عن السمّ الأطول بقاءّ…

حجم الخط
0

تلك الشخصية في رواية «سمّ في الهواء» سمتُها التنقّل بين الأمكنة. لسنا هنا في ذلك العالم الواسع، كما في رواية الكاتب جبور السابقة، «ملك الهند» التي هاجر بطلها إلى أمريكا وأوروبا. هذه الشخصية الأخيرة، لكون «سمّ في الهواء» هي آخر رواية للكاتب، لم تبرح لبنان. هناك شخصيات ثانوية مثل خالة الراوي، عرفت العالم البعيد، وهناك شخصيات من بلدان أخرى كانوا أصدقاء له، لكن بطل الرواية مكث هنا.. لكنه مع ذلك كثير التنقّل. أول خروج له كان من بلدته، لكن إلى بلدة أخرى أكثر أمنا، ثم إلى بيروت وأحيائها الكثيرة، معدّدا لدى كل انتقال الأسباب التي تجعل البقاء حيث هو مستحيلا.
في بلدته، وهي مكان الرواية الأولى، كان التقاتل بين الأهالي محدودا في البداية، لكنه ما لبث أن صار مهدِّدا بموت الجميع، وكذلك كانت الحال في بيروت التي راحت تندلع فيها مواجهاتها وحروبها. جبور الدويهي قسّم حياته، أو حياة بطله، إلى محطات حرب، حيث تلت محطة بلدته الأولى مواجهةُ 1958، ثم مواجهة 1973 بين الجيش والمقاومة الفلسطينية، ثم حرب 1975 التي استمرت ما يزيد على خمسة عشر عاما، ثم تلت ذلك فتنٌ واستعدادات لمواجهات وحروب مقبلة. أما ما أنهى به الكاتب روايته الأخيرة هذه، فهو السطور الأخيرة التي خطّها قلمه قبل رحيله، فهو الانفجار الذي هزّ بيروت هادما قسما منها. لم يعلّق الدويهي في روايته على هذا الإنفجار ولم يطنب في تعليله أو في وصفه، لقد ذكرَه من أجل أن يقول إنه أدرك حدوثه، وإن سلسلة الموت التي عدّد حلقاتها مستمرة ولن تنقطع.
«سمّ في الهواء» سيرة عيش عامة تُروى عن حياة شخص فرد. جميع مجايلي جبور الدويهي، أو مجايلي بطله، يقسّمون عيشهم تبعا لهذه المحطات ذاتها، وهم يروون ذلك بطريقة ما يروي جبور عن بطله. في روايته السابقة، ما قبل الأخيرة، رجع بهذه المحطات العنيفة إلى قرن أو قرنين مضيا، بادئا بفتنة 1840 ثم فتنة 1860، التي استكملت، في الرواية، بتنازع الطوائف حول قطعة من الأرض. كأن ما يصنع التاريخ وحِقَبَه هو الحروب. وهذه، في الرواية الأخيرة، تستتبع بما يستجره العنف المقيم، دائما، على سير الشخصيات وطبائعها وأمزجتها.

في أحيان يتبدّى لقارئ الرواية أنه، لولا بعض التفاصيل التي تميّز كتابة جبور الدويهي، أنه يقرأ سِيَر كثيرين لا سيرة رجل واحد، وهذا دأب الدويهي االذي تبدو معالم الحياة اللبنانية ومحطّاتها راسمة لمسار شخصيات على اختلافها.

بطل الرواية الأخيرة، في بداية حياته، يبدو كما لو أنه يعمل ما بوسعه ليكون قدوة لنفسه. مجتهد في المدرسة، وبلا مشكلات، وقارئ نهم، وهذه العادة الأخيرة لازمته حتى الجزء الأخير من الرواية، أو من حياته الأرضية، أي قبل أن يلوّح بجناحيه ليحلّق مع الحمام «بعيدا نحو السماء الزرقاء حيث اختفيت، في الأفق البعيد». لكنه، مع ذلك، يعيش حياة متكسرة تنتهي بأن يقتني بندقية، هو المسالم بطبيعته وتكوينه، ويبدأ بالتصويب على السيارات العابرة من تحت منزله. هذا التحوّل حصل في آخر عزلته عن العالم، تلك التي سبقتها إقامته في السجن، وإن كان وجوده بين السجناء أشبه بكونه مقيما بين أصدقاء.
الإقامة في السجن التي تلتها العزلة، والتي سبقتها الإقامة الطويلة في الفندق، ولنزد على ذلك المدرسة التي علا فيها وعشق، بل تزوج إحدى معلماتها، ثم تلك البيوت الأخيرة التي تنقل بينها مع عائلته التي كانت تتغيّر وتتبدّل ليصير مقيما كل مرة مع أقارب أكثر بعدا عنه في قرابتهم، الأمكنة إذن، الأمكنة المتنوّعة الكثيرة، هي القواعد التي يقوم عليها البناء السردي للروائي الراحل. هناك، في تلك الأماكن المتبدّلة، يستطيع الروائي أن يخلق لبطله شخصيات جديدة مرافقة في كل حين. كيف كان يمكن له أن يتعرف على ذلك الرجل نزيل الفندق، المرتدي دائما بدلة بيضاء ولا يختلط بأحد من النزلاء باستثناء بطلنا. ومن أين كان له أن يتعرف على السجين الكردي، المقاتل التائب. فقط من الأمكنة المتباينة، المتعارضة، كمثل تعارض المدرسة مع السجن والحانة، يستطيع الروائي أن يوسع الفروق بين الشخصيات التي يرغب في تكثيرها، وتنويعها تاليا.. ذاك من أجل ألا تقع في التماثل فيصير واحدها قليل الوجود بسبب قلة تميّزه عن سواه. من بين هذه الشخصيات ذاك الفتى، ثم الشاب، ابن الخالة الزنجي الذي ربما كان ثمرة واحدة من مغامراتها في افريقيا. أحسب أن الكاتب جاء به إلى الرواية ليشكّل فاصلا أو لونا في لوحة العالم الذي يصفه، وليس من أجل طرح قضية ما من نوع التمييز أو العنصرية ضد المختلف.
في «سمّ في الهواء» شخصيات كثيرة وأمكنة كثيرة، وأزمنة كثيرة أيضا طالما أن الرواية تتناول سيرة حياة كاملة لشخص يحمل في وعيه كل ما عاشه جيله. في أحيان يتبدّى لقارئ الرواية أنه، لولا بعض التفاصيل التي تميّز كتابة جبور الدويهي، أنه يقرأ سِيَر كثيرين لا سيرة رجل واحد، وهذا دأب الدويهي االذي تبدو معالم الحياة اللبنانية ومحطّاتها راسمة لمسار شخصيات على اختلافها.

٭ «سمّ في الهواء» هي الرواية الأخيرة لجبّور الدويهي، صدرت عن دار الساقي في 207 صفحات لسنة 2021. كنا في عدد سابق، عقب رحيل الكاتب، قد تناولنا بالقراءة عمله السابق «ملك الهند» حيث ذكرنا في خاتمته أننا سنعود إلى قراءة عمله الأخير.

كاتب لبناني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية