عن الإغواء الكاذب للمكان

لطالما سألت نفسي عن الإغواء الذي يشدني لشخصية «زوربا» لم يكن ذلك بسبب الإجماع الذي ينسى فيه المرء نفسه وينساق بروح الانبهار العموميّة؛ حيث يمكن فقدان السبب الذي لأجله نقع في غرام فكرة، أو فيلم أو مكان، أو حتى شخص. ولا بسبب علاقاته النسائية التي جعلت زميلي يحاول جاهداً أن يكونه، مختزلاً صورته كما فعل كثيرون إلى رقصةٍ أو مجرد مغوٍ.
لا أذكر بالضبط سرُّ جاذبيته، وما تبقى في ذهني سوى كلمة واحدة «الكرز». ما علاقة زوربا بالكرز، لا بدّ أني نسيت، فقد مرّ وقت طويل. وسأكتب الآن بدون عودة للرواية، لأحتفظ بروح الجهل الأصليّة والأصيلة حيّة في داخلي. أسأل نفسي هل كان يحب الكرز؟ وما علاقة ذلك بالهدية التي أحضرتها لي زميلتي من سرغايا ظهيرة يوم جميل «صندوق كرز صغير» كنت أعيش على سفرة الدرج بمحاذاة باب السطح، غضّت الإدارة الداخليّة للسكن، الطرف عني، فقد كنت أنظف المكان بروح مستخدم مخلص، كما أن وجودي يمنع حالات الانتحار بين العاشقات الخائبات. وهي على ندرتها تسبب ذعراً وإرباكاً للجميع.
كانت علاقتي بالمكان تشبه علاقة المكان بي، وعلاقة المقيمات في الطابق الأخير من الوحدة الرابعة بوجودي.. رفض ثم اعتياد، ثم حب ببساطة (يكشف الصبر هنا عن فضيلة كبيرة، تدعى الوقت). صحيح أن الصبر لا يربح دائماً لكن الوقت يفعل.
هناك تعلمت أن الاعتياد يصنع الحب، وبإمكانه أن يقتله، لكن لا يمكن للحب إلا أن يعترف بقوة الاعتياد الطاغية، وأن ينحني حين يمر (تعرف زميلاتي اللواتي وقعن في غرام رجال متزوجين ما أقصده). وكما تكشف الشعارات الرنانة عن القصور الأخلاقيّ، تكشف المعرفة عن الجهل، والمشاعر الجياشة عن الفراغ، وإلاّ من يفسر لي انتحار سيلفيا بلاث وبافيزي وفرجينيا وولف؟ لا بد أنكم تعرفون قصة «السيرينات» اللواتي يغوين البحارة العابرين بغنائهن. وأحد منا لا يجهل عودة أوديسيوس لإيثاكا، ولو جهلنا فكيف نجهل الحنين، وثقل المشاعر وحب المكان وبيت الطين، هل هذا ما تتم مقايضته لنا؟ هل هي مقايضة عادلة أن يعطينا المكان الحزن؟ (الحزن: هدية الحنين). يطلق عليه علم النفس النستالوجيا «مرض العظماء والأمهات، العودة إلى المفقود، إنه صراع الخفة والثقل يتم حله عند نيتشه بالعود الأبدي، وفي الأزمنة الموازية عند بورخيس، بالنسبة لمانغويل تتكفل رائحة الكتب بتفتيت الأوهام، وصنع بدائل أشدّ متانة.
في المكتبة المركزية، أو في مكتبة أخرى – تخونني الذاكرة ولا أحتفظ سوى بصورة الطاولة المبقعة بالقهوة، وشخبطات التلاميذ، وحكمٍ شعبية. ورسم بذيء لعضو أنثوي وعبارات حب ملاصقة له، هناك قرأت الغريب. (الرعب والجمال في الوقت ذاته) الخفة أمام الموت، أمام القرارات، وأمام الحزن، وحتى القتل، بعيداً عن التقييم الأخلاقي. جاذبية التحرر من المشاعر تشبه ارتداء بدلة رائد الفضاء، تمنيت لو كنت الغريب كما تمنى زميلي قبلاً لو كان زوربا المغوي طبعاً، وهذا أيضاً قصور شديد في فهم زوربا الحقيقي الذي ينتمي للحياة.
لقد عايشت هذا النزاع بين الخفة /الثقل، وكانت الحريّة بالنسبة لي في الانتصار على الذاكرة، لكن سيوفي الخشبية كانت تُقابَل بطواحين الذكريات التي تبدو كمردة، ولا حامل سلاح معي.

اخترعت الشعوب ما يسمى «الحداد» كي يأخذ الحزن وقته.. ويأخذ الحنين وقته، والمكان وقته. هذا فعل الوقت وفضيلته الوحيدة أنه يمزق ستارة الجهل ليكشف عن جهل أعمق.. ندعوه أيضاً في محاولة منا للتشتيت (الحكمة).

في ليلة رأس السنة وحين سافرت الطالبات لقضاء الوقت مع عشاقهن، أو الأهل والأقارب، تركن في جحري مفاتيح غرفهن مع عبارة شديدة الكرم «البرد قارس نامي في الغرفة» فيه أكل وفي كل شي، نامي في سريري. دخلت إحدى الغرف بخشوع راهب يدخل مقاماً.. المكان دافئ ومعطر برائحة جميلة.. مطربانات المؤنة تصطف كجنود كسارة البندق.. استلقيت فوق سرير مرتب وتلمست الشوفاج الدافئ.. ياه….
لكن ما بالها عيني وقد جفاها الرقاد!
عدت من الطريق ذاته، اقفلت الباب، وصعدت الدرجات بهدوء لص، بينما ينعكس ظلي كقرصان مخيف على الجدار، هويت فوق سريري البارد ككومة حجارة، وتابعت الأنوار المتناثرة التي تصلني من شرفات بنايات المزة، ومن فوق ظهر قاسيون. سيارات مسرعة للاحتفال! ألعاب نارية، وأصوات ابتهاج.. والبرد! لم أفهم سلوكي يومها ولن أفهمه!
بعد سنوات من مغادرتي المكان فكرت في زيارته.. كانت الذكريات «سيرينات» تغني لي، عن الحب وكومة المفاتيح وضحكات البنات ودموعهن، لكن ما إن صعدت الدرجات حتى صعق كلانا (أنا والمكان) التقينا وجهاً لوجه، المكان لم يتعرف إليّ، فلم أتعرف إليه، قفزت راكضة، تحت أنظار الفتاة التي كانت تذاكر فوق السرير الحديدي، الشابة السمراء التي لم تعد أنا. حين قرأت «الجهل» لميلان كونديرا استوقفني رعب «إرنا» من العودة إلى بلادها، وعلى مدار الرواية يحاول كونديرا أن يشرح الخديعة التي يقوم بها «سينمائي اللاوعي» فهو يرسل لها لقطات سعيدة نهاراً عن مسقط الرأس، ويعرض أمامها ليلاً عودات مرعبة للمكان ذاته. كان كونديرا في العمق وفي هذا النص بالذات يفعل ما نفعله جميعاً يكتب «ليبرر نفسه أمام نفسه وأمامنا نحن قراء المستقبل».
منذ سنوات حين بدأت رحلة التنقل من بيت إلى بيت، شعرت بالخفة أخيراً تحررت من ألم الحنين، هل كان عليّ أن أستغرق كل هذا الوقت؟ (قلت معاتبة روحي) رافقت أوديسيوس وتأملت رحلة حنا يعقوب في «دروز بلغراد». هل يمكننا العودة إلى أماكن هجرناها؟ ماذا عن العود الأبدي العظيم.. ماذا عن الوهم البورخيسي. ما الذي عثر عليه حنا يعقوب، شابة حسبها زوجته وإذ هي ابنته ومكان لا يعرفه. في شاعرية أحلام اليقظة يلح باشلار على فكرة العودة، والحنين، يصف البيت الجميل وهري الشعير، لكن باشلار غارق الآن في المجاز فلا تلوموه، ألم يقل أحدهم يوماً من الصعب أن نقدم للقارئ الحقيقة، لذا نعمل على أن نشتت انتباهه وعواطفه! التشتيت! هذه بالضبط الكلمة اللغز، التي كنت أبحث عنها.
تأخذ البيوت مادتها من الخيال، فتسكن فضاء أثيرياً، يتكون من اللغة والأحلام العميقة، تعيد البيوت التشكل عبر المخيلة، يحدث ذلك في المنافي التي يصل الناس لها بقوارب النجاة، يجعل الحنين منها قصيدة، أو رواية أو عمود نثر، ويمكن هنا للبيت أن يزداد صلابة بمجرد الحديث عنه، ويتغذى على الحنين فيفقد طبيعته الواقعية، وهذه البيوت تصبح المقصد والقبلة والوجهة، لكنها لا تحتاج إلى تحريك القدمين – فقط المخيلة – من تورطوا وحركوا القدمين نحوها تاهوا في الصحارى، أو برك الدم تسمى هذه البيوت في بعض الأدبيات «الجنة» وفي أدبيات أخرى «الوطن».
هذه البيوت تترك أصحابها معطوبين في حال تجاوز وجودها اللغة، أو قصائد الحنين. وهناك خطورة واحدة تتمثل في أن رؤية البيت الواقعي قد تقضي على (ابن المخيلة) فيتحول الأخير إلى خيبة لا فكاك منها، يعرف الشعراء ذلك جيداً، لذا فهم يضحون بالبيت الواقعي لصالح «المتخيل» يشبه الأمر حين يضحون بالمرأة الحقيقية لأجل امرأة القصيدة. السينما والرواية والفن والأدب هي محاولة لاستعادة المكان هي محاولات لتشتيتي ـ لكنني أقبل تشتيتي بوعي، ولا أقبل خداعي أتفهم أيها الفن، لا يرغب مخرج فيلم عن الوطن بالعودة إلى وطنه. وفي التاريخ قصص كثيرة عمن كان بإمكانهم أن يعودوا ولم يفعلوا ولن يفعلوا. الآن فهمت لقد رفضني المكان، هذا كل ما في الأمر، الأماكن أيضا ترفض وتنبذ، لم يكن هناك أي حنين، وأي ألم وأي شيء… فراغ… فراغ كبير. كان محال على المكان استردادي، وكان من المستحيل أن أسترد المكان.. نتبادل العهود يوماً وننقضها في اليوم التالي فما المشكلة.
اخترعت الشعوب ما يسمى «الحداد» كي يأخذ الحزن وقته.. ويأخذ الحنين وقته، والمكان وقته. هذا فعل الوقت وفضيلته الوحيدة أنه يمزق ستارة الجهل ليكشف عن جهل أعمق.. ندعوه أيضاً في محاولة منا للتشتيت (الحكمة).

كاتبة سورية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية