عن الإسلاميين والعسكر ومقولة وجهَي العملة الواحدة

حجم الخط
7

ارتفعت بُعيد وفاة الرئيس المصري المُعتقل محمد مرسي، نتيجة ظروف حبسه منذ الانقلاب عليه من قبل الجنرال عبد الفتاح السيسي، أصواتٌ يسارية وليبرالية عربية تقارب الأمر بحياد. حجّة الأصوات المذكورة أن لا فارق بين الإسلاميين والعسكر، وأن الطرفين “وجهان لعُملة واحدة”، وأنهما يتساويان عداءً للديمقراطية، ولا حاجة بالتالي لموقف قد يبدو تأييداً لواحدهما.

على أن الحجّة هذه، خاصة إذ تُعلَن لحظة وفاة رئيسٍ مُنتخب في أول انتخابات حرّة في تاريخ مصر، ومُعتقل منذ ست سنوات في سجون العسكر المنقلِب عليه، تثير الكثير من الأسئلة عن ثقافة الديمقراطية ذاتها وعن فلسفة حقوق الإنسان ومفهوم العدالة لدى مُعتنقيها.

في تهافت الحياد التبسيطي

من هذه الأسئلة مثلاً ما يرتبط بالموقف من الاعتقال السياسي والتنكيل بالمُعتقل والتسبّب بموته، بمعزل عن أي عامل عقائدي أو هويّة سياسية، وهو ما أدّى حتى الآن إلى “مقتل” العشرات (وإعدام العشرات غيرهم) في السجون والمحاكم المصرية المكتظّة بما يزيد عن الخمسين ألف معتقل.

من الأسئلة أيضاً ما يتعلّق بالتبسيط الذي يجمع الإسلاميين جميعهم، بتياراتهم المختلفة والمتنابذة الخيارات، في سلة واحدة، فيصبح السلفي الدعوي والإخواني والجهادي متماثلين، حتى لو كان بعضهم متحالفاً مع خصوم البعض الآخر، والتكفير قائماً بين عدد من أطرافهم، والموقف من الاقتراع والمشاركة السياسية فارزاً لهم بين رافض ومشجّع. ويُفضي الجمع التبسيطي هذا غالباً إلى تبرير إجرام أنظمة العسكر عند استهدافه فئات موسومة بالإسلاموية، واعتباره شكلاً من أشكال الصراع على السلطة لا حاجة لرأي سياسي أو حقوقي فيه ولا حتى لتدقيق في خصائصه وديناميّاته وتبعاته.

ومن الأسئلة كذلك، أن الإسلاميين المشاركين في الانتخابات والفائزين بها، أصحاب مشروعية شعبية وأحقية تمثيل لا يغيّر فيها الاختلاف (العميق) معهم حول مرجعيّاتهم الفكرية وبرامجهم السياسية وأدواتها. وهم بهذا المعنى، وعلى خلاف العسكر الانقلابيين المستندة مشروعيتهم إلى الدبابات والسجون وأجهزة المخابرات، يملكون مسوّغات المشاركة السياسية كاملة. والزعم الصحيح بانتهازيّتهم لا يجعل منهم مختلفين عن معظم التيارات غير الدينية، الانتهازية بدورها وفق ما تقتضيه مصالحها وتحالفاتها الانتخابية. أما تكرار القول بسعيهم لتأبيد السلطة بين أيديهم فنظرّية قد تكون صائبة، لكن التجربة لم تُثبتها بعد، إذ أنهم لم يحكموا مرة نتيجة انتخابٍ حر دون أن تقتلعهم انقلابات عسكرية أو عقوبات دولية (من جزائر التسعينات إلى مصر اليوم، وبينهما غزة العقد الماضي)، في وقت لم يترك لهم تعاقب الانتخابات في تونس بعد العام 2011 والقبول المرحلي بحكمهم القدرة على البقاء في السلطة أو تأبيد امتلاكها. والتأبيد المذكور عملياً، وبعيداً عن النظريات والتنبّؤات، لم يكن حتى الآن في جمهوريات العالم العربي سوى سمة أنظمة العسكر المستظلّة بالقومية أو اليسار أو المدّعية علمنةً، من بعثَي سوريا والعراق إلى قوميّات مصر واليمن وليبيا والجزائر وسواها.

الأهمّ ربما، أن دُعاة الحياد والقول بوجهي العُملة الواحدة يتناسون أمرَين لطالما أفضيا إلى كوارث ما زلنا نعيش آثارها. الأول، أن قمع “الإسلاميين” في جميع الحالات المعروفة ترافق، أو تسبّب لاحقاً، بقمع سائر القوى السياسية والتيارات المعارضة، يسارية كانت أم ليبرالية. حصل هذا في مصر نفسها وفي العراق وسوريا وليبيا، وهو يتكرّر راهناً. والأمر الثاني، أن تدمير الحقل السياسي على ما يفعل العسكر في كلّ مرّة يسطون فيها على حُكمٍ، هو المبعث الأول على تغذية التطرّف (والعدمية)، وجعل الإسلاميين الأكثر تشدّداً ورفضاً للتسويات والمساومات والبراغماتية السياسية يتقدّمون على حساب منافسيهم، مع ما يؤدّي إليه الأمر من احتمالات عنف وصدام وظلامية وسيادة لمقولات الابتزاز المألوفة إياها.

في خطورة الحياد بين العنف وصندوق الاقتراع

بهذا المعنى، لا يمكن لراغبين في تحوّل ديمقراطي عربياً، أو في اعتماد المشاركة السياسية والتنافس المفتوح وصندوق الاقتراع الدوري والدساتير والتشريعات الوضعية أدوات تحكيم بين الاتجاهات ومنطلقات لتشكيل السلطات، أن يختاروا الحياد بين جلّاد وضحية، وأن يبرّروا الأمر على أساس أن الضحية البارحة واليوم قد تكون جلّاداً غداً، أو أنها لا تختلف عن الجلّاد في شيء. فالاختيار هذا يعني القبول بالعنف بديلاً عن السياسة، والوقوع في فخّ التواطؤ مع نظريّات التخيير بين أصناف العنف ومراجعه أو البحث عن وضع هرميّات له ولمُعتمِديه.

أكثر من ذلك، يُعيد الحياد تكريس منطق سلطوي عربي ساد طيلة الثمانينات والتسعينات وبدايات الألفين، تمرّدت عليه ثورات العام 2011 وانتفاضاتها قبل أن تُعيده الثورات المضادة والصراعات الطاحنة، مفاده استحالة الديمقراطية وحصر الخيارات بين ثنائيات، وبين سيناريوهات أحلاها مرّ.

هل يعني هذا أن لا تواطؤ في أحيان كثيرة بين أضداد يحتاج واحدها للآخر ليبرّر تسلّطه أو مظلوميّته؟ بالطبع لا. وهل يعني أن لا نقد ضرورياً ومشروعاً لتجربةٍ مثل تجربة الرئيس الراحل محمد مرسي خلال سنة حكمه التي فشل فيها في إدارة الاقتصاد المتهاوي وسعى إلى فرض دستور جديد لم توافق عليه قوى وشرائح مصرية عديدة وحابى “الدولة العميقة” معيّناً أحد رموزها عبد الفتاح السيسي ذاته وزير دفاع، بما قلّص من قدراته التحالفية شعبياً وسهّل عملية الانقضاض عليه؟ بالطبع لا، أيضاً وأيضاً.

على أننا نبقى، بعد التساؤل والنقد، أمام معادلة لا ينفع ترداد القول بتماثل طرفيها للهروب من تحديد الموقف المبدئي والآني تجاهها. فالسعي إلى كسرها أو إلى الفرز الديمقراطي الفعلي لتعديل مفاعيلها والانتهاء من ابتزازها يمرّ عبر التموضع غير المشروط ضد الجلّاد فيها، والبقاء في نفس الوقت على مسافة سياسية وفكرية واضحة من ضحيّتها…

* كاتب وأكاديمي لبناني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سامي الصوفي:

    هذه أحلى مقالة للأستاذ زياد ماجد. يسلّم الأيادي.

  2. يقول .Dinars.:

    ناس بكري قالوا ” اطعم الفم تستحي العين ”
    إردوغان لما وصل الحكم ضاعف الأجور بأموال كان من الممكن أن يستغلها كتعويضات لمنتسبي حزبه الأحياء منهم والأموات لكنه فكر في أن يجعل الشعب وِجاءا لإستقرار الحكم حتى لا تُنغص عليه الإعتصامات أو بقطع الطرق بالعجلات المطاطية المشتعلة. كما أنه بتحسين وضع شعب تركيا لم يُمكن الفَسَدَة من الحكم حتى لا يتراجع الإقتصاد.
    ما تسمى بالترويكا لو أنها عملت على منوال إردوغان لما تردى الحال إلى ما هو عليه الآن ولما تعطل الإنتاج ولما فر المسثمر.
    ولكنها الفلوس التي تجعل من الرماد بسيسة ومن العطش ماءا للمصانع الجديدة على حساب من لم يُقم لهم وزنا ممن يدعون السياسة.

  3. يقول مدافع عن خيارات الشعوب:

    فعلا و حقا , النخبة الليبرالية الفاشلة و الفاسدة تستخدم صفات مثل اليمين الشعبوي لتحط من خصومها الذين يختارهم الشعب بكل ديمقراطية و للتغطية على فشلها بالانتخابات الأوروبية و الأمريكية .. هذا ضد الديمقراطية و ضد خيار الناس .. ترامب و فكتور أوربان و قريبا ماري لوبين و فراج يمثلون خيار الشعوب , اختلفنا معهم أو قبلنا بهم لكننا نحترمهم و أولا و قبل أي شيء نحترم إرادة الشعوب و نتائج صناديق الانتخابات

  4. يقول تيسير خرما:

    بالعالم العربي يشكل منتسبوا المؤسسات العسكرية والأمنية ومتقاعدوهم والمؤسسات الخدمية التابعة لهم وعائلاتهم وأقربائهم وأصدقاؤهم ثلثي مواطني كل دولة، ويبقون الأقرب لعامة الشعب وللمتدينين المعتدلين ولمعظم أصحاب المصالح التجارية والصناعية وللأغلبية الصامتة التي تخرج عن صمتها كلما نزلت نازلة بالوطن أو انفلت أمن وسلام المجتمع، وبالتالي لا تنجح فئة تعاديهم أو تحاول إقصاءهم بالوصول للسلطة أو البقاء فيها حتى لو استعانوا بدول غربية ومؤسسات مجتمع مدني ممولة من الغرب ومغتربين متأهبين لقنص السلطة وشفط الثروة.

  5. يقول محمد على:

    الحقيقة ان الليبراليين عندهم حق
    والدليل ان كثير منهم اعطوا اصواتهم لمرسى وكانوا
    سبب فى حصوله على ٥٢٪؜ من الأصوات
    ولولاهم لما فاز مرسى فى انتخابات الرئاسية
    وكان اول خطاب لمرسى بعد فوزه
    موجه الى عشيرته وليس الى الشعب المصرى
    ومن هنا فهت كل القوى فى مصر ان الاخوان
    استغلوهم
    وكانت النتيجة هى فقد الثقة فى جماعة الاخوان
    وهذا ما يحدث فى مصر الان
    وهو لا أمان لجماعة الاخوان

    1. يقول SIDDIG:

      العامل المشترك الأعظم فى كل هذه الاتجاهات السياسيه والأديان السماويه هو الإنسان وهو المشكله الحقيقيه خلق جهولا.

  6. يقول خالد محمود:

    الحقيقة اكثر تعقيدا مماذكرته كثيرا. فاليمين الديني في مصر (الجماعات الاسلامية) هو الذي بدأ بطبعة فاشية ، قتل سياح _حادث حتسبشوت) وقتل اقباط (عشرات الحوادث وقتل مفكرين (فرج فوده) وتصفية الحركة الطلابية الديمقراطية اليسارية والليبرالية بالجنازير حتى توصيلها لنقطة صفر ، وفصل الطلبة عن الطالبات بالسياط وماء النار ، هذا موقف الجماعات ، اما موقف الاخوان
    المسلمين فاحيلك الى اعداد مجلة الدعوة الصادرة باسمهم عام 1976، والتي كانت مانشيتاتها الاساسية (هجوم على الاقباط، هجوم علي اليسار ، هجوم علي اليهود كونهم يهود لا كونهم صهيونية)،، كما ان الطرفين كانا حليفا السادات الى ان اختلفا في القسمة. ناتي
    بعد ثورة يناير ،قاد الاخوان حلف يمين ديني اوله هم ووسطه جماعات جهادية واخره طابور السلفيين الذي هو سلطة نهارا وسلفية جهادية ليلا ، هذا علاوة علي حزب التحرير الاسلامي (امارة مصر) ، وفي الخلفية (ولاية سينا) بمنطق نحن ضدها وهي تحبنا . هذا من طرف ، ومن طرف اخري حلم بمشروع تحالف مع العسكر اختلفوا فيه علي الانصبة. وسط هذا كله

إشترك في قائمتنا البريدية