شاعرية تكثيفها وتركيزها وأبعادها الدلالية، من خلال الانحراف في اللغة، والعدول عن المعاني المعجمية إلى معان وأنساق أخرى جديدة هي الأنساق الشاعرية. كما تقوم على بنية المفارقة في البناء السردي، فهي من ثم قطعة سردية شاعرية تعتمد مبدأ الحكي داخل صيغ المفارقة الدرامية، في بنية سردية شاعرية، وهي بهذا أقرب إلى بنية القصة القصيرة الشعرية الدرامية، التي تقدم دراما الموقف الشاعري في أبنيته ولغته وفضائه المعماري وتأثيره العضوي، وهو ما أحاول تقديمه في إبيجروماتي السردية، التي أرجو منها أن أقدم جديدا في فن السرد، يمتلك سحر الحكي وأسراره من خلال لغته الشاعرة ودراما الموقف السردي. فما تقولون دام فضلكم قراء وكتّابا». وبالإضافة إلى تعريفه الذي قدمته عنها أضيف أنه أخفى عنا الفلسفة التي تكمن وراء كل نص من رؤى للواقع أو الحياة والأهم الوجود. طريقه في ذلك لغة حافلة بظلال المعاني وأحداث غير متوقعة تتفرق بين الخيال إلى أقصى مدى، وتكاد بعد كل نص تنظر حولك متسائلا هل أنا موجود؟ متعة قراءة هذه الإبيجرومات فائقة. بدايات أو نهايات القصص منابع للزهور والطيور محلقة بالمعاني الفلسفية الكبرى الخافية وراء الحدث. أما الأحداث فخيالها يحاصرنا بسؤال الأزل والأبد، من نحن وكيف كان وجودنا وهل هو حقيقي؟
السعيد الورقي مريض الآن يعاني من أثار جلطة دموية أتمنى له منها خالص الشفاء، ولا يمنعني عن زيارته والسفر إليه إلا المرض أيضا. كبرنا ياسعيد لكن كم كانت أيامنا جميلة حافلة بالأمل. إنني أسمع ضحكاتنا في المقهى حولي في الفضاء. وهنا باعتباري قد صرت من قراء الإبيجرومات السردية سأقدم أمثلة من هذه التحفة الفنية.
المصعد..
«وجدت باب المصعد مفتوحا، فولجت داخله. بعد كل خطوة يقف المصعد أفتح الباب وأقفله. يتابع المصعد صعوده وهبوطه. وأنا لم أقرر بعد ماذا أريد أو أنتوي؟!».
ﺍﻟﻬﺮﻭﺏ إلى ﺍﻟﺪﺍﺧﻞ ..
ﺿﺞ ﻣﻦ ﺭﻓﻀﻬم المتخفي. فلم ﻳﻜﻦ ﺑﺎﺳﺘﻂﺎﻋﺎﺗﻬﻢ ﺍﻟﺒﻮﺡ ﺑﺸـيﺀ.. وﺿﺠﻮﺍ ﻣﻦ ﺗﻬﻤﻴﺸﻪ ﻟﻬﻢ. ﻛﺎﻥ ﻳﻤﻠﻚ ﻛﻞ شيء، ﻭﻟﻢ ﻳﻜﻦ أﻣﺎﻣﻬﻢ أﻥ ﻳﺨﺘﺎﺭﻭﺍ.. ﺗﺴﺎءﻞ أﺣﺪﻫﻢ، ﻫﻞ ﻳﻤﻠﻚ ﺍﻟﻘﺎﺩم أﻳﻀﺎ. ﻫﺰﻭﺍ ﺭؤوسهم. ﻓﻜّﺮﻭﺍ ﻓﻲ ﺍﻟﻬﺮﻭﺏ، ﻟﻜﻦ ﺍلأﺑﻮﺍﺏ ﺍﻟﻤﻮﺻﺪة ﻭﺍﻟﻤﻔﺎﺗﻴﺢ ﺍﻟﻤﻌﻠقة ﻋﻠﻰ صدره بإﺣﻜﺎﻡ أﻭﺻﺪﺕ ﺍﻟﻤﺴﺎفة ﺑﻴﻨﻬﻢ ﻭﺑﻴﻦ ﺍﻟﻤﺠﻬﻮﻝ ﺍلأﻓﻀﻞ. ﻭﻣﻊ أﻧﻪ ﻛﺎﻥ ﻳﻨﺎﻡ ﺑإﺣﺪى ﻋﻴﻨﻴﻪ ﻣﻐﻠقة ﻭﺍﻟﺜﺎنية متيقظة ﺗﻤﺎﻣﺎ، ﻛﺎﻥ ﻳﺮﺗﺎﺏ ﻓﻲ ﻛﻞ شيء ﻭﻳﺤذر ﻣﻨﻬﻢ ﺟﻤﻴﻌا. لكنهم ﻏﺎﻓﻠﻮﻩ. ﺍﺟﺘﻤﻌﻮﺍ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﻗﻴﺪﻭﻩ. ﺯﺟﻮﺍ ﺑﻪ ﻓﻲ أﺑﻌﺪ ﻏﺮﻓة ﻭﺍﻧﺘﺰﻋﻮﺍ عن عنقه ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﻔﺎﺗﻴﺢ. ﻓﺘﺤﻮﺍ الأﺑﻮﺍﺏ ﺍﻟﻤﻮﺻﺪة ﻣﻬﺮﻭﻟﻴﻦ. ﻭﺟﺪﻭﻩ أﻣﺎﻣﻬﻢ ﻣﻨﺘﺼﺒﺎ فقفلوا عائدين.
الظل..
رأيته منزويا في حانيه. اقتربت. طلت الدهشة من عينيه بانزعاج غائم.
– من أنت؟
– أنا أنت!
تطابق الظلان على أرض الشارع، وانسلخا عن ظل واحد.
لا عزاء لأحد..
ﻓﻜّﺮ ﻛﺜﻴﺮا ﻗﺒﻞ أﻥ ﻳﺒﺪأ ﺍﻟﺘﻨﻔﻴذ. ﻭﻟﻢ ﻟﺎ، إﻧﻪ الأﻭلى بتقبل ﺍﻟﻌﺰﺍﺀ في ﻧﻔﺴﻪ، أﻋﻠﻦ ﻓﻲ ﺻﺤيفة ﻋﻦ ﻣﻮﺗﻪ ﻭأﻗﺎﻡ ﺳﺮﺍﺩﻕ ﺍﻟﻌﺰﺍﺀ ﻓـي ﺍﻟﻤﻮﻋﺪ ﺍﻟﻤﺤﺪﺩ. ﺑﻌﺪ صلاة ﺍﻟﻌﺸﺎﺀ ﺣﻀﺮ ﺍﻟﺸﻴﺦ، ﻭﺍﺭﺗﻔﻊ ﺻﻮﺗﻪ ﺑﺎﻟﻘﺮآﻥ ﻣﻦ ﺧﻠﺎﻝ جهاز ﻣﻜﺒّﺮ ﺍﻟﺼﻮﺕ. ﻭﻗﻒ ﻓﻲ ﻣﺪﺧﻞ ﺍﻟﺴﺮﺍﺩﻕ، ﻣﺴﺘﻌﺪﺍً ﻟﻤﺼﺎﻓﺤة ﺍﻟﻤﻌﺰﻳﻦ. ﺍﻧﺘﻬـى ﺍﻟﺸﻴﺦ ﻣﻦ ﻗﺮآﻧﻪ. وﻟﻢ ﻳﺤﻀﺮ أﺣﺪ!
الحكم آخر الجلسة:
«أعلن الحاجب بصوته الجهوري انقضاء الجلسة. وقف الجميع واصطفت المحكمة. القاضي في الوسط وإلى يمينه مستشار وإلى يساره آخر. نادى الحاجب على القضية الأولى؛ الجاني والمجني عليه وقفا في مواجهة القاضي. سأل القاضي الجاني «ما اسمك؟» أجابه. نظر إلى المجني عليه فوجده يحمل ملامح الجاني نفسها، فسأله اسمه، فأجابه الإجابة نفسها. نظر القاضي إلى جمهور الحضور، وجدهم جميعا يحملون الملامح نفسها. استدار إلى مستشاريه وأعلن «الحكم في نهاية الجلسة»
روائي مصري
شكرًا أخي إبراهيم عبد المجيد. لاأحب قراءة الأدب ولاأستطيع متابعته في الحقيقة. لكن لفتني في نهاية المقال قصة الحكم آخر الجلسة , (لاأعرف ماذا تعني إبيجرمات!). كنت متأثرًا في الماضي بقول أبو العلاء المعري, هذا جناه إبي عليّ وماجنيت على أحد. لكن بعد بعض التجارب العمرية تبين لي أن من الصحيح أن نقول, كلنا ضحيا وكلنا جناة. أعتقد هذا هو نفس المعنى المقصود بكلام السعيد الورقي وتمنياتنا له بالصحة والشفاء.
رحم الله ايام قصر ثقافة الحرية. كان عبد الوهاب الأسواني ومحمود عوض عبد العال، وشبلول، وعبد الله هاشم ، وسعيد ذلك الترزي ذي الخاتم الذهبي الذي نسيت اسمه كاملا، ومعيدة قسم الانجليزي (نسيت اسمهاأيضا)، وحلمي القاعود، والسيد الهبيان،والدينامو عواطف عبود- الله يرحمها، وآخرون يملأون الندوة حيوية ونشاطا، وكانت براءة القلب ونضرة الأيام حتى بعد النكسة أو الوكسة، تغطيان على الفقر والمتاعب والآلام. تحية لصديقي وزميلي السعيد بيومي الورقي ، ومتعه الله بالصحة والعافية.