التفكير في الخروج من ضيق القنوات المالية الدولية ليس جديداً، وليس حكراً على دول «بريكس»، فكثيراً ما شكلت تحديات مثل العقوبات الأحادية، دافعاً للبحث عن طرائق تجارية لا تمر عبر الوسيط الأمريكي. فكّرت دول الجنوب في الاستعاضة عن الدولار الأمريكي بالعملة الأوروبية «اليورو»، لكنهم سرعان ما اكتشفوا أن هذه الاستعاضة هي مجرد عمل رمزي بلا قيمة، لأن كلتا العملتين مرتبطتان ببعضهما بعضا، وأن أي تحويل بنكي أو تعامل تجاري، وإن لم يكن للدولار أو للأمريكيين علاقة مباشرة به، فإنه لن يلبث أن يمر بالبنوك الأمريكية.
تطلع كثيرون بتفاؤل لولادة «بريكس» وتحمسوا لتوسعتها أملاً في أن تلعب دور المعادل الموضوعي للهيمنة الغربية، والبديل، الذي يمكنه كسر طوق احتكار طرق التجارة
تعتبر الولايات المتحدة نفسها مسؤولة عن الأمان المالي العالمي، لذلك فهي تفرض «التعاون» على الجميع، بنا في ذلك الحلفاء الأوروبيين. يتم بهذا تمرير المعاملات المصرفية والتبادلات عبر آليات مراقبة معقدة، ظاهرها مكافحة الجريمة والإرهاب وغسيل الأموال، وباطنها التأكد من أن أي طرف لن ينجح في تجاوز المرجعية الدولارية.
في ظل هذا الواقع تطلع كثيرون بتفاؤل لولادة «بريكس» وتحمسوا لتوسعتها أملاً في أن تلعب دور المعادل الموضوعي للهيمنة الغربية، والبديل، الذي يمكنه كسر طوق احتكار طرق التجارة. لم يكن مهماً أن يشترك جميع الأعضاء في معاداة الولايات المتحدة، أو محاولة تحدي هيمنتها، ولكن كان يكفي أن يكونوا مؤيدين لفكرة تعدد الأقطاب والخيارات. المفارقة، التي يصعب تجاوزها حينما يتعلق الأمر بمجموعة «بريكس»، التي عقدت قمتها الأسبوع الماضي في جنوب افريقيا وسط آمال كبيرة، هي أن أول من صاغ اسمها كان الاقتصادي البريطاني والخبير في مجموعة «غولدمان ساكس» المرموقة جيم أونيل. تحدث أونيل في مقال له في عام 2001 عن أربع دول صاعدة وسريعة النمو وهي، البرازيل والصين وروسيا والهند. اشتق أونيل اسم «بريك» من الأحرف الأولى لهذه الدول، لتتحول الكلمة لاحقاً إلى «بريكس» بعد ضم جنوب افريقيا. تكمن المفارقة في أن المجموعة، التي ترى في نفسها، أو يرى فيها الآخرون، بديلاً للنظام العالمي الحالي، إنما نشأت بشكل غير مخطط له، كبنت من بنات أفكار اقتصادي غربي. وقت طويل مرّ على إيراد أونيل لهذه الملاحظات، التي ستكتسب أهمية كبيرة، والتي ستحافظ على أهميتها لوقت طويل، صحيح أن بعض دول «بريكس» تراجعت بشكل لافت، في الوقت الذي ظهرت فيه على الساحة اقتصادات أخرى، إلا أن المجموعة لا تزال محورية حينما يتعلق الأمر بغذاء العالم وطاقته وعدد سكانه. نقول إنه لو كانت ملاحظات أونيل قد كتبت في عامنا الحالي، فإنها وإن شملت الصين، التي ما تزال محتفظة بهيبتها، على الرغم من تعرضها لبعض الهزات، والبرازيل، التي عانت، وما تزال، من أزمات سياسية واقتصادية، فالأكيد أنها لن تكون شاملة لروسيا، التي يصعب الحديث عنها اليوم كدولة جاذبة للاستثمار. عام2001 كان عام هجمات سبتمبر/أيلول الشهيرة، التي شكلت صدمة كبيرة على المستوى الدولي، بالنسبة للاقتصاديين ورجال الأعمال كان هناك تساؤل عما إذا كانت دول العالم الأول ما تزال آمنة للاستثمار. أونيل كان يقول في أطروحته إنه بالإمكان أن يجرب رجال الأعمال أسواقا جديدة وشراكات مع دول مستقرة وواعدة. فكرة التحول لتكتل يتحدث بصوت واحد سرعان ما راقت للدول الأربع، التي بادرت لدعوة جنوب افريقيا في عام 2010. اختيار جنوب افريقيا كان فيه تمثيل للاقتصادات الافريقية، فالبلد كان هو الآخر واعداً. خرج التكتل إلى النور بسرعة وأصبح بإمكان دوله أن تتحدث بصوت أقوى في الاجتماعات الدولية. خلال مسيرة المجموعة الممتدة منذ عام 2006، إبان أول اجتماع للرؤساء، فإن أهم إنجاز حقيقي كان إنشاء «بنك التنمية الجديد»، الذي كان الغرض منه أن يعمل بطريقة موازية لطريقة عمل «البنك الدولي»، فيدعم الاستثمار ويقدم التمويل لمشاريع البنية التحتية، لكن بشروط أقل جشعا وأكثر رحمة. يعد بنك التنمية اليوم أهم أسباب حماس الدول للانضمام للنادي الناشئ، كما يعد سببا أيضا لفتح باب قبول دول جديدة، خاصة من تلك التي يمكن أن تساهم بسخاء في ميزانية البنك. يعمل البنك الآن بطريقة تجعله لا ينحصر في الدول الخمس، ويقبل شراكات مع غيرها، بل إنه قبل بالفعل أعضاء من خارج دول «بريكس».
الوجود ضمن تكتل سياسي أو اقتصادي لا يعني التوافق التام في الرؤى، وهي قاعدة تنطبق على كل التجمعات الدولية، لكنها تظهر بشكل واضح في مجموعة «بريكس»، خاصة في الموقف من انضمام أعضاء جدد. نلاحظ أن الصين كانت تؤيد التوسيع منذ البداية، فيما كانت الهند، التي ترى في الصين شريكا ومنافسا في الوقت ذاته، تظهر بصورة المتحفظ. كانت الهند تتخوف من أن تطوي الصين، التي تعد أهم اقتصاد في المجموعة، الدول الجديدة تحت جناحها، وأن تعمل معهم بشكل يجعل «بريكس» تتحول لمنظمة صينية. روسيا، الواقعة تحت طائلة عقوبات قاسية من قبل المعسكر الغربي المنافس، التي تستفيد من وجود الشراكة مع دول «بريكس» في الالتفاف على تلك العقوبات، وإيجاد طرق للتنفس الاقتصادي، كانت أيضاً من ضمن المتحمسين لزيادة الدول الأعضاء، ربما كانت موسكو ترى في سحب مزيد من الدول باتجاه المجموعة زيادة في مساحة حركتها وإضعافاً للمحور الأمريكي، الذي يدخل معها في حالة من الشد والجذب. بالفعل، كان بالإمكان ملاحظة الدور، الذي لعبته المجموعة عقب اندلاع الحرب الأوكرانية، حيث ظلت تنأى بنفسها عن مشاريع العقوبات الدولية، ما قلل من فعالية تلك العقوبات. ما أعلن في نهاية القمة من توجيه دعوة لكل من الأرجنتين ومصر وإثيوبيا وإيران والسعودية والإمارات لنيل العضوية الكاملة، يعني أنه تم تجاوز المخاوف والوصول لحد أدنى من التفاهمات حول اختيار الدول المؤهلة لدخول النادي الصاعد، والذي سيصبح، ابتداء من دخول العضوية حيز التنفيذ، متنوعاً أكثر من أي وقت مضى. لم يتم إيضاح المعايير المؤهلة، التي جعلت دولاً تنضم دون غيرها وهو السؤال، الذي كان يدور في ذهن كثير من المتابعين. مع ذلك يبدو من السهل أن نلاحظ اشتراك الدول الست الجديدة في تمتعها بعلاقة طيبة مع الجميع، بما في ذلك الهند، التي كان دعمها مهما. يمكن أن نلاحظ أيضاً استبعاد دول العمق الآسيوي، التي كان بإمكانها أن تقسم المجموعة لفريقين، وكذلك الدول الافريقية، التي كان بإمكانها سحب الأضواء من جنوب افريقيا. المهم هو أن القالب المتنوع الجديد للمجموعة، الذي يجمع بين دول مطاردة من قبل «المجتمع الدولي» وأخرى شريكة أو حليفة للولايات المتحدة، سيطرح سؤالًا مهماً حول كيفية إدارة هذا التنوع في المستقبل بشكل يسمح بالحفاظ على الصوت الجماعي الواحد. لا نعلم حتى اليوم ماذا سيكون مصير الدول الأخرى، التي أبدت رغبتها في الانضمام، والتي لا يمكن إنكار أهمية كثير منها من الناحية الاقتصادية، أما مشروع العملة الموحدة لدول المجموعة، فيظهر وكأنه لم يفارق بعد عتبة الحلم. موضوع العملة الموحدة، على الرغم من أنه كان محل تبشير من كثيرين، إلا أنه لم يدرج على أجندة القمة. في المقابل تم التباحث حول إمكانية تشجيع التعامل بخيارات أخرى غير الدولار الأمريكي، كالعملات المحلية أو الرقمية، وهو الأمر الذي حققت فيه الدول المؤسسة بالفعل بعض النجاح.
كاتب سوداني