عن الموصل وسياسات ما بعد تنظيم «الدولة»

مرت قبل أيام الذكرى الخامسة لسقوط مدينة الموصل بيد تنظيم «الدولة» (داعش)، والذي استدعت حملة عسكرية واسعة، وتحالف دولي، لطرد التنظيم من المدن الرئيسية التي سيطر عليها بداية من كانون الثاني/ يناير 2014، وآخرها مدينة الموصل في حزيران/ يونيو من العام نفسه. ويبدو اليوم أن الجميع محليا وإقليميا ودوليا، يعترف بأن المشكلة الجوهرية في العراق هي مشكلة سياسية، وأن العنف وتبعاته، بما فيها ظاهرة «داعش» نفسها، ليس سوى نتاج لهذه المشكلة؛ مع ذلك لم يعد للحديث عن ضرورة أن تكون هناك مقاربة سياسية لمعالجة هذه المشكلة الجوهرية، مكان في المشهد اليوم!
ولعل أبرز ملامح ذلك، محليا، هو عودة الحديث عن «المؤامرة» «المتخيلة»، التي أدت الى سقوط الموصل، وسقوط ثلث العراق معها، في محاولة مفضوحة لإنكار السياسات الطائفية التي أدت إلى تلك الكارثة! لأن الاعتراف بأن ما تم كان نتيجة وليس سببا، يستدعي بالضرورة معالجة العوامل الموضوعية التي شكلت المقدمة المنطقية لهذه النتيجة! وهو ما لا يريد أحد القيام به في العراق! بل على العكس، يبدو واضحا اليوم، أن ثمة محاولة منهجية لتكريس المقدمات نفسها، وبشكل أكثر تطرفا، خاصة وأن الحرب، قد فرضت على المناطق المحررة، بالقوة المفرطة، أمرا واقعا جديدا أكثر إشكالية مما كان عليه الأمر في مرحلة ما قبل «داعش»!
كانت سليمان بيك، في محافظة صلاح الدين، أول المناطق التي تمت استعادة السيطرة عليها في نهاية أيلول/ سبتمبر 2014، وبعيدا عن التدمير المنهجي الذي وثقته منظمة هيومان رايتس ووتش، في تقريرها الصادر في آذار/ مارس 2015، فإن النازحين منها، ولأسباب طائفية بحت، ممنوعون من العودة إليها! وقد تكرر السيناريو نفسه في مدينة جرف الصخر، جنوب بغداد، التي تمت استعادتها في نهاية تشرين أول/ أكتوبر 2014، ولايزال النازحون منها، ولأسباب طائفية أيضا، ممنوعين من العودة إليها، بشكل رسمي هذه المرة!
وقد حدث هذا سيناريو أيضا في مناطق أخرى؛ ففي مدينة يثرب، في محافظة صلاح الدين، تم فرض وثيقة مذلة ومجحفة على أهلها، في مقابل السماح لهم بالعودة إليها (تم توقيعها في تموز 2016)! وقد تكرر ذلك، في المحافظة نفسها، مع مدينة «عزيز بلد» (تم توقيع الاتفاقية في مايو/ايار2017).
هذه الممارسات، التي مثلت جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية (بموجب اتفاقية جنيف الرابعة وبروتوكولها الأول، وبموجب نظام روما الأساسي الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية)، كانت، وما تزال، تحظى بغطاء رسمي من الدولة العراقية، وتحظى بتواطؤ صريح من المجتمع الدولي، وبتواطؤ أشد وضوحا من الأمم المتحدة، من خلال تعمد بعثة يونامي عدم الإشارة إلى هذه الوقائع في تقاريرها على الرغم من توثيقها لها! وثمة خشية حقيقية من أن هذه الممارسات قد تستمر في مناطق أخرى، تحديدا في مناطق حزام بغداد، والمنطقة المرشحة لتكون الهدف التالي هي منطقة الطارمية شمال بغداد!

الدولة العراقية تحصر مفهوم «إعادة الإعمار» في البنية التحتية فقط، وليس في الإصلاح الهيكلي سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وأمنيا

إن الصراع على الجغرافيا ليس مرتبطا بلحظة تنظيم الدولة/ داعش تحديدا ومحاولة الأطراف جميعها الاستفادة منه لفرض وقائع جديدة على الأرض بالقوة، بل هي امتداد لعمليات منهجية ذات طبيعة طائفية (قومية ودينية ومذهبية) بدأت بعد الاحتلال في العام 2003، كانت تهدف لتصنيع مناطق صافية هوياتيا. وكانت لحظة تفجير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء في شباط/ فبراير 2006 الفرصة الذهبية لتكريس ذلك، تحديدا في بغداد.
ورغم الاعتراف واسع النطاق، بأن سلوك القوات العسكرية والأمنية العراقية وتصرفاتها، سواء فيما يتعلق بالفساد، أو ما يتعلق بالاعتقالات العشوائية، أو ما يتعلق بإذلال المواطنين والحط من كرامتهم، كان سببا رئيسا في إنتاج ظاهرة «داعش»، من الواضح أيضا أن هذا السلوك، وهذه التصرفات، لا تزال هي الحاكمة، ولكن هذه المرة بوطأة أشد، لاسيما مع انتشار فصائل الحشد الشعبي غير المهنية وغير المنضبطة والتي لا يمكن محاسبتها، في هذه المناطق، وحرصها على أن تحظى بموارد إضافية بشتى الطرق! ولكن، وكما في المرات السابقة، ثمة إصرار على أن توفر «الدولة» الغطاء الرسمي لأي أفعال أو انتهاكات. هكذا وجدناها تمتنع عن المتابعة الجادة للحالات العديدة التي تم كشفها، أو توثيقها، بل وجدناها تمتنع عن إعلان نتائج بعض التحقيقات النادرة التي تم تشكيل لجان تحقيقية لمتابعتها! ففي حالات الاختفاء القسري للآلاف في مناطق الرزازة والصقلاوية والكرمة وسامراء وغيرها، لم يتم إعلان نتائج التحقيقات الرسمية، على الرغم من أن عدد المختفين قسرا تجاوز 6000 مدني!
المعضلة الأبرز فيما يتعلق بسياسات ما بعد «داعش»، هي تخلي الدولة عن مسؤولياتها، بالكامل، تجاه المناطق التي تعرضت لتدمير واسع بسبب الحرب. ففضلا عن أن الدولة العراقية تحصر مفهوم «إعادة الإعمار» في إعمار البنية التحتية فقط، وليس في الإصلاح الهيكلي سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وأمنيا، والذي يشمل قضايا جوهرية مثل العدالة والمصالحة، والحكم الرشيد والشفافية والمساءلة! فإن مراجعة الخطط والتخصيصات المتعلقة بهذا الموضوع تكشف عن افتقاد استراتيجية أو رؤية حقيقية لإعادة الإعمار، كما تكشف عن عدم تخصيص أي مبالغ إضافية لهذه المناطق مقارنة بالمناطق التي لم تتعرض لآثار هذه الحرب! إضافة إلى ذلك فإن الدولة العراقية تعتمد اعتمادا مطلقا في موضوع إعادة إعمار هذه المناطق على المنح الدولية الخارجية، مع إدراكها أن هذه المنح لن تستطيع أن تحل سوى جزء بسيط من المشكلة! والمعضلة هنا أن الدولة لا تهتم إلى ما يمكن أن يشكله العجز عن إعادة الإعمار، بالتالي بقاء أزمة النازحين، من نتائج سياسية واجتماعية وأمنية مستقبلية وكأن الامر يحدث في دولة أخرى!
إن بقاء هذه السياسات وتكريسها، فضلا عن السياسات الأخرى المتعلقة بطبيعة النظام السياسي، وبناء الدولة، وتعمد تطييفها. مع أزمة تمثيل سني غير مسبوقة، بسبب عجز الفاعل السياسي السني عن تبني سياسات حقيقية قادرة على تمثيل مصالح جمهوره، أو الدفاع عنه، مع بقاء استراتيجية إقليم كردستان محصورة في سياق العلاقة بين المركز والإقليم، بعيدا عن أزمات المركز البنيوية. وأخيرا استمرار الفاعل السياسي الشيعي في احتكار القرار السياسي والأمني والاقتصادي، من خلال مؤسسات الدولة، ومن خلال السلاح أيضا، كل ذلك يؤشر إلى استمرار العراق في أدوار الأزمات المتتالية.

كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    الطائفية بالعراق قدمت من إيران مع الإحتلال! ولن تزول هذه الطائفية ما لم تزول ميليشيات إيران بالعراق!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول احمد فرحان الكبيسي:

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته شلونك اخوي يحيى انا احمد الكبيسي اعلامي ممكن تتواصل معي علا هاذا البريد [email protected]

إشترك في قائمتنا البريدية