قلنا في مقال الأسبوع الماضي انه لن يكون هناك سباق داخل مجلس النواب العراقي نحو تسجيل الكتلة الأكثر عددا، والتي يكلف مرشحها برئاسة مجلس الوزراء. وهو ما أثبتته جلسة يوم الاثنين الماضي 15 سبتمبر/ أيلول، حين انتخب رئيس مجلس النواب ونائباه من دون ان يأتي أحد على ذكر الكتلة المفترضة! وقلنا أيضا إن إعلان تحالف «سائرون» عن تخليه عن ترشيح العبادي لولاية ثانية بشكل لا لبس فيه، سيعيد انتاج تحالف يضم كلا من «سائرون» و«الفتح»، وإن من دون إعلان رسمي، وهذا ما حصل في انتخاب النائب الأول لرئيس مجلس النواب؛ فقد تم الاتفاق على سحب مرشح تحالف «البناء» لهذا المنصب لصالح مرشح تحالف «سائرون» الذي حصل على 210 أصوات، في حين لم يستطع مرشح تحالف «البناء» لمنصب رئيس مجلس النواب سوى الحصول على 169 صوتا من مجموع 298 صوتا، وهو ما يعني ان عددا كبيرا من أعضاء تحالف «البناء» صوتوا لصالح مرشح «سائرون»! وبالتأكيد لا يمكن لهذا الاتفاق ان يقتصر على مسألة النائب الأول، بل سيشمل أيضا صفقة نواب رئيس الجمهورية، ورئاسة مجلس الوزراء وكابينته الحكومية!
أمريكيا أيضا، قلنا إن الوقائع على الأرض، ستفرض عليهم الابتعاد عن التجريدات الساذجة، ومن ثم التعامل مع هذه الوقائع ببراغماتية بعيدا عن النماذج المفترضة، وهذ ما حصل أيضا، فقد اضطرت الولايات المتحدة للقبول برئيس مجلس نواب قادم من تحالف البناء، والقبول بنائب اول وثان كانا نتاجا لاتفاق مع تحالف «البناء». وذهب الأمريكيون نحو التعاطي مع موضوع رئيس الجمهورية مع الكرد، مع يقينهم أن الاتفاقات، وليس الافتراضات المجردة، هي التي ستنتجه هذه المرة أيضا!
حكمت الزبائنية الدولة بمؤسساتها جميعها، وحولتها إلى إقطاعيات عائلية وجهوية وحزبية ومذهبية ترعى من خلالها مصالحها
فالصراع بين الحزبين الكرديين الرئيسيين؛ الديمقراطي والاتحاد الوطني، الذي تصاعد بعد ازمة الاستفتاء وفرض على الحزبين الدخول إلى انتخابات 2018 منفردين للمرة الاولى، ربما يجعلنا أمام معادلة مختلفة إذ ظل منصب رئيس الجمهورية من حصة الاتحاد الوطني (الراحل جلال الطالباني لثلاث دورات، والدكتور فؤاد معصوم)، ولايزال الاتحاد يصر على أن يكون هذا المنصب من حصته (تم ترشيح الدكتور برهم صالح، العائد من الانشقاق، إلى هذا المنصب رسميا). في مقابل ذلك ثمة إصرار من الحزب الديمقراطي، ومن الرئيس مسعود بارزاني شخصيا، على الحصول على هذا المنصب هذه المرة، وهذا الإصرار يتطلب في النهاية الوصول إلى اتفاق يتعلق بموضوعين حساسين للغاية، هما آلية انتخاب رئيس الإقليم من جهة، وموضوع كركوك من جهة اخرى. وفي حالة فشل الحزبين في الوصول إلى اتفاق او تسوية لهذه المسألة، فهذا يعني أنهما سيذهبان بمرشحين لمجلس النواب، على أن تحسم الاتفاقات التي يتوصلان اليها مع الأطراف الاخرى، الأمر في النهاية. وهذا يجعل الإيرانيين، وليس الأمريكان، مرة اخرى عامل الحسم الاهم!
وقلنا أيضا إن القواعد التي حكمت تشكيل الحكومات الثلاثة السابقة في الاعوام 2006 و2010 و2014 ستحكم تشكيل الحكومة القادمة، تحديدا فيما يتعلق بدور الفاعلين الأمريكي والإيراني. ومن الواضح أن اتفاق سائرون ـ الفتح غير المعلن يؤكد هذه الحقيقة، مع إمكانية أن يكون هناك بطبيعة الحال، بعض التغييرات على مستوى الشكل؛ أي أن يكون هناك مشاركة شكلية من المتحالفين السنة ضمن تحالفي البناء والإصلاح، فضلا عن مشاركة شكلية كردية، في تمرير مرشح كتلتي «سائرون» و«الفتح»! وهو أمر خبرناه عام 2006 عندما اعترض الكرد والسنة على الولاية الثانية لرئيس مجلس الوزراء الأسبق ابراهيم الجعفري، على الرغم من أنه كان مرشحا للكتلة الشيعية الاكبر حينها، وهو اعتراض ما كان له أن يتحول إلى واقع من دون الفاعل الأمريكي الذي رفض حينها ولاية ثانية للجعفري! مع ان مرشح رئيس مجلس الوزراء في الدورتين اللاحقتين، كان حصرا من الكتلة الشيعية الأكبر في مجلس النواب دون ان يشارك الاخرون في ترشيحه. مما يعني أن تحالف «الفتح» ـ «دولة القانون»، المدعوم إيرانيا، سيكون حريصا تماما على ان لا يدفع بمرشح لرئاسة مجلس الوزراء، بل سيدفع بمرشح ينتمي لتحالف الفتح ولكنه يحظى بعلاقات جيدة مع الولايات المتحدة الأمريكية! بالمقابل سيكون تحالف «سائرون»، الذي لا يزال يحمل شعار السيد محمد محمد صادق الصدر مؤسس التيار الصدري: (كلا كلا أمريكا) ضمن تراثهم الثوري، حريصا هو الآخر على أن لا يدفع بمرشح لهذا المنصب يكون غير مقبول أمريكيا، لكنه لا يتقاطع في الوقت نفسه مع النفوذ الإيراني في العراق!
ومن هنا يبقى السؤال الجوهري، إذا كانت القوى السياسية في العراق محكومة بوقائع تفرض شروطها، فهل ستمارس السلوك السياسي نفسه الذي استمرأته وكرسته خلال السنوات الماضية، والذي لم ينتج سوى الفشل على جميع المستويات. أم أن لديها الإرادة والإمكانية لاعتماد سلوك بديل، يستطيع مواجهة التحديات التي يتعرض لها النظام السياسي، والقوى السياسية على حد سواء، من فقدان الثقة بالطبقة السياسية، والمشاركة المتدنية في الانتخابات، وصولا إلى حركة الاحتجاج؟
لقد حكمت الزبائنية الدولة بمؤسساتها جميعها، وحولتها إلى إقطاعيات عائلية وجهوية وحزبية ومذهبية ترعى من خلالها مصالحها، وهو ما أنتج بنية فساد مستحكمة، مع عجز لمؤسسات الدولة عن القيام بمهامها! وهذا يتطلب من الجميع التفكير الجدي من أجل إيجاد بدائل، في إطار النظام نفسه، قادرة على ايقاف التدهور على الأقل، والبدء بمقاربة جديدة يمكنها على المدى القصير والمتوسط، تصحيح مسار الدولة ولو في الحد الادنى المقبول.
٭ كاتب عراقي