تجنح المقاربات العربية الأكثر تداولاً حول طبيعة ومدى الانقسامات في المجتمع الإسرائيلي إلى الرغبويّة، ويُؤسَّس على هذه الرغبويّة رغاءٌ كثير.
فمقولة «ما بُنيَ على باطل هو باطل» يُراد تكريسها في هذه المقاربات على أنها في آن واحد نقطة الانطلاق الواجبة ونقطة الوصول المحسومة. وهي تصلح مدخلاً لمقاربة مسائل في النحو أو في الفقه، ويمكن أن يُستفاد منها للتعبير عن استنفار أوليّ ضد ظالم، وفي هذا السياق ضد استعمار استيطاني شرس وكثير الدجل. بل وقد تصلح مقولة «ما بني على باطل فهو باطل» كمنظار مستقبليّ بعيد المدى، يُقاس بتوالي الأجيال، ويرجّح عدم قابلية اجتماع بشريّ مركّب في بضعة عقود من الزمن على الاستمرار حصيناً متغطرساً في وجه مجاميع السكان «الأكثر بلدية» والأوغل في التاريخ الُمعاش للمنطقة والأوزن ديموغرافياً. ولو أن القسمة هنا لا يمكن أن تكون بين «اجتماع طبيعي» وآخر «صناعي»، إلا في المجاز. إذ ليس هناك على وجه البسيطة من مجتمع ملاييني لم تتدخل أنماط التحديث في التسريع من إيقاع الحركة التي تدبّ فيه، سواء بشكل إلحاقيّ معطوب هنا، أو بشكل أكثر تروّياً وتحسّباً هناك. القسمة بين «الطبيعي» وبين «الصناعي» كما «المصطنع» لا يسعها أن تكون مدخلاً لمقاربة العلاقات الاستعمارية، ولا مدخلاً لمقاربة العلاقة بين المجتمعات المبنيّة على الصنف الاستيطاني من الاستعمار وبين الأنسجة الأهلية، الفلاحيّة خصوصاً، الذي تسبّب هذا الصنف باقتلاعها من أرضها وترحيلها، أو تحشيدها وحبسها في جزء يسير من هذه الأرض.
إن كانت الإبادة الحاصلة في القرن الماضي من صنع الأوروبيين المسيحيين، فإن خطر الإبادة يأتي هذه المرة من الشرق الإسلامي، والسلاح الوحيد في مواجهته هو الهمجية الحربية بإزاء فلسطينيي غزة
بالدرجة نفسها، لئن كان من الممكن الاستعانة بمقولة «ما بني على باطل فهو باطل» بقصد إبراز الظلم الفائق أو بقصد الاستشراف البعيد المدى للمآل، غير أنها لا تصلح سنداً لمقاربة السوسيولوجيا السياسية لإسرائيل، وللبتّ في واقع حال التماسك المجتمعي فيها، وتقدير العمق الذي تتركه أزماتها الحكومية على نظامها السياسيّ.
خذ على سبيل المثال القسمة بين اليهود «الأشكيناز» القادمين من أوروبا الوسطى والشرقية، وبين اليهود القادمين من المجتمعات العربية والإسلامية من «المزراحيم». المقاربة الرومانسية العربية لا تنفكّ ترى في «المزراحيم» صلة نسب وقربى لا يمكن أن يجمعهم بالأشكيناز مجتمعاً واحداً إلا بشكل مؤقت و»غير طبيعيّ»، وعلى سبيل القنبلة الموقوتة. المسكوت عنه في التصور القومي العربي، وبالوراثة، الإسلاموي حول إسرائيل أن تناقضاً يحكمها بين «الآريين» الأشكيناز و»الساميين» المزراحيم!
أما المقاربة الليبرالية «السلامية» العربية فتشغف في المقابل بالقسمة بين مجتمعين يهوديين في إسرائيل، أحدهما ليبرالي – علمانيّ يراد التعويل عليه أو التلطّف له بباقة من «أدب النصيحة»، وآخر موتور وحبيس النظرة الأسطورية للأرض والوعد والعلاقة مع الآخرين.
«الحلم السعيد» للرومانسيّ القوميّ في النظرة إلى السفارديم والمزراحيم، هو أن يراهم فجأة وقد قلبوا الطاولة على الأشكيناز. تبعاً للقسمة الخرافية بين «الطبيعي» وبين «الاصطناعي» هؤلاء أبناء المنطقة، في مقابل «الرجل الأبيض» الأشكينازي.
«الحلم السعيد» لليبراليّ – السلاميّ في المقابل هو أن يرى مجتمع تل أبيب الدنيويّ العصريّ يطيح بابتزاز المستوطنين والقوى الدينية.
لكن إسرائيل كاجتماع سياسي هي أكثر تعقيداً ومراوغة بكثير من هذين الحلمين. لا يعني هذا أنها ناجحة على الدوام في إدارة كل من الهرمية والتعددية بين يهودها، شرق أوسطيين وشرق أوروبيين، يتامى المؤسسة اليسارية أو على يمين اليمين، لا دينيين أو حريديم، لكن لا شيء يفيد أن التناقضات التي تعتمل في مجتمعها، والتصدّعات في مؤسساتها، قد أصبحت تناقضات تفجيرية. لقد أجلت إسرائيل منذ نهاية الأربعينيات ثم غضت الطرف عملياً عن كتابة دستور مفصّل لها، ليس لأنها ترغب في الدستور الشفوي على الطريقة البريطانية، بل لأن ترغب في عدم تحديد أشياء كثيرة، إما لأن لا مصلحة للالتزام بهذا التحديد مسبقاً، كما في حال امتداد المساحة والحدود، وإما للإدراك بأن لا أرضية للتفاهم بشأنها، بخاصة فيما يتعلق بعلاقة الدولة بالدين. هذه المسائل العالقة ليست بالضرورة صواعق محتبسة. إنها تنسج حولها هالة من «التابوات»، بما يجعلها شبيهة إلى حد ما بمفهوم «أسرار الدولة». لأجل ذلك، مهما كان حجم التناقضات في الداخل الإسرائيلي فإنها ستظل تناقضات «تساكنية» وليس «انشطارية»، هذا ما لم يتبدّل على نحو نوعيّ ميزان القوى في الإقليم والعالم.
يلعب إنتاج وإعادة إنتاج الذاكرة المتعلقة بالإبادة الألمانية ليهود أوروبا دوراً أساسياً في تأمين شبكة تماسك مجتمعي لإسرائيل، أو قل بالأحرى شبكة تماسك أو مساكنة بين التناقضات والتوترات التي تعتمل في هذا المجتمع. في الوقت نفسه، وبما أن المحرقة تعني الذاكرة الأشكينازية بالدرجة الأولى، مثلما تعني السردية القومية لحرب 1948 الأشكيناز بالدرجة الأولى، فهذا لن يدفع المزراحيم في المقابل إلا للاحتياج إلى ذاكرة مرارة من نوع آخر، وهذا يتأمن من خلال تقديم نظرة حادة لتاريخ أهل الكتاب يهوداً ونصارى في ظل حضارات الإسلام، ونظرة تعيد الاعتداءات على اليهود في بغداد وحلب وطرابلس الغرب في أربعينيات القرن الماضي إلى هذه المعاناة المريرة، وقد أريد جعلها أكثر أصالة وخطورة من امتدادات اللاسامية الأوروبية ومن تداعيات الصراع بين حركة الاستيطان اليهودي في فلسطين وبين حركة أبناء الأرض من العرب. بمعنى آخر، يوكل المشروع الصهيوني للسفارديم «معمل الإسلاموفوبيا الحيوي». وهذا ليس بتفصيل عارض: فهو يعني أنه، لئن ارتبط الإسهام الأشكينازي في الحفاظ على الدولة العبرية بالإدغام بين ذاكرة الإبادة الألمانية وبين «السردية الملحمية» لإقامة الدولة وحربها التأسيسية (النكبة)، فقد وقع على عاتق المزراحيم إنتاج الخوف الوجودي المستقبلي من المسلمين مأخوذين ككتلة، حتى ولو أن الواقع الحالي لا يشي أبداً بأن المسلمين المليار ونصف المليار يهبون ككتلة لنصرة غزة، فما أبعد الواقع عن هذا التهويم. السردية الإسرائيلية تقول إذاً لليهود في إسرائيل وفي العالم ككل أنه، إن كانت الإبادة الحاصلة في القرن الماضي من صنع الأوروبيين المسيحيين أو ما بعد المسيحيين، فإن خطر الإبادة يأتي هذه المرة من الشرق الإسلامي، والسلاح الوحيد في مواجهته هو الهمجية الحربية بإزاء فلسطينيي غزة، والتعويل في المقابل على «الصحوبية» مع بعض الأنظمة العربية.
حتى الآن، لم يفرز المجتمع الإسرائيلي أي ظاهرة اجتماعية مضادة لتقسيم العمل هذا بين التخويف مما حصل (الهولوكوست)، وبين التخويف الإسلاموفوبي من المستقبل.
لا تختصر كل السياسة في إسرائيل ولا كل الثقافة بالاستثمار والعيش في كنف هذين الخوفين، الرعب من الحاصل على يد «حضارة» والرعب مما هو قابل لأن يتكرر، إنما على يد «حضارة أخرى». لكنها لا تختصر أيضاً في هشاشة التركيبات الحكومية، وهي هشاشة يوازيها في المقابل هيمنة ليكودية «مستقرة» على الخيارات الأساسية للدولة منذ نهاية السبعينيات إلى اليوم. بين هذين البعدين، يستمر الهيام والتهويم عربياً حول الانقسامات الحادثة أو المرتقبة في إسرائيل، كما لو كان المخيال يشتاق هنا لانتهاج سياسة «فرّق تسدّ» بين الإسرائيليين إنما في إطار الوجدان العربي، وليس في الواقع المجتمعي الإسرائيلي نفسه.