لم تفز باكستان بكأس العالم للكريكيت، وهي اللعبة “الكومنولثية” بامتياز، سوى مرة واحدة عام 1992، يوم قاد منتخبها عمران خان. كان عمران قد بلغ الأربعين عاماً آنذاك، ما جعل كأس العالم بمثابة تتويج واختتام لمسيرته الرياضية، في بلد تعتبر فيه الكريكيت الرياضة الأكثر شعبية على الإطلاق، تماماً كما هي الحال في الهند أو في سريلانكا.
بالنسبة لبلد يعاني من مشكلة مزمنة في ظهور “أبطال ونجوم” كاريزماتيين يخترقون البيئات الأهلية المنطوية بازاء بعضها البعض داخله، بدت للحظة أن هذه الندرة يمكن أن يُعوَّض عنها بمجذاف اللعبة الأكثر شعبية.
نجومية عمران ملأت فراغاً حينها، وفي لحظة حساسة. فباكستان كانت في عامها الرابع من بعد انتهاء تجربتها الثانية مع الحكم العسكري، التي بدأت بانقلاب الجنرال ضياء الحق على رئيس الوزراء “اليساري” ذو الفقار علي بوتو عام 1977 ثم اعدام بوتو شنقاً بعد ذلك بعامين، وانتهت بمصرع الجنرال ضياء الحق في حادث تحطم طائرته صيف 1988 وفوز حزب الشعب الباكستاني بقيادة بينظير بوتو ابنة ذو الفقار بالانتخابات التي تلت ذلك وبرئاسة الوزراء، بما عدّ استئنافاً للديمقراطية (مع أن باكستان وقت حكم والدها كانت تتجه بالأحرى الى نظام الحزب المهيمن والسلطوي).
لم تتمكن بينظير وقتذاك من الاحتفاظ بالسلطة لأكثر من عامين، لأن رئيس الدولة غلام اسحاق خان، وعلى خلفية اتهامات موجهة لبوتو الإبنة وعائلتها بالفساد وبتدهور الحال الأمنية في البلاد قام بحل المجالس المنتخبة جميعها ففاز جناح نواز شريف من “الرابطة الإسلامية” في انتخابات 1990. بالتالي، كان شريف هو رئيس الوزراء عندما فاز عمران خان بكأس العالم، وبينظير في المعارضة مجدداً. المفارقة هنا أن عمران خان كان اعتزل اللعبة أول مرة بعد فشله في بطولة 1987 أول مرة أجريت فيه مباراة كأس العالم للكريكيت خارج بريطانيا، وباستضافة مشتركة من كل من الهند وباكستان، لكن الجنرال ضياء الحق هو الذي طلب منه العودة عن الاعتزال.
لكن اللحظة يوم فاز عمران بالبطولة العالمية كانت بعد انتهاء ديكتاتورية ضياء الحق، وعودة تداول السلطة بين الأحزاب، في بلد اتسم تاريخه منذ ظهوره عام 1947 في اثر تقسيم شبه القارة الهندية، بنمطين من التداول على هذه السلطة: التداول على السلطة بين العسكر وبين المدنيين من جهة (!)، والتداول على السلطة بين الأحزاب إنما على أرضية هشاشة مؤسساتية من جهة ثانية.
بخلاف بينظير بوتو التي عانت الأمرين من العسكر بعد إعدام والدها، وسجنت مراراً ونفيت وأصرّت على العودة بشجاعة الى باكستان قبل عامين من مقتل قاتل والدها، فقد نمت ظاهرة رجل الأعمال نواز شريف، المتحدر من عائلة تجار كشميريين تقيم في البنجاب، بتشجيع من الجنرال ضياء الحق. لكن، وفي لحظة كان يظهر فيها أن بينظير لا تزال نوستالجية للتأميمات والدولة الإجتماعية وشعار “مأكل ملبس مسكن” الذي رفعه حزب والدها المنادي بالإشتراكية، وفي وقت بدا كل ذلك غير منسجم مع ما كان يخرج الى العلن من قضايا فساد مرتبطة بعائلتها وحزبها، فقد رفع نواز راية الخصخصة واقتصاد السوق جنباً الى جنب مع المحافظة الإجتماعية بشكل عام.
ظاهرة عمران خان مركبة، لم يكن فقط كابتن الكريكيت الوطني الذي فاز بالكأس، بل كان أيضاً “السكس سمبول” بلا منازع ولعقود والناس تتابع زيجاته وغرامياته
نجح نواز شريف في بناء قاعدة متينة له في البنجاب، متمحورة حول نواة من كبار التجار والمقاولين ورجال الأعمال، على حساب طبقة الملاك العقاريين التقليدية، في حين لن يتمكن “حزب الشعب” بعد ذو الفقار من العودة بقوة الى البنجاب حيث أكثرية السكان، وسيتحول مع الوقت الى ظاهرة تتكثف في ولاية السند الجنوبية.
في وجه هذه الثنائية بين “الرابطة الإسلامية – فرع نواز” وبين “حزب الشعب الباكستاني” بقيادة بوتو، لن يتمكن عمران خان من صرف نجوميته الكريكيتية في الشأن العام بسرعة. بعد تعاقده أسس جمعيات خيرية، ثم أسس حركة سياسية، “الإنصاف” عام 1996. لكنها بقية هامشية لسنوات غير قليلة. كان يظهر أنه لا مكان لمنافس ثالث يضاف الى ثنائية حزب آل بوتو “اليساري” وحزب آل شريف “المحافظ”. تراشق هذان الحزبان بتهم الفساد واختلاس المال العام والتسبب بتدهور أرزاق الناس والأوضاع الأمنية. نمّا ذلك خطاباً أخذ يسوّق له العسكر مفاده أن هذه الثنائية الحزبية مُهلكة للبلد، وأن التراشق بين قطبيها بتهم الفساد يدخل في نطاق التواطؤ الدفين بين الحزبين، وبالنتيجة عاد العسكر الى الانقلاب مجدداً عام 1999، مع اطاحة الجنرال برويز مشرف بنواز شريف. نمت حركة الإنصاف بقيادة عمران خان في هذه المرحلة التي تولاها العسكر، وتذهب الباحثة الباكستانية مريم مفتي في مساهمتها من الكتاب الجماعي عن باكستان “الاستمرار ما بين الديكتاتورية والديمقراطية” (2020) الى أن ما قامت به حركة عمران هو تبني خطاب يسوّق له العسكر في العادة ضد الأحزاب، انما انتشال هذا الخطاب في الوقت نفسه من العسكر وجعله خطاب مواطنين، أو بشكل أساسي خطاب الطبقة الوسطى، لكن الحركة لم تبق طويلاً كذلك على ما تشدّد عليه مفتي، إذ تحولت الى حالة يعتمد أكثر فأكثر توسعها على انتقال كوادر حزبي الثنائية، الى هذا الملتقى المتمحور حول ظاهرة عمران خان. في الوقت نفسه، سمحت حركة الانصاف بمشاركة أوسع فيها للنساء مقارنة مع الحزبين الكبيرين الآخرين، لكن زعيمها عمران اشتهر بحراكه ضد التعاون الباكستاني الأمريكي في الحرب ضد الجماعات المتشددة بوزيرستان، بحيث خلع عليه أخصامه لقب “طالبان خان”، وتدخل من باب الغمز أيضاً الى إثنيته الباشتونية. يضاف الى ذلك اكثار حركة الانصاف من الإحالات للنموذج الإسلامي عن الفضيلة كما يتجلى في أعمال الشاعر والمفكر إقبال اللاهوري.
ظاهرة عمران خان مركبة، لم يكن فقط كابتن الكريكيت الوطني الذي فاز بالكأس، بل كان أيضاً “السكس سمبول” بلا منازع ولعقود والناس تتابع زيجاته وغرامياته. هذا في مرحلة لم يكن فيها بامكان السينما الباكستانية أن تقدم نجوماً يدخلون ضمن هذا المضمار، فالموجة الصحوية الدينية التي كان الجنرال ضياء الحق عرابها، لاستئصال تركة ذو الفقار علي بوتو، كانت أتت على هذه السينما، بعد أن كانت تنافس بوليود في الستينيات، أيام أفلام وحيد مراد وزيبا. لم تستفق السينما من الغيبوبة التي دخلتها بعد انقلاب ضياء الحق. عمران خان استطاع أن يعوّض اذاً عن هذا الغياب أيضاً.
وظاهرته مركبة لأن فيها من ناحية، استعادة لخطاب العسكر في الأساس “ضد فساد الأحزاب”، مع تمثل هالة ذو الفقار علي بوتو بشكل أو بآخر، وبخاصة في الخطابية الأنتي إمبريالية، التي كانت بينظير أول من تخلى عنها.
ثم أن تركة ذو الفقار ضاعت الى حد كبير. ما بين ابنه مرتضى الذي أسس “تنظيم ذو الفقار” الماركسي الثوري المتطرف وقاد عمليات عنيفة ضد نظام ضياء الحق معتمداً على التعاون مع أفغانستان الشيوعية ومع النظامين السوري والليبي، وانتهى به الأمر مقتولاً عام 1996 من قبل أجهزة الأمن، في وقت كانت شقيقته رئيسة الوزراء (وهناك من يوجه أصبع الإتهام بجدية لها)، وما بين الأخيرة المتهمة بقتل أخيها، لكن المتهمة بعد أكثر بزواجها من شخص، آصف زرداري، الذي لا يشبه بوتو الأب في شيء، والذي فتك الى حد كبير بهذه التركة، لكن التي حصدت في نفس الوقت هالة من الشجاعة الكفاحية في وجه العسكر مرتين، كلفتها في الأولى سجناً، وفي الثانية اغتيالها.
ومنطق عمران خان لليوم هو كذلك : طالما ان التحريك القائم ضدي هو بقيادة نواز شريف وآصف زرداري بايعاز من أمريكا فأنا قوي شعبياً بوجه الحزبين السلاليين. لكن ذلك يحدث في بلد لا تنحصر السياسة في التزاحم بين أحزابه، بل إن للعسكر والاستخبارات فيه شوكة قوية. مثلما ان الأمور لا تنحصر كذلك في ثنائية مدنيين وعسكريين، لأن المحكمة العليا، أعلى سلطة قضائية هي أيضا سمة أساسية في التاريخ السياسي لهذا البلد. صحيح أنها صادقت أكثر من مرة على انقلابات عسكرية، لكن العسكر أيضا لم يتمكنوا في أي يوم من تطويعها اليهم، وكانت في كل مرة تخرج عن طوعهم وتجبرهم على تسليم الحكم مجدداً للمدنيين أو تحبط مساعيهم للتدخل في شؤونها الداخلية كمحكمة. وهذا فارق مركزي بين باكستان وبين النظم في المنطقة العربية.
٭ كاتب لبناني